الاستحواذ على السلع.. سلاح الصين الجديد لمواجهة أمريكا

مصهر نحاس في مقاطعة تشي جيانغ الصينية
مصهر نحاس في مقاطعة تشي جيانغ الصينية المصدر: بلومبرغ
المصدر: بلومبرغ
تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

بعد إقرار حزمة التحفيز الأمريكية بقيمة 1.9 تريليون دولار، وجه الرئيس الأمريكي جو بايدن تركيزه نحو إقرار حزمة ضخمة مماثلة، ولكن هذه المرة للاستثمار في قطاع البنية التحتية، وهذا يعني أن الولايات المتحدة ستحتاج إلى المزيد من السلع، إلاّ أن هناك عقبة واحدة فقط ستحول دون تحقيق ذلك الهدف، وتلك العقبة هي الصين.

وتحتاج الولايات المتحدة للحصول على الصلب والأسمنت والقطران لتشييد الطرق والجسور، والكوبالت والليثيوم والمعادن الأرضية النادرة لصناعة البطاريات. وفوق كل هذا، تحتاج أمريكا إلى النحاس - وبكميات هائلة - لاستخدامه في صناعة السيارات الكهربائية، التي قال بايدن إنه سيشتريها للأسطول الحكومي الأمريكي. كما ستحتاج البلاد إلى النحاس أيضاً في محطات شحن السيارات الكهربائية، وفي الكابلات التي تربط توربينات الرياح الجديدة والمزارع الشمسية بشبكة الكهرباء.

ولكن عندما يتعلق الأمر بهذه السلع – وبصفة خاصة النحاس – سنجد أن واشنطن لاتزال تتخلف عن بكين بخطوة.

تهافت صيني

كانت الصين الدولة الأولى التي يظهر فيها فيروس كورونا المستجد، لكنها أصبحت أيضاً أول دولة في العالم تبدأ في التعافي من الوباء. ومع دخول بقية العالم في حالة من الإغلاق، جنباً إلى جنب مع تراجع أسعار السلع الأساسية خلال شهري مارس وأبريل من عام 2020، انطلقت الصين في موجة شراء مفرطة للسلع الأساسية. وانهال المصنعون والتجار وحتى الحكومة الصينية على التبضع من أسواق السلع العالمية، مثلما يقوم مدمنو التسوق بشراء كميات هائلة من البضائع في أوقات الخصومات.

ويقول ديفيد ليلي، تاجر النحاس المخضرم والمدير الإداري لشركة "دريك وود كابيتال مانجمنت" (Drakewood Capital Management) ومقرها المملكة المتحدة: "اشترى الصينيون كميات هائلة من النحاس العام الماضي، ولا أعتقد أن ذلك كان فقط لسد احتياجاتهم الصناعية". مضيفاً: "كان ذلك أيضاً لبناء الاحتياطيات الاستراتيجية الصينية من النحاس، واللازمة لتنفيذ خططهم".

واستوردت الصين نحو 6.7 مليون طن من النحاس الخام العام الماضي، بارتفاع قدره الثلث مقارنة بالعام السابق، وزيادة تعادل 1.4 مليون طن كاملة عن الرقم القياسي السنوي السابق. (تعادل الزيادة الصينية على أساس سنوي وحدها في الحجم إجمالي استهلاك النحاس السنوي في الولايات المتحدة).

ويعتقد المتداولون والمحللون أن مكتب احتياطي الدولة الصيني القوي - والذي يعمل بشكل سري - اشترى تقريباً ما بين 300 إلى 500 ألف طن من النحاس أثناء انخفاض الأسعار.

ويبدو أن هذا كان بالفعل حركة تجارية ذكية. فجزئياً، وبسبب مشتريات الصين، تضاعفت أسعار النحاس من أدنى مستوياتها في مارس 2020، ووصلت إلى المستويات الحالية البالغة حوالي 9000 دولار للطن.

الأسعار سترتفع

رغم ذلك، يعتقد البعض أن أسعار النحاس والسلع الأساسية الأخرى يمكن أن ترتفع إلى مستويات أعلى. وأدى الجمع بين انتعاش النمو العالمي والسخاء الحكومي إلى زيادة رهانات المستثمرين.

ويتوقع محللو وول ستريت حدوث "دورة فائقة" جديدة في قطاع السلع، والتي تعني "فترة من صعود الأسعار بشكل مستمر؛ مدفوعة بحدوث تحول جذري في الطلب". ويمكن مقارنة هذه الدورة الفائقة بالطفرة التي قادتها الصين في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، أو بفترة النمو العالمي التالية للحرب العالمية الثانية.

ويقول المشككون في احتمالات ارتفاع أسعار النفط إن التبني الأسرع من المتوقع للسيارات الكهربائية سيعني حتماً انخفاض الطلب على النفط الخام. ولكن بالنسبة للمعادن مثل النحاس، سنجد أن هناك اختلافا أقل في الآراء حول احتمالات انتعاشه.

وعادةً ما يحاول المتداولون الحذرون التفوق بعضهم على بعض في توقعاتهم للأسعار القياسية الجديدة. ويتوقع مارك هانسن، من شركة "كونكورد ريسورسز ليمتد" (CONCORD RESOURCES LIMITED) ومقرها لندن، أن يكسر النحاس رقمه القياسي السابق - والبالغ 10190 دولارًا - بحيث يتم تداوله عند سعر 12 ألف دولار للطن، خلال الأشهر ألـ18 المقبلة.

وتتنبأ مجموعة "ترافيغورا" (Trafigura)، وهي شركة رائدة في تجارة النحاس، بوصول سعر ذلك المعدن إلى 15 ألف دولار للطن. ويقول جرايم ترين، كبير الاقتصاديين في الشركة: "هذا تحول هائل في الطلب، ويشبه انطلاق موجة التحضر في الصين".

الأكثر ذكاءً

استثمرت الدولة الصينية مبالغ ضخمة في البنية التحتية على مدى عقدين من الزمن، لدرجة أن البلاد تمثل الآن حوالي نصف الطلب العالمي على العديد من المعادن. وقد أجبرها هذا أيضاً على أن تصبح أكثر ذكاءً عند شرائها للسلع الأساسية.

وتتحالف مصاهر النحاس في الصين معاً أثناء التفاوض مع مالكي المناجم حول العالم. واشترت الكيانات الصينية - والعديد منها مملوك للدولة - عمليات التعدين في كل مكان بداية من جمهورية الكونغو الديمقراطية، مرورًا ببيرو، ووصولًا إلى إندونيسيا وأستراليا. وفي السنوات الأخيرة، قاموا أيضاً بشراء شركات تجارية دولية.

أما بالنسبة لما يمكن تسميته بـ "سلع المستقبل"، فسنجد أن الصين تقود أيضاً هذا السباق، حيث تعتبر أكبر منتج في العالم حالياً للمعادن الأرضية النادرة، والتي تعتبر بالغة الأهمية؛ لاستخدامها في جميع أنواع التطبيقات عالية التقنية.

وتهيمن الصين كذلك على قطاع معالجة المواد الخام اللازم لصنع بطاريات أيونات الليثيوم، والليثيوم، والكوبالت، والنيكل، والجرافيت، كما تعتبر تلك المواد اللبنات الأساسية لثورة السيارات الكهربائية.

وفي حين أن 23% فقط من المواد الخام للبطاريات في العالم يتم استخراجها من الصين، إلا أن 80% من مراحل معالجتها الوسيطة تتم هناك، وفقاً لسيمون مورس، المدير الإداري لشركة "بنشمارك مينيرال إنتليجنس" (Benchmark Mineral Intelligence)، والذي عمل كمستشار للبيت الأبيض في قطاع البطاريات.

البُعد الاستراتيجي

في أحدث خططها الخمسية التي نُشرت شهر مارس الماضي، كشفت بكين عن الكيفية التي ستعمل بها على تعزيز نظام احتياطياتها من الطاقة والسلع، بما في ذلك الاحتفاظ بالمخزونات الاستراتيجية.

وحدد مسؤول في مكتب الاحتياطيات بالبلاد توجهات بكين فيما يخص أمن السلع، وذلك في مقال نُشر في مجلة للحزب الشيوعي العام الماضي، وقال إن التوجه الصيني هو "تخزين مجموعة كبيرة من السلع".

وكتب المسؤول أن ذلك يشمل القطاعات التي تشهد نقصا في الإمدادات، وتلك التي تعتمد بشكل كبير على الواردات، إضافة إلى السلع التي تظهر تقلبات كبيرة في الأسعار، والسلع التي يتم إنتاجها في البلدان غير المستقرة سياسياً واقتصادياً.

ولكن على النقيض من ذلك، وفي الولايات المتحدة، كان أمن الإمدادات مجرد "مصدر قلق هامشي". وعندما انتبهت واشنطن إلى المخاطر الجيوسياسية للسلع، كان تركيزها على موارد النفط في الشرق الأوسط، وحتى تلك العلاقة تطورت مع قيام ثورة النفط الصخري بتقليل اعتماد الولايات المتحدة على النفط المستورد.

أما النحاس والمعادن الأخرى فلم تفكر فيها أمريكا إلا متأخرة. وفي الوقت الذي ارتفع فيه الطلب الصيني بقوة على النحاس خلال العقدين الماضيين، كان الطلب في الولايات المتحدة ينخفض، حسبما يؤكد المحللون في شركة "ماكوري جروب ليمتد" (Macquarie Group Limited).

ويعني انتشار حزم التحفيز أن هذا على وشك التغيير بالتأكيد. وفي حين أن تفاصيل خطة بايدن لتطوير البنية التحتية لا تزال تخضع للتفاوض في الكونغرس، تتوقع شركة "سي أر يو غروب" (CRU Group) الاستشارية أن إطلاق حزمة تبلغ نحو تريليون دولار سيتطلب توفير 6 ملايين طن إضافية من الفولاذ، و110 آلاف طن من النحاس، و140 ألف طن من الألومنيوم سنوياً.

لكن ديفيد ليلي يؤكد أن "الصين درست نقاط الضعف الموجودة في سلسلة التوريد الخاصة بها من أعلى إلى أسفل لبعض الوقت، ومن ثم قامت بتنمية احتياطياتها الاستراتيجية". ويضيف: "لا أعتقد أن الدول الغربية بدأت حتى في التفكير بهذا الأمر، فلا تزال هناك حالة من التراخي في الغرب بشأن إمدادات المواد الخام".