توزيع اللقاحات.. أزمة تجارية بعواقب صحيّة

الدول الفقيرة هي الأقل حظاً بالنسبة للتوزيع المتكافئ للقاحات
الدول الفقيرة هي الأقل حظاً بالنسبة للتوزيع المتكافئ للقاحات المصدر: بلومبرغ.
David Fickling
David Fickling

David Fickling is a Bloomberg Opinion columnist covering commodities, as well as industrial and consumer companies. He has been a reporter for Bloomberg News, Dow Jones, the Wall Street Journal, the Financial Times and the Guardian.

تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

إذا ما استندنا إلى عناوين الأخبار، قد يظنّ المرء أن العائق الأكبر أمام حملات التلقيح العالمية ضد فيروس كورونا، يتمثل في القلق حيال سلامة لقاحيْ "أسترازينيكا" و"جونسون أند جونسون"، وتردد البعض في تلقيهما.

ولكن بغض النظر عن أهمية الجدل الذي أثاره اللقاحان، فلا يجب أن يصرف ذلك النظر عن التحدي الأكبر الذي ينتظره العالم في الأشهر المقبلة. والذي يتمثل بانعدام المساواة في توزيع اللقاحات بين الدول الثرية والدول الفقيرة.

ويشكّل تطوير اللقاحات الواقية من فيروس كورونا وتعزيز السعة الإنتاجية دليلاً على قوة الابتكار التي يتميز بها الاقتصاد العالمي المعاصر. وبحسب مركز "ديوك" الابتكاري الدولي للصحة، فإنه استناداً إلى عدد اللقاحات المتوفرة حالياً في السوق، يجب أن تكفي السعة التصنيعية الإجمالية لهذا العام لإنتاج 12 مليار جرعة.

ونظرياً، هذه الكمية ستكون كافية للقضاء على فيروس كورونا. حيث تشكل اللقاحات ذات الجرعة الواحدة 1.5 مليار من أصل إجمالي الجرعات، ويعني ذلك أنه يمكن تأمين ما يكفي من الجرعات لحماية نحو 88% من سكان العالم.

تفاوت في التغطية

إلا أن هذه الصورة تصبح أقل وردية حين ننظر إلى عدد الحقن التي تم حجزها. فبحسب قاعدة بيانات "ديوك"، وصلت الطلبات حتى الآن إلى 6.96 مليار جرعة فقط، أي ما يكفي لتلقيح 53% من سكان العالم. كما أن هذه الجرعات، محصورة بمعظمها في الدول الثرية. إذ تتوفر كمية كافية من طلبات اللقاحات لتغطية نحو ضِعْفَيْ عدد سكان الدول الثرية، فيما نسبة التغطية في الدول ذات الدخل المتوسط إلى المنخفض، حيث يعيش العدد الأكبر من سكان العالم، فهي لا تتجاوز الـ12%.

وهذه مشكلة شائعة. حيث تستهدف شركات الأدوية، الدول الثرية لبيع منتجاتها. فكلّ شركات تصنيع الأدوية (حتى مصنعي الأدوية المكافئة، التي غالباً ما ينظر إلها على أنها خاصة بدول الجنوب) تريد أن تبيع منتجاتها للدول الثرية، حيث يرتفع فيها هامش الربح.

ففي خلال فترة التسعينيات حتى بداية الألفية، كان فيروس نقص المناعة البشرية "إتش أي في" يجتاح منطقة أفريقيا جنوب الصحراء، في وقت كانت منظمة التجارة العالمية المنشأة حديثاً تسنّ قواعد دولية حول الملكية الفكرية. وقد دفعت مسألة إلزام شركات الأدوية بتوزيع منتجاتها نحو تبني إصلاحات شاملة.

ومن الناحية النظرية، فإن النظام الذي تم التوصل إليه كان يفترض أن يضمن توفير الأدوية بشكل متساو حول العالم. فهو يمكّن الدول التي تفشل في التوصل إلى اتفاقات مع شركات الأدوية العالمية حول إصدار تراخيص بأسعار معقولة، من إلغاء براءات الاختراع، في إطار يعرف بالترخيص القسري.

ويتيح ذلك لشركات الأدوية المكافئة المحلية صنع نسخها الخاصة من الدواء. أمّا الدول التي تفتقر للقدرة الإنتاجية فيمكنها شراء الأدوية من دول أخرى مثل الهند.

عائق الملكية الفكرية

إلا أن هذا النظام لم يطبق بالفعل على أرض الواقع. فهذه الأيام، نادراً ما يتم اللجوء إلى الترخيص القسري. وحتى في المرات القليلة التي تم اعتماده فيها خلال السنوات الماضية، كان ذلك من قبل دول ثرية نسبياً استغلت هذه الأداة من أجل التفاوض على تخفيض أسعار الأدوية، وليس من دول منخفضة الدخل تواجه نقصاً في الامدادات بأسعار معقولة.

حيث إن الأطر التي تحكم الترخيص القسري بطيئة ومرهقة، وعادة ما تتطلب عدة جولات من المفاوضات بين الحكومات وشركات الأدوية، ومطابقة التراخيص بين الحكومات المستوردة والمصدّرة. وبما أن هذه التراخيص تصدر عادة رغماً عن المنتج الأصلي، فهي ترتبط بمدى قدرة مصنعي الأدوية المكافئة على عكس هندسة الأدوية التي تصنعها الشركات الكبرى، وغالباً من دون الحصول على الأسرار التجارية الأساسية. وهذا يشكل صعوبة في الحالات التي يتم فيها استخدام التكنولوجيا الحديثة، بالأخص نظراً لضيق الوقت والحاجة للحصول على موافقات سريعة على صعيد السلامة.

أمّا المحصلة فجاءت مخيبة للآمال. فقد أظهرت دراسة تعود للعام 2016، أن الموافقة على الأدوية في منطقة أفريقيا جنوب الصحراء عادة ما تستغرق ما بين أربع إلى سبع سنوات بعد اتخاذ أولى الخطوات الناظمة في الدول الثرية.

وعلى الرغم من أن فيروس كورونا دفع باتجاه تقصير مدة الإجراءات الناظمة، مثل مبادرة "كوفاكس" التي أنشأت لتسريع إتاحة اللقاحات للدول منخفضة الدخل. إلا أنه مع ذلك، بقي التوزيع البطيء للقاحات خارج الدول الثرية متعثراً بشكل صارخ.

ويزداد هذا الواقع خطورة مع انتقال مركز الإصابات بالفيروس من الدول الثرية والاقتصادات الناشئة الكبرى نحو الدول الصغيرة العاجزة عن تطوير قطاع صناعة الأدوية لديها.

أزمة تجارية تنتظر الحل

وتعلّق الآمال في التوصل إلى خرق ما في جدار هذه الأزمة على المديرة الجديدة لمنظمة التجارة العالمية نغوزي أوكونجو-إيويالا. فالرئيسة السابقة لشراكة توزيع اللقاحات المدعومة من الأمم المتحدة كانت قد اجتمعت في الأسبوع الماضي مع شركات الأدوية وسياسيين ومسؤولين صحيين في جنيف من أجل التوصل إلى حلّ.

وقد وعدت ممثلة التجارة الأمريكية كاثرين تاي في مؤتمر بـ"التعلم من أخطاء الماضي وعدم تكرارها". والآن، لا بدّ لها من تحويل هذه الأقوال إلى أفعال.

ومع ذلك، فإن الحلّ الفوري للأزمة لا يزال مرفوضاً من قبل حكومات الدول الثرية، بينها الولايات المتحدة، بما أنه يقوم على التعليق المؤقت للاتفاقية حول الجوانب المتعلقة بالتجارة من حقوق الملكية الفكرية. ويمكن حصر هذا التعليق بعلاجات فيروس كورونا، خلال فترة حالة الطوارئ الصحية الحالية.

ولكن على الصعيد الأبعد، لا بدّ من الاعتراف بأن الطموح بإقامة نظام تجارة عالمي يوازي ما بين حماية الملكية الفكرية، وتلبية الحاجات الصحية لكافة البشرية، هو أمر لم يتحقق.

ويمكن القول إن وعد مطلع الألفية الجديدة، أنتج عالما يتعذّر فيه على الفقراء الحصول على العلاجات المنقذة للأرواح، بالأخص مع تغير طبيعة الأمراض بفضل النجاحات التي حققها الطبّ المعاصر. واليوم، بات السرطان يقتل عدداً أكبر من الأشخاص في أفريقيا من فيروس "إتش أي في"، ومع ذلك تفتقر المنطقة للمنشآت الأساسية لمحاربة السرطان. وإذا ما أردنا أن نحمي أنفسنا من الأزمة الصحية التالية، فلا بدّ من أن نقوم بإصلاح قواعد التجارة العالمية أولاً.