كيف يَزيد "حَجْر" الأغنياء حاجَةَ الفقراء؟

التوجه الواسع نحو الرقمنة، يتيح إمكانية إتمام الأعمال بالكامل عن بُعد، ويقلل ضرورة سفريات الأعمال
التوجه الواسع نحو الرقمنة، يتيح إمكانية إتمام الأعمال بالكامل عن بُعد، ويقلل ضرورة سفريات الأعمال المصدر: بلومبرغ
المصدر: بلومبرغ
تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

أعمال كثيرة تقوم برُمّتها على "تدليل" الأثرياء والاعتناء بهم، فسواء كانوا في مكاتبهم أو على الطريق، يطالب الأثرياء دومًا بالرفاهية، بدءًا من إطعامهم واستقبالهم، والحفاظ على سلامتهم في محيط نظيف، وتوفير الرعاية والترفيه لهم، إلى غير ذلك من الخدمات التي تحافظ على نمط حياتهم الفاخر.

في الولايات المتحدة يقدّم واحد من بين كل أربعة موظفين هذا النوع من الخدمات الشخصية، وهذا ما عمّق تأثير عمليات الإغلاق بسبب "كوفيد-19" وجعلها مدمّرة على الأعمال، خصوصًا أنّ عديدًا من هذه الوظائف لن يعود أبدًا، حتى في حال تمكّنت اللقاحات والعلاجات من ترويض الوباء فمن المرجَّح أنّ الطبقات الأكثر ثراء ستستمرّ بإدارة أعمالها من المنزل بشكل أكبر، وتسافر بصورة أقلّ بكثير.

التوجه الواسع نحو الرقمنة، الذي يتيح إمكانية إتمام الأعمال بالكامل عن بُعد، ويقلل ضرورة سفريات الأعمال، شكَّل موجة تسونامي من العواقب الاقتصادية التي تضرب في كل مكان. فمنذ بدء عمليات الإغلاق في جميع أنحاء العالم، قفز مجال تطوير الخدمات الرقمية بشكل سريع ومذهل لتغطي كل شيء، بدءًا من الرعاية الصحية، وصولًا إلى توصيل الطعام والطلبات للمنازل. ويمكن القول إنّ عشرة أعوام من التقدم المستقبلي المتوقع في هذه المجالات اختُصِر في شهرين أو ثلاثة أشهر.

في سياق الأبعاد التاريخية، يشكِّل التطور السريع لهذه التوجهات الجديدة مجتمعة، صدمة في عمق القوى العاملة على مستوى العالم. فقديمًا، وخلال العصور الوسطى، قتل الطاعون في أوروبا عددًا هائلًا من عمّال الأراضي الزراعية، ما أدّى إلى ارتفاع سعر العمالة وانهيار قيمة الأراضي. هذه التبعات غير المقصودة للطاعون أدّت إلى تسريع نهاية الإقطاعية والإطاحة برؤوسها في إنجلترا.


"كوفيد-19" من جهة أخرى سيحمل تأثيرات معاكسة تمامًا، إذ يتوقع عديد من الاقتصاديين أن يؤدي الوباء الذي نعايشه إلى خلق فائض في العمالة غير الماهرة، وبالتالي خفض تكلفتها، مع تركيز الثروة في أيدي أغنياء العصر الحديث وهُم عمالقة التكنولوجيا الذين يتحكمون في العالم الرقمي. فعلى سبيل المثال، أضاف أغنى أقطاب الهند، موكيش أمباني، 22 مليار دولار إلى ثروته هذا العام بعدما حوّلت مجموعته "Reliance Industries" تركيزها إلى التجارة الإلكترونية.

في غضون ذلك، أصبحت شركة "آبل" (Apple) أوّل شركة أمريكية تحقق تقييمًا بقيمة تريليونَي دولار، على الرغم من ارتفاع معدّل البطالة في الولايات المتحدة إلى أعلى مستوى له منذ "الكساد الكبير".

على المدى الطويل، من المرجَّح أن تعزز الرقمنة من إنتاجيتنا وتفيد المجتمعات بشكل عامّ، لكن هذا لا ينفي أننا نواجه هنا الآن مشكلة، إذ أصبحت الكاميرات بين عشية وضحاها تحلّ مكان حُرّاس الأمن، والطائرات دون طيار تتولى القيادة والتوصيل بدلًا من سائقي توصيل الطلبات، والروبوتات تأخذ وظائف عمّال التنظيف لتثبت مهاراتها في تلميع الأرضيات وغسيل النوافذ.

يُشيد المستثمر كاي فو لي بما يسميه "قفزة الروبوتات الكبيرة إلى المستقبل" التي تحدث حاليًّا في الصين، إذ تعمل كبرى الشركات على تعزيز السلامة والأمان وخفض التكلفة عن طريق تنحية عامل "التلامس البشري" من عملياتها. وكما يحدث في الصين، يحدث في بقية العالم.

ويضيف كاي فو لي بكل ثقة أنّ التحول نحو الرقمنة سيوفر وظائف جديدة لبناء وصيانة البنية التحتية الرقمية مثل شبكات الجيل الخامس والروبوتات وجمع البيانات اللازمة والضرورية لتحسين مهارات الذكاء الاصطناعي. ومع ذلك، لم تُقدَّم أيّ إجابة أو خطة توضح كيفية تدريب وتأهيل العمالة المفتقرة إلى المهارات اللازمة لهذه المهامّ.

وفي سياق الموضوع يكتب ديكستر روبرتس، المراسل السابق لـدى Bloomberg Businessweek، ويقول إنّ أقلّ من رُبع الشباب فقط في المناطق الريفية في الصين قد أنهوا دراستهم الثانوية، وهُم يشكّلون المجموعة الرئيسية للعمالة غير الماهرة.

التغييرات كلها تشير إلى حاجة الموظفين في جميع أنحاء العالم إلى توجهات وعقود جديدة. فحتى قبل اجتياح فيروس "كوفيد-19" كان من الواضح أن "العقد الاجتماعي" في أمريكا أصبح في حالة سيئة، مع تفاقم غياب المساواة واستحواذ الشركات على الحصة الأكبر من الدخل القومي على حساب صغار الموظفين. وعلى الرغم من أن سوق العمل كانت مزدهرة لفترة، فإنّ الفرص طويلة المدى للموظفين، التي تسمح بتطورهم، كانت تتضاءل. فمعظم الوظائف الجديدة كانت أقل جودة وغالبًا تكون تعاقدات بساعات أقلّ وأجور منخفضة، ليتضح أنّ الوظائف القائمة على "تدليل" وترفيه الفئة الغنية لا توفر مهنًا مستقرّة وذات مستقبل.

في ظل ذلك فإنّ العوامل المطلوبة للمُضيّ قُدمًا وتحسين الأمور في أسواق العمل واضحة، وكما يقترح ديفيد أوتور، الاقتصادي في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، فإنّ لدينا عددًا من الحلول، لعل أبرزها تمديد التأمين ضد البطالة بشكل دائم للعاملين بشكل حُرّ (المستقلّين) وغيرهم ممن لم يكونوا مؤهَّلين في السابق، والاستثمار لرفع مهارات أولئك الذين أصبحت وظائفهم زائدة عن الحاجة، وأيضًا تعزيز البنية التحتية.


في الأوساط السياسية، تعود فكرة توفير "الدخل الأساسي العالمي" لجميع المواطنين بقوة. وكان أندرو يانغ، المرشح الرئاسي السابق للانتخابات الأمريكية هذا العام، قد تعهد بصرف 1000 دولار شهريًّا لجميع المواطنين الأمريكيين الذين تزيد أعمارهم على 18 عامًا، وأطلق عليها "حصة الحرية".

في ورقة بحثية لكل من المستشار الاقتصادي السابق لإدارة أوباما، لورانس سمرز، وهو الآن أستاذ في جامعة هارفارد، وآنا ستانسبيري المرشحة لنَيْل شهادة الدكتوراه من نفس الجامعة، يقولان إنّ المشكلة الأساسية تكمُن في أن الموظفين يفتقرون إلى السلطة للحصول على حصة من أرباح الشركات، ما يترك نصيب الأسد لأصحاب رأس المال. ويكتب الباحثان: "بشكل عامّ، نعتقد أنّ زيادة سلطة الموظفين والعمّال يجب أن تشكل أولوية عاجلة ومحورية لواضعي السياسات المعنيين بعدم المساواة، والأجور المنخفضة، وظروف العمل السيئة".

وفي منتداها السنوي، وضعت Bloomberg New Economy الموظفين كموضوع [1] محوريّ لمنتدى هذا العام المقرر عقده في نوفمبر، إذ بينما يواجه الاقتصاد العالمي أشدّ انكماش له منذ عام 1870، وفقًا للبنك الدولي، يعتمد جزء كبير من تحقيق التعافي على مدى رعاية المجتمعات للموظفين الذين يكسبون رزقهم من خلال رعاية أولئك الأكثر ثراءً منهم.



Andrew Browne

@abrownepek

Editorial Director, Bloomberg New Economy