سنغافورة المستقبل أصغر حجماً وأكثر ثراءً.. فما القصة؟

تراجع معدل الخصوبة بشكل كبير في سنغافورة بعد سنوات من اتباع سياسات تنظيم الأسرة
تراجع معدل الخصوبة بشكل كبير في سنغافورة بعد سنوات من اتباع سياسات تنظيم الأسرة المصدر: بلومبرغ
Daniel Moss
Daniel Moss

Daniel Moss is a Bloomberg Opinion columnist covering Asian economies. Previously he was executive editor of Bloomberg News for global economics, and has led teams in Asia, Europe and North America.

تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

في ملصق حكومي يعود تاريخه إلى أوائل السبعينيات، تقف أم شابة سنغافورية في منزل تتناثر فيه الملابس وتحمل رضيعا يبكي، ولديها صغير آخر يصرخ باكياً على الأرض، بينما يقف زوجها في المدخل مستنكراً ومشمئزاً من المنزل الفوضوي.

وهناك فقاعة من الأفكار تظهر فوق رأس المرأة، تقول خلالها: "لو لم أتزوج مبكراً". وكانت الرسالة جزءاً من حملة لتثبيط حفلات الزفاف في سن المراهقة والعائلات كبيرة الحجم.

وعندما استقلت سنغافورة عام 1965، كان لدى الأم العادية أربعة أطفال على الأقل. وكان خفض معدل المواليد أمراً حيوياً للقضاء على الفقر، وتعزيز التعليم والرعاية الصحية، ونقل الكثير من السكان من المحلات التجارية المزدحمة إلى مساكن عامة بأسعار معقولة- وهي المبادئ الأساسية التي ترتكز عليها رؤية رئيس الوزراء لي كوان يو للدولة المدينة. فتلك المبادئ كانت ترى أن استمرارية الحياة تتوقف على تنظيم الأسرة.

تراجع معدل الخصوبة

وبعد نصف قرن، اختلفت سنغافورة اختلافاً كبيراً. بعد انخفاض مطرد لسنوات، انخفض معدل الخصوبة الكلي للمرأة على مدار حياتها إلى مستوى قياسي بلغ 1.1 طفل لكل امرأة في عام 2020، بحسب الأرقام الرسمية، مع العلم أن معدل 2.1 طفل لكل امرأة يعتبر شرطاً للحفاظ على استقرار الكثافة السكانية.

وتقدم الحكومة الآن نظام مكافآت للآباء المؤهلين لتربية الأطفال تصل قيمتها إلى 10 آلاف دولار سنغافوري (7430 دولاراً أمريكياً)، كما أن هناك دعماً كبيراً مقدماً للعلاج بالتكنولوجيا المساعدة على الإنجاب. وفي أواخر العام الماضي، تنبأ نائب رئيس الوزراء هنغ سوي كيت بتقديم حوافز إضافية.

ويمكن تفسير انشغال الحكومة الأخير بتربية وتنشئة الأطفال على أنه محاولة لمعالجة تصحيح مفرط سابق، كما أنه يرتكز على فرضية مفادها أن وجود كثافة سكانية أكبر من شأنه تعزيز النمو. لكن وجهة النظر هذه تتخطى حتمية معينة، فقد كان من المفترض أن يتلاشى نجم سنغافورة الاقتصادي قبل فترة طويلة من ظهور تحدياتها الديموغرافية.

الاعتماد على المهاجرين

وفي مقال نشر عام 1994 في مجلة "فورين أفيرز"، أشار الاقتصادي بول كروغمان إلى أن اقتصاديات نمور شرقي آسيا كانت تستفيد من طفرة نادرة في القوة العاملة والاستثمار، التي سوف تتبدد في نهاية المطاف.

وفي سنغافورة، تضاعف دخل الفرد تقريباً كل عقد زمني بين عامي 1966 و1990، وارتفع الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 8.5% سنوياً، وفقاً لكروغمان. كما سجلت نسبة السكان العاملين وعدد الأشخاص الذين تلقوا تعليماً ثانوياً ارتفاعاً كبيراً.

وكتب كروغمان: "حتى بدون الخوض في الممارسة الرسمية لحساب النمو، فإن هذه الأرقام بحاجة لإيضاح أن نمو سنغافورة يستند بشكل كبير على تغييرات المرة الواحدة في السلوك التي لا يمكن تكرارها".

وقد واجهت الطريقة الأكثر وضوحاً للتخفيف من هذا التدهور- أي المزيد من الهجرة- مقاومة دورية. وعلى مر التاريخ، احتضنت البلاد العمال القادمين من الخارج، الذين يتمتعون بمهارات معينة تتطلبها الشركات متعددة الجنسيات أو يؤدون المهام التي لا تثير اهتمام السكان المحليين. وجدير بالذكر أن جزءاً كبيراً من الأجانب يعملون في البناء وصناعات الأغذية والمشروبات.

وفي ظل التباطؤ الاقتصادي الناتج عن تفشي وباء "كوفيد-19"، شدد الوزراء على ضرورة أن يحافظ أرباب العمل على "جوهر سنغافورة". وقد ازداد هذا الاهتمام بالحساسيات المحلية منذ الانتخابات العامة السنغافورة التي انعقدت في يوليو، عندما حصلت الأحزاب المعارضة على مقاعد في البرلمان.

ويمكنك المجادلة بأن هذا الأمر كان دائماً ما يشكل مصدر قلق خفي. فقد كتب لي في كتابه "وجهة نظر رجل واحد للعالم"(One Man's View of the World)، الذي نُشر في عام 2013: "لدى السنغافوريين تحفظات قوية بشأن قبول المهاجرين، لكننا توصلنا إلى هذا الخيار تقريباً عبر استبعاد كافة الاحتمالات الأخرى".

وتابع: "هل نواجه الواقع ونقبل ضرورة وجود بعض المهاجرين، أم نسمح ببساطة لسنغافورة بالانكماش اقتصادياً والشيخوخة وفقدان الحيوية؟".

النموذج الياباني

ومع ذلك، فإن التحديات الديموغرافية لا تعني بالضرورة مواجهة صعوبات اقتصادية، فسكان اليابان يتقلصون ويتقدمون في السن في آن واحد. وبرغم أن الصورة الكاريكاتورية للبلاد تشير إلى فشل اقتصادي في قبضة الانهيار النهائي، إلا أن الحياة تستمر. ورغم أن نمو الناتج المحلي الإجمالي كان ضعيفاً إلى حد ما في العقود القليلة الماضية، لكن نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي صمد على نحو جيد.

وتواصل الشركات الاستثمار، وقبل تفشي الوباء، بدأت اليابان في تبني فكرة استقدام المهاجرين بشكل مؤقت كجزء من حل ضروري لمواجهة التراجع السكاني، كما كتبت قبل ذلك.

وعلاوة على ذلك، فإن معدل البطالة منخفض- فقد كان 2.2% تقريباً قبل الوباء- وحتى الدمار الذي خلفه الوباء لم يدفعه إلى مستوى أعلى بكثير من 3%. كما أن طوكيو كانت بها وظائف متعددة لكل متقدم قبل تفشي الوباء.

الروبوتات

وهناك أيضاً أمل في زيادة استخدام الروبوتات والأتمتة. فقد كانت الروبوتات أكثر بروزاً في جميع أنحاء سنغافورة خلال العام الماضي بداية من كلب ميكانيكي يُدعى "سبوت" ويحرس حديقة شعبية لضمان تطبيق التباعد الاجتماعي، إلى صانع باريستا آلي والآلات اللطيفة الأخرى التي تساعد في تنظيف مراكز الباعة المتجولين.

لكن لم يتضح بعد ما إذا كانت الدولة ستتجه لنشر الروبوتات بشكل كبير في أي وقت قريب، وذلك بسبب القيم الممنوحة الآن للتناغم الاجتماعي وحماية الوظائف.

وفي إشارة إلى كل من التطلعات التكنولوجية والقيود المفروضة على سوق العمل، أعلن المسؤولون في نوفمبر عن فئة جديدة من التأشيرات للأشخاص الذين لديهم سجل حافل في هذا المجال.

ولعقود من الزمان، كانت استراتيجية سنغافورة تسوق نفسها كجزيرة عالمية من العالم الأول تتسم بالكفاءة والتنظيم الجيد والحفاظ عليها بشكل رائع، فهي مكان من شأنه أن يبرز في منطقة تشتهر بمعدلات النمو المرتفعة للغاية، لكن بنيتها التحتية مجهدة وبها تقلبات سياسية.

لقد شعرت أجيال من الزوار بذهول من سهولة استخدام المطار والطرق ومرافق الموانئ، كما اختار الكثيرون وضع جذور لأعمالهم التجارية هنا.

وإلى حد كبير، تعتبر الأسر صغيرة الحجم نتيجة ثانوية لكل هذا الازدهار. على عكس ملصق الأسرة الصادر في حقبة السبعينيات، يميل كل الوالدين إلى العمل في الأيام الحالية، وأصبح السكان المحليون يشكون من الإجهاد، والروح الوطنية التي تؤكد على التقدم المهني، والضغط من أجل إلحاق أطفالهم بمدارس ثانوية جيدة وجامعة سنغافورة الوطنية. ويوجد في كل زاوية شارع تقريباً مشروع تجاري يقدم دروساً لامنهجية في الرياضيات والعلوم واللغة الإنجليزية.

"الأم النمر"

وقالت آنو، ذات الـ 40 عاماً والتي تعمل في مجال العلاقات العامة ولديها طفل واحد: "إن مفهوم الأم النمر منتشر بشكل كبير هنا"، معربة عن شعورها بالأسى لحالة القلق التي عادة ما يواجهها الآباء والأطفال.

ولتحقيق فهم محدث حول الاختلافات الأسرية الحديث، هناك ممارسة فائدتها كبيرة وهي التخييم في مركز التسوق فوروم (Forum mall) على طريق أورشارد، وهو أحد أكثر الشوارع شهرة في البلاد.

وبعد ظهر يوم الأحد، يمكنك الانضمام إلى حشود العائلات التي تتنقل بطفل أو طفلين بين دروس الباليه والموسيقى والتايكوندو وصالة الألعاب الرياضية، في ظل محاولة تجنب محلات الآيس كريم النباتية ومتجر "تويز آر أص" (Toys "R" Us) في الطابق الثالث.

وقد يشعر الشعب السنغافوري بالرضا عن وجود عدد أقل من الأطفال، لكنهم بالتأكيد مستعدون لإنفاق الكثير عليهم. إذاً مرحباً بكم بالمستقبل في سنغافورة الأصغر حجماً والأكثر ثراءً.