"هونغ كونغ" تسعى لاستعادة التوظيف بقطاع التصنيع

مصانع بجزيرة هونغ كونغ
مصانع بجزيرة هونغ كونغ المصدر: بلومبرغ
المصدر: بلومبرغ
تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

بعد عقود من فقدان هونغ كونغ لعدد كبير من فرص العمل في مجال الصناعات الإلكترونية لصالح دول أخرى تنخفض فيها نفقات الإنتاج مثل الصين وجنوب شرق آسيا، اختار رجل الأعمال "روبرتو ليون"، على نحو غير متوقع، هذه المدينة التي تعد واحدة من أغلى المدن في العالم لتكون مقرًا لأحدث مشاريعه الصناعية، وهو شركة "نيروتيك ليمتد" التي شارك في تأسيسها. يقع مقر الشركة في ضاحية يوين لونج القريبة من الحدود مع الصين، وبدأت نشاطها في ديسمبر من العام الماضي، وتنتج شهريًا 30 ألف جهاز لاتصال الفيديو الداخلي أو ما يُعرف بـ"انتركوم".

أصبحت مثل هذه المصانع شيئًا نادرًا في هونغ كونغ التي تعرضت لواحدة من أكبر الموجات التي عرفها العالم من نزوح الصناعات إلى دول أخرى. ومن جراء هذه الموجة انخفضت مساهمة الصناعة في اقتصاد هذه الجزيرة من 30% في سبعينيات القرن الماضي إلى 1% فقط حاليًا. والآن وبعد عقود من تحول الجزيرة لمجرد مكتب أمامي للصين وتركيزها على صناعة الخدمات المالية وخدمات رجال الأعمال، بدأت حكومتها في ضخ مليارات الدولارات في شكل دعم لجذب الشركات الصناعية لإعادة مصانعها إلى الجزيرة من جديد. والهدف من وراء ذلك بعث الدماء في شرايين اقتصادها الذي يعاني الركود حتى من قبل أزمة كورونا. كما تهدف حكومتها أيضًا إلى المساعدة على توفير فرص عمل بأجور مجزية للشباب الذين ينتشر السخط بينهم بسبب قلة فرص العمل ما ساهم في إذكاء مظاهرات تطالب بالديمقراطية تشهدها الجزيرة منذ عدة أعوام.

ضربات كورونا

تعرض اقتصاد الجزيرة إلى ضربات قاسية بسبب القيود التي فرضتها سلطاتها على السفر لمواجهة أزمة كورونا. وحالت هذه القيود دون زيارات كان عشرات الملايين من أبناء الصين والأجانب يقومون بها كل عام وينفقون بسخاء في مطاعمها وفنادقها ومتاجرها. ونجحت الجزيرة بالفعل في الحد من انتشار فيروس كورونا لكن ناتجها القومي أو المحلي انخفض في 2020 بنسبة 6,1% بالمقارنة بعام 2019. بينما تأثرت الأنشطة غير التصنيعية – وفي مقدمتها صناعة الخدمات المالية – بدرجة أقل. لكنها في الوقت نفسه لم توفر فرص عمل كافية بأجور مجزية سوى لفئة محدودة ممن تلقوا مستوى كبيرًا من التعليم العالي. ويقول "هيواى تانج "، أستاذ الاقتصاد في جامعة هونغ كونغ، إن صناعة الخدمات المالية لم تكن كافية للتعامل مع مشكلة غياب المساواة في فرص التوظف. بينما توفر الصناعة فرص عمل جيدة وتكون هناك فرص طيبة لزيادتها.

وكان من شأن أزمة كورونا أن سلطت الأضواء على أهمية وجود قطاع تصنيعي قوي. فعلى مستوى العالم تعافت القطاعات التصنيعية بشكلٍ سريع من انعكاسات الأزمة السلبية، لكن قطاع الخدمات سيحتاج إلى وقتٍ طويل للتعافي لأن عملاءه يفضلون البقاء في بيوتهم. وبدأت الحكومات في الولايات المتحدة في إطلاق وعود لمواطنيها لإنهاء عقود من هجرة المصانع منها إلى دول أخرى بحثًا عن عمالة ذات أجور أقل أو مزايا أخرى بما قضى على صناعات كانت تزدهر في تلك الدول. وكانت في الوقت نفسه تتعهد بتشجيع الصناعات الناشئة مثل مشاريع الطاقة النظيفة. وأدى التقدم في تكنولوجيا الأتمتة إلى خفض تكاليف الإنتاج في تلك الدول مما جعل الشركات فيها تتوقف عن التفكير في نقل مصانعها إلى دول تقل فيها تكاليف الإنتاج وأجور العمالة.

وفي وجود حدٍ أدنى للأجور تفرضه قوانين العمل في هونغ كونغ يصل إلى ضعف الحد الأدنى المطبق في الدول المحيطة بها، لجأت شركة "نيروتيك" إلى تقنيات عديدة تقلل الحاجة إلى العنصر البشري مثل ماكينة ألمانية تقوم بلحام المكونات الإلكترونية في لوحات للدوائر مستوردة من فيتنام. كما يلصق ذراع الإنسان الآلي الشاشات الإلكترونية والمجسات الحساسة للمس في كل جهاز انتركوم. بينما ينفذ عشرة عمال أو نحو ذلك مهام مختلفة مثل القطع والاختبار. ويبلغ عدد العمال في مصنع هونغ كونغ فقط خُمس عددهم في مصنع مماثل في الصين.

وإذا ما أريد لقطاع الصناعة في هونغ كونغ أن يكون له مستقبل، فإنه سوف يعتمد بشكل أساسي على المصانع الصغيرة على غرار "نيروتيك". ولن يكون ذلك بالأمر الجديد عليها بل سيكون في الحقيقة تكرارًا لتاريخ دخول الصناعة إلى الجزيرة الذي بدأ بمصانع صغيرة هربت إليها من الثورة الشيوعية الصينية.

التاريخ الصناعي

ساهمت الحرب في كوريا وفيتنام في دعم صادرات الجزيرة من المنسوجات حيث قامت مصانع النسيج المحلية بإمداد الجيش الأمريكي بالأقمشة اللازمة لملابس الجنود. وبحلول حقبة الستينيات كان في الجزيرة الألوف من المصانع الصغيرة التي تعمل بها 40% من القوى العاملة بالجزيرة. وكانت تلك المصانع تنتج مجموعة متنوعة من المنتجات تشمل المنسوجات والأحذية والسلع الاستهلاكية الرخيصة مثل لعب الأطفال البلاستيكية والشعر المستعار والزهور الصناعية. وأدى ذلك إلى ظهور طبقة من رجال الأعمال الناجحين مثل "لى كا شنج".

ويقول "بيتر هاملتون"، مؤلف كتاب "صنع في هونغج كونغ" الذي يتناول تطور الصناعة في الجزيرة، إن المدخل للنهضة الصناعية التي شهدتها الجزيرة يتلخص في "التكلفة المنخفضة والمدى القصير". فيمكن أن نجد المصنع الواحد ينتج يومًا ما حُليات الأحزمة وفي اليوم التالي ينتج مكونات السيارات.

وتحول المصنعون في هونغ كونغ إلى الصين اعتبارًا من التسعينيات، بحثا عن خفض تكاليف الإنتاج. ويقدر اتحاد الصناعات بالجزيرة أن الشركات المملوكة لرجال أعمال من هونغ كونغ أنتجت في الصين سلعًا بلغت قيمتها 500 مليار (دولار هونغ كونغ) في 2018 تعادل 18% من الناتج القومي للجزيرة في ذلك العام.

وعلى العكس من اقتصاديات النمور الآسيوية التي كانت تهتم بالتصدير، وسعت حكوماتها بصورة نشطة إلى إنشاء مراكز للصناعات الإلكترونية، لم تحاول الحكومات في عهد الحكم البريطاني تقديم دعم يذكر للقطاع الصناعي في الجزيرة مما جعل تايوان ومن بعدها الصين الشعبية تتفوقان عليها رغم إمكانياتها المبشرة.

دعم الصناعة

اختلف الأمر اليوم؛ ذلك أن الشركات الصناعية التي تقيم مشروعات في الجزيرة يمكن أن تحصل على دعم يصل إلى 34 مليارًا من دولارات هونغ كونغ (4,4 مليار دولار أمريكي) من خلال صندوق الابتكار والتكنولوجيا الذي نشأ في العام 2015. وبناء على لوائح الصندوق سوف تحصل "نيروتيك" على حافز نقدي قدره 40% من 12 مليونًا من دولارات هونج كونج التي استثمرتها في الجزيرة. ويقول "محمد بوت" المدير التنفيذي لمجلس الإنتاجية التابع لحكومة الجزيرة إنها لا ترحب بأي استثمارات على إطلاقها بل لا بد أن تكون ذات تقنية عالية لا تستخدم قدرًا كبيرًا من العمالة أو الأرض.

وحتى تتكامل الخطة كان التحول السريع إلى قطاع التصنيع في الجزيرة مصحوبًا بخطط تدعمها حكومتها لتطوير التعليم وتدريب العمال مما ساعد على تقليل حجم البطالة. والمعروف أن جامعات هونج كونج تعد من أفضل الجامعات في آسيا، إلا أن مستوى الدراسة فيها لا يدعم الصناعات التقنية المتطورة. وهنا يصبح من الضروري إصلاح هذا الوضع من أجل إصلاح القطاع الصناعي.

وهذا مايحدث بالفعل. إذ نجد شركة نانو شيلد – وهي فرع من شركة لإنتاج الأدوات المنزلية ونقلت عملياتها التصنيعية إلى الصين في التسعينيات- تعمل حاليًا بالتعاون مع الباحثين في إحدى الجامعات المحلية في الجزيرة التي طورت مادة كيميائية يمكن إضافتها إلى الألياف المستخدمة في مرشحات المياه وأقنعة الوجوه. وكانت "نانوشيلد" أطلقت في العام 2019 أول مشروع استثماري لها في الجزيرة منذ عدة عقود. وشمل المشروع إقامة ماكينة بتكلفة 20 مليون دولار من دولارات هونج كونج على مساحة تصل إلى حجم نصف ملعب تنس. وهذه الماكينة قادرة على كهربة السائل الذي طورته الجامعة لتحويله إلى ألياف تكفي لإنتاج مليوني مرشح للمياه سنويًا. وقد تعرض المشروع للتوقف عدة مرات بسبب المظاهرات المطالبة بالديمقراطية. وتنوي الشركة إضافة ثلاث ماكينات أخرى. وسوف يوفر المشروع 50 فرصة عمل. ويقول" ادران وونج" مدير البحوث والتطوير بالشركة إن حكومة الجزيرة سوف تغطي 50 مليون دولار من إجمالي تكلفته التي تصل إلى 50 مليونًا.

وتعد نظم حماية الملكية الفكرية بالجزيرة التي تتسم بالقوة مدخلًا رئيسيًا يدفع رجال الأعمال إلى إنتاج سلعهم محليًا بدلًا من اللجوء إلى الصين. ويقول وونج إن أضرارًا جسيمة غير قابلة للإصلاح يمكن أن تلحق بالشركة إذا ما ضعفت تلك النظم.

وترى حكومة هونغ كونغ أن إعادة توطين الصناعة في الجزيرة تعد عاملًا مساعدًا لزيادة إنفاقها على بند البحوث والتطوير لمنتجات جديدة إلى 1,5% من الناتج المحلي بحلول 2022.

ويعد الركن الأساسي في هذا التطوير "المركز المتطور للتصنيع" وهو منشأة أقيمت على مساحة 1,1 مليون قدم مربع وتبدأ نشاطها اعتبارًا من العام المقبل لتخفيف أزمة النقص الحاد في المساحات اللازمة للشركات الناشئة.

ويقول "اتش ال يو"، مدير إعادة توطين الصناعة في "مركز هونج كونج للعلوم والتكنولوجيا" المملوك لحكومة الجزيرة، إن المجال بات مفتوحًا ليتم التصنيع على أرض هونج كونج بدلًا من البحث عن بدائل أخرى.

ويقول "تانج" إنه ينبغي على حكومة الجزيرة أن تمضي بحماس أكبر في هذه الخطة وأن تضع نصب عينها زيادة مساهمة الصناعة في الناتج المحلي للجزيرة إلى 10% خلال عقد من الزمان.

وأضاف أنه يعتبر حاكم الجزيرة "كاري لام" مسؤولًا بشكل مباشر عن تحقيق هذا الهدف على مدار خمس أو عشر سنوات مقبلة.