كيف غيّر الوباء مدينة أمسترادم الهولندية؟

معركة أمستردام مع الطاعون كانت أكثر فتكاً من أي شيء تسبب به فيروس كورونا حتى الآن
معركة أمستردام مع الطاعون كانت أكثر فتكاً من أي شيء تسبب به فيروس كورونا حتى الآن رسم تصويري: بلومبرغ
المصدر: بلومبرغ
تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

عانت مدينة أمستردام لمدة عامين في منتصف القرن السابع عشر من صدمة قد تبدو مألوفة لنا حالياً. حيث دمّر وباء الطاعون الدبلي القاتل المدينة الهولندية الشهيرة.

وعندما بدأت المقابر في المناطق الفقيرة بها تمتلئ، بات على الأثرياء التفرّق في منازلهم الريفية. إذ كان على أولئك الذين نجوا بحياتهم، بذل قصارى جهدهم للحفاظ على صحتهم من خلال التباعد الاجتماعي.

وتم منع المرضى من دخول الأسواق والنُزل والكنائس، بينما حذَّرت المنازل المصابة الناس، من خلال حزمة من القش مربوطة بثلاثة شرائط، يتم تعليقها خارج أبوابها.

وربما ساعدت هذه الإجراءات على تقليل انتشار المرض، لكنها لم تكن كافية لوقف الطاعون الذي أودى بحياة 24 ألف شخص من سكان أمستردام حينها، أي حوالي 10% من إجمالي سكانها. ومن حيث النسبة المئوية، كانت معركة أمستردام مع الطاعون أكثر فتكاً من أي شيء تسبب به فيروس كورونا حتى الآن.

لكن اليوم ونحن في القرن الحادي والعشرين، لا يزال دوي تجارب القرن السابع عشر يتردد في جوانب العديد من المدن. ويعيد للأذهان تاريخ ظهور مرض شديد العدوى يعيق الاقتصاد، ويسلط الضوء على عدم المساواة الاجتماعية، ويقيّد السفر، ويلزم المواطنين بالحد من التفاعل مع بعضهم البعض.

دراسة جديدة حول الأوبئة الماضية

ومع دخول بعض أجزاء العالم مؤقتاً في فترة التعافي من فيروس كورونا، فإن دراسة جديدة تبحث في عودة أمستردام بعد الوباء إلى الحياة الطبيعية، قد تنبئ أيضاً بما يمكن أن تتوقعه المدن المعاصرة في المستقبل القريب بعد انحسار الفيروس.

ومن خلال البحث في سوق الإسكان خلال القرن السابع عشر، وجدت الدراسة أن الأسعار قد انخفضت بالفعل بشكلٍ حاد مع تعثر الاقتصاد خلال أوقات تفشي الطاعون.

لكن مع انخفاض معدلات الوفيات، استقرت الأمور بسرعة مذهلة، تلتها فترة من الابتكار الحضري الذي كان له في النهاية آثار إيجابية.

وتبحث الدراسة، التي تدرس أيضاً التأثير الاقتصادي للكوليرا على باريس خلال القرن التاسع عشر، في الرؤية الخاصة بكيفية تأثّر المدن بالأوبئة تاريخياً. حيث تُظهر الدراسة أنه يمكن للمدن أن تزدهر بالفعل عقب مرورها بأزمات صحية خطيرة بدلاً من السقوط في فخ الكساد.

وتقترح الدراسة أن ذلك يرجع جزئياً إلى إمكانية إحداث الصدمة لتغييرات من شأنها خلق ظروفاً معيشية أفضل، تؤدي بدورها إلى الازدهار.

كيف استعادت أمستردام ازدهارها؟

تشير الدراسة، التي قام "مارك فرانك"، الباحث بكلية إدارة الأعمال بـ"جامعة أمستردام،" و"ماتيس كوريفار"، الباحث بكلية الاقتصاد بـ"جامعة إيراسموس" بالاشتراك في إعدادها، ونُشرت في مجلة الاقتصاد الحضري، إلى أن أمستردام استعادت بسرعة كثافتها السكانية واقتصادها السابقين لتفشي الوباء من خلال جذب المهاجرين.

ووفقاً للباحثين، يمكن تطبيق الدروس المستفادة من انتعاش هذه المدينة الرئيسية المتنامية بشكل أفضل، على المدن النامية والدول التي تشوبها التفاوتات المجتمعية الصارخة والدعم الحكومي المحدود بدلاً من هولندا المعاصرة.

وتذكر الدراسة أنه بينما توقفت أعمال البناء تماماً خلال أسوأ شهور الطاعون، وكذلك الكثير من الأنشطة الاقتصادية الأخرى، إلا أن تلك النشاطات استأنفت أعمالها بسرعة.

ولم تكن المدينة شاهداً على هذا الانتعاش فحسب، بل حفزته بنشاط باستخدام أداة قد تبدو حالياً واضحة للغاية بحيث لا يمكن ملاحظتها، ولكنها كانت مبتكرة في ذلك الوقت، حيث تشير سجلات المدينة إلى أن أمستردام سمحت، لأول مرة، لأصحاب العقارات بشراء قطع أراضي من دون استخدام قروض الدولة.

تحفيز السوق

وربما كانت المدينة حريصة على تحفيز السوق، لأنها مرت قبل تفشي الوباء بواحدة من أكثر التحولات طموحاً في تاريخها، حيث ازدهرت أمستردام كمركز تجاري عالمي بحلول ستينيات القرن السادس عشر. فشارك العديد من المواطنين في التجارة بحيث تم الاستعانة بما يصل إلى 50% من المساحة في منازل القناة المائية بالمدينة لتخزين البضائع لأغراض تجارية.

وعلى الرغم من أن الاقتصاد المزدهر يعني أن أمستردام بحاجة إلى مساحة أكبر للنمو، فإن العثور على هذه المساحة كان صعباً، نظراً لأن المدينة مبنية فوق أراضٍ رطبة في بقعة بحرية. ومن ثم، وقبل أن يكون أي بناء ممكناً، كانت الأرض الجديدة بحاجة إلى تجفيفها ورفعها أولاً، ثم تجهيزها بقاعدة من الدعائم الخشبية الضاربة بجذورها في التربة الرطبة لتوفير أساس قوي بما يكفي لتحمل وزن المنازل.

وعلاوة على ذلك، كانت الحروب المستمرة في تلك الفترة تعني أن أي أراضٍ جديدة يجب أن تكون محمية بأسوار قوية.

وبالتالي، فقد تطلب توسيع المدينة الكثير من التنسيق والتمويل، وهو ما حدث في أربع دفعات كبيرة من النشاط بين عامي 1585 و1663. وتم الانتهاء من التوسعة الأكبر للمدينة، والتي تطلبت 100 ألف دعامة خشبية لدعم جدرانها الجديدة وحدها، في العام الذي حل فيه الطاعون، وتم طرح الأراضي الجديدة للبيع في هذا العام أيضاً.

دروس متشابهة

ومن المحتمل أن يكون الطاعون قد وصل إلى أمستردام بالقارب (ثم انتشر عن طريق لدغات البراغيث التي تحملها الفئران). لكن سّكان أمستردام لم يعرفوا هذا في ذلك الوقت، واستندوا إلى "نظرية ميازما" المعروفة.

وتُرجع هذه النظرية المنتشرة منذ العصور القديمة، انتشار المرض من خلال الهواء الفاسد النتن، والذي يرتفع إما من مادة متعفنة أو من مناطق غير صحية بطبيعتها مثل المستنقعات.

وقد علّمت أوبئة الطاعون السابقة الناس أيضاً أن فصل الأشخاص عن بعضهم البعض يمكن أن يساعد في تقليل العدوى. وكان ذلك السبب في قيام إنجلترا، خلال ذروة الطاعون، بإجبار السفن الهولندية المتجهة إلى لندن على الالتزام بالحجر الصحي لمدة 30 يوماً في مكان نائي.

وعلى الرغم من أن الوباء كان شديداً، إلا أن محاولات العزل والخوف من الداء قد تكون بالفعل قد أنقذت الأرواح.

فمن منطلق ذلك العصر، أن أفضل طريقة لتجنب الروائح هي تجنب القرب، وغالباً ما تكون الأماكن ذات الرائحة الكريهة مليئة بالبكتيريا.

وفي حين أن التقيد بتلك الإجراءات وتنفيذها قد يكونا ضعيفين للغاية، فإن ما يلفت النظر حول إجراءات أمستردام، هو مدى شبهها بحالنا مع "كوفيد-19".

ويقول "إد كوهين"، مؤلف كتاب "جسد يستحق الدفاع عنه: المناعة والسياسة الحيوية وتأليه الجسد الحديث": "المفارقة هي أن أشكال الاحتواء التي نستخدمها اليوم هي نفسها التي استخدمناها في القرن السابع عشر"، ويضيف في مقابلة: "أقول مازحاً، أن الاختلاف الوحيد بين الوقت الحاضر والقرن السابع عشر هو معقم اليدين وتقنيات تتبع البيانات".

إنذار في السماء

وربما كان الخوف، الذي أعرب عنه سكان أمستردام من أن الكون نفسه كان يقدم تحذيرات بشأن مصيرهم ويستخدم المرض كأداة لمعاقبتهم، هو الاعتقاد الأقل شيوعاً مقارنة بعصرنا الحالي. فعندما ظهرت "كرة نارية" (ربما مذنب) فوق المدينة في شتاء عام 1664، فسرّها الناس على أنها علامة على شدة الوباء.

وكان هذا يتماشى مع الممارسات المعاصرة. ففي وقت سابق من القرن السابع عشر، تم اعتبار ظهور حوت على الشاطئ، وحتى بقاء طائر كبير بشكل استثنائي جاثماً طوال الليل على سطح كنيسة أمستردام، بمثابة نذير بأن الأزمات الماضية، والتي كانت تمثل شكلاً من أشكال الإنذار الإلهي.

وواقعياً، كان الطاعون يعني أيضاً أن المدينة طرحت قطع أراضيها الجديدة للبيع تماماً في نفس توقيت دخول الاقتصاد في حالة ركود ناجمة عن الوباء.

وللتأكد من بيع الأراضي بمجرد تحسن الصحة العامة، استخدمت المدينة أداة لم تجربها من قبل، ألا وهي الرهن العقاري.

في السابق، كان على مشتري أراضي المدينة دفع تكلفتها بالكامل مقدماً، وهو نظام يعمل لصالح نسبة ضئيلة فقط من المواطنين الذين كان لديهم بالفعل الموارد لشراء العقارات في ذلك الوقت.

ومن خلال السماح بالقروض لأول مرة، وسعّت المدينة مجموعتها من المشترين المحتملين إلى حد كبير، وإن كانت لا تزال تقصر الملكية على نخبة صغيرة.

وفي غضون 10 سنوات من الوباء، استقرت أسعار الأراضي، وبالفعل بدأت المباني الجديدة بالظهور في التوسعة الجديدة للمدينة.

في الوقت نفسه، ساعدت الهجرة على نطاق واسع في تغذية انتعاش الاقتصاد. ففي حين أن الفترة تفتقر إلى بيانات ثابتة بشأن الكثافة السكانية، إلا أن الإجماع التاريخي يقول بأن عدد سكان أمستردام ارتفع كل خمس سنوات خلال القرن السابع عشر، بما في ذلك تلك الفترات التي تغطي سنوات الطاعون.

الهجرة إلى المدن الكبرى

ووفقاً للمؤلف المشارك في الدراسة، كوريفار، لم تكن "عقوبة الموت" في المدينة كافية لردع المهاجرين عن الفرص الاقتصادية التي توفرها.

وقال في مقابلة: "كانت معدلات الوفيات في أمستردام دائماً أعلى من معدلات الخصوبة في تلك السنوات، لذا لا يمكن للمدينة أن تزدهر إلا من خلال الهجرة".

ولا ينبغي أن يؤخذ الاستقرار السريع الذي لوحظ في دراسة "فرانك وكوريفار" كدليل على أن الوباء لم يكن مؤلماً للمدينة، أو أن تعافي أمستردام كان بالضرورة قوياً للغاية. فقد انخفضت أسعار المنازل بشكل حاد لفترة قصيرة أثناء الطاعون، بينما انخفضت الإيجارات بمقدار أقل بكثير.

ويشير حدوث ذلك خلال فترة استأجر فيها معظم الناس منازلهم وتملّك القليل منهم، إلى أن السكان الذين كانوا يمرون بصدمة اقتصادية شديدة، وإن كانت مؤقتة، لم يكن لديهم القدرة على المساومة أو المرونة الكافية لتقليل تكاليف الإسكان.

ولكن كان هناك استثناءً واحداً، حيث أظهرت السجلات في ذلك الوقت أن إيجارات القصور تراجعت، لأن أثرياء أمستردام استفادوا من نمو المدينة للخروج من الإيجارات وبناء منازل جديدة على ضفاف قناة "هيرنجريشت" الجديدة وبالقرب منها، والتي لا تزال واحدة من أكثر المناطق تميزاً في المدينة حتى يومنا هذا.

سنة الكارثة

وفي غضون ذلك، تبين أن توسع أمستردام كان تجاوزاً بالنهاية. وبينما نجت المدينة من الوباء، كانت لا تزال متأثرة بما يسمى "سنة الكارثة" بعد أقل من عقد من الزمان، حيث غمرت الجمهورية الهولندية الأرض المحيطة بأمستردام بالمياه إبان غزوها من قبل فرنسا في عام 1672، مما جعلها موحلة للغاية بحيث لا يمكن السير فيها، فيما ظلت المياه ضحلة جداً بالنسبة للقوارب.

وقد أدى ذلك إلى حماية المدينة، ولكنه خنق اقتصادها، وأنهى طفرة البناء فيها. وأثرت الحرب كذلك على العصر الذهبي الهولندي. وفي ظل عدم وجود مشترين للأراضي الجديدة من داخل البلاد، ظلت أجزاء من الامتداد الأخير لأمستردام غير مبنية حتى أواخر القرن التاسع عشر.

ولكن حتى هذا التحول في الأحداث كان لصالح المدينة على المدى الطويل. وبسبب عدم تمكنها من العثور على مشترين للأراضي، استأجرت المدينة قطع أراضي في المنطقة الجديدة لمدة 20 عاماً، وحظرت المباني الدائمة على أمل أن تتمكن من بيع الأراضي بشكل أكثر ربحية في وقت لاحق. فكانت النتيجة أن أمستردام اكتسبت بعد فترة، حياً جديداً به المزيد من المساحات الخضراء والمساحات المفتوحة، ومليء بالبساتين التجارية وأماكن الترفيه بالإضافة إلى مقر حديقة نباتية جديدة.

وحتى يومنا هذا، تعد هذه المنطقة أكثر خضرة إلى حد ما وأقل كثافة من باقي مناطق أمستردام الداخلية.

ولقد تركت هذه الموائمات الصعبة بصماتها، حتى لو لم تكن بالضرورة شاملة مثل التغييرات في المدن الفرنسية والأمريكية بعد تفشي الأمراض في القرن التاسع عشر، والتي سيتم استعراضها في مقالات لاحقة.

فقد اتبعت تلك التغييرات نمطاً متكرراً في أزمات الصحة العامة اللاحقة، يبدأ بتفشي وباء سيئ قصير الأمد نسبياً، يتبعه انتعاش مهد الطريق لإحياء اقتصادي. وعن غير قصد، بناء نسيج حضري جديد أكثر خضرة واتساعاً.

كما تدلل تلك التغييرات أيضاً على أن حتى الأوبئة ليست كافية لمنع الناس من الانجذاب إلى المدن الكبرى، حيث تتواجد معظم الفرص.