هل تستعيد "إنتل" ريادتها باستثمار 20 مليار دولار في صناعة الرقائق؟

رسم تعبيري
رسم تعبيري بلومبرغ بيزنس ويك
المصدر: بلومبرغ
تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

تتعرض شركة "إنتل" الرائدة في تصنيع الرقائق والتي ساهمت في إنشاء وادي السيليكون، للتعثر في ملاحقة المنافسين، بعدما سيطرت عليها ثقافة القناعة بما أُنجِزَ وعدم اللحاق بالطفرة التي تحققت في مجال الهاتف المحمول.

وذكرت الشركة في بيان الأرباح الفصلية عن الربع الثالث، أموراً تقنية يصعب استيعابها للحد الذي تبدو فيه لأي شخص من غير المستثمرين أو المحللين المحترفين بلا معنى تقريباً، حيث ذكر البيان "تسريع الإنتقال إلى المنتج 10 نانومتر"، وأن "في الانتقال إلى المنتج 7 نانومترات تأخيراً مقارنة بالتوقعات السابقة".

واعتبر المتخصصون من العاملين في تحليل وتدقيق البيانات المالية ذلك الأمر كارثياً، إذ يعني أن "إنتل" تواجه صعوبة في إنتاج أحدث وأكبر رقائقها، إذ أعلنت الشركة من قبلُ قدرتَها على تصنيع رقائق بـ"ترانزستورات" ذات أبعاد صغيرة تصل إلى 7 نانومترات (7 أجزاء من المليار من المتر) بحلول عام 2021 كآخر موعد نهائي أُعلِنَ عنه.

وكلما كان حجم الترانزستورات أصغر أمكن أن تعمل معاً داخل جهاز واحد، مما يجعل عمل أجهزة معالجة البيانات أسرع وأكثر كفاءة، وهو ما يعني أن تأخير "إنتل" سيدفعها إلى بيع جيل أقدم من الرقائق لسنة أخرى.

وتمثّل "إنتل" التي أسسها روبرت نويس وغوردون مور أواخر الستينيات في ماونتن فيو بكاليفورنيا، فخر الصناعة الأمريكية، إذ ساهمت في إنشاء صناعة الرقائق الحديثة ووادي السيليكون نفسه. وعلى مدار تلك السنوات تعرضت الشركة التي يقع مقرها الآن في سانتا كلارا لأزمات عديدة، ولكن قياداتها الهندسية حرصوا دائماً على أن تكون حالة التراجع قصيرة الأجل.

حماقة تتزين بالأخلاق

ولكن يبدو أن الأمر تغير، إذ أشار بوب سوان الرئيس التنفيذي للشركة، بشكل صريح خلال مؤتمر المحللين الذي عُقد عبر الهاتف عقب إعلان الأرباح في يوليو الماضي، إلى أن مصانع الرقائق المستقبلية للشركة "فابس" قد لا تتمكن من اللحاق بالتطور الحالي على الإطلاق، وأن الشركة تدرس اللجوء إلى إبرام عقود مع شركات أخرى لإنتاج رقائق 7 نانومترات.

وردّاً على سؤال أحد المحللين قال سوان: "إلى الحد الذي نحتاج فيه إلى التعاون مع طرف آخر يمتلك تلك التقنية، وهو ما يمكن أن نسمّيه (خطة طارئة)، ونحن مستعدون لذلك".

كان حديث سوان صارماً وفنياً وكلماته باردة، لكن جميع المحللين الذين حضروا المكالمة استدعوا إلى أذهانهم نفس الفكرة، وهي أن ما يقوله سوان وإن كان صريحاً فإنه "حماقة تتزين بالأخلاق"، إذ يمثّل اقتراح سوان أكثر السيناريوهات التي لجأت إليها "إنتل" تطرفاً على مدار 52 عاماً منذ تأسيس الشركة.

واعتمدت "إنتل" التي تبلغ قيمتها أكثر من 400 مليار دولار في اعتلاء قمة صناعة الرقائق العالمية على تفوقها والاعتماد على نفسها في تصميم معالجات متطورة وتطوير التقنيات المعقدة اللازمة لإنتاج مئات الملايين منها لتشغيل أجهزة الكمبيوتر، وهو ما جعل "إنتل" شركة رائدة في مجال تصنيع الرقائق وإحدى أساطير الرأسمالية الأمريكية في القرن العشرين.

ورغم تصنيع "إنتل" معظم الأجهزة الإلكترونية بمصانعها في آسيا، وهو الأمر الذي لا ترضى عنه الولايات المتحدة، فإن الأعمال التي تمّت في تلك المصانع منخفضة الهامش والأجر مقارنة بمصانع الشركة في الولايات المتحدة التي اعتمدت عليها في تصنيع المكونات الأكثر تطوراً والأعلى من حيث هامش الربحية.

وعلى مدار سنوات، زار الرؤساء بيل كلينتون وجورج دبليو بوش وباراك أوباما متاجر "إنتل"، ووُضع شعار "إنتل إنسايد" على أجهزة الكمبيوتر المكتبية والمحمولة في جميع أنحاء العالم. شهدت الشركة ذروة تأثيرها الثقافي خلال حقبة التسعينيات وقتما أذاعت إعلانات تليفزيونية تُظهِر عمال تنظيف الغرف يرتدون زي العمل وهم يرقصون على أنغام فانكي ميوزيك.

ويبدو أن الخطة التي اقترحها سوان ستمحو ذلك الإرث وقد تضرّ بقيادة الولايات المتحدة في مجال تصنيع الرقائق والتكنولوجيا المتطورة.

ولكن قبل أن يتمكن سوان من تنفيذ خطته والاستعانة بأطراف أخرى، غيرت الشركة مسارها واستُبدل بسوان، بات غيلسنجر، الذي كان يعمل كبير مسؤولي التكنولوجيا في "إنتل" والذي لا يزال مؤمناً بشدة بقدرات وتفوق عمليات الهندسة والتصنيع داخل الشركة.

وقد أعلن غيلسنجر في مارس عن خطة لإنفاق 20 مليار دولار من أجل بناء مصانع جديدة في الولايات المتحدة لتصنيع الرقائق لصالح شركات أشباه الموصلات الأخرى التي ترغب في الاستعانة بمصادر خارجية لإنتاج الرقائق، لتتضح بذلك خطة غيلسنجر الطموحة لتحويل "إنتل" إلى شركة تصنيع تعاقدي لصالح الغير، إذ قال غيلسنجر للصحفيين: "لقد عادت إنتل"، وأضاف: "إنتل الرائدة ستبقى كما هي. سنكون رواداً في السوق وسنعمل على تلبية احتياجات شركات تصنيع أشباه الموصلات التي أصبح العالم يحتاج إليها بشدة، إذ نعمل بقوة وباستراتيجية ثابتة لسدّ تلك الفجوة".

التعافي من تعثُّر الإنتاج

رغم تعثُّر الشركة وخسارتها صدارة شركات الرقائق الأمريكية الأكثر قيمة لصالح "إنفيديا كورب" التي تصمّم معالجات الرسومات وتستعين بمصانع آسيوية لتصنيعها، لا تزال "إنتل" تتحكم في نحو 80% من سوق معالجات الكمبيوتر وحصة أكبر في تصنيع السيرفرات والأجهزة الضخمة اللازمة لتشغيل مراكز البيانات.

ويبقى كثير من التساؤلات حول إمكانية نجاح خطة غليسنجر بإعادة الهيكلة وتعافي "إنتل" من تعثر الإنتاج، بخاصة أن أكبر عملاء الشركة بما فيهم "أمازون" و"آبل" و"مايكروسوف" قد بدؤوا جميعاً تصميم الرقائق الخاصة بهم والتعاقد مع شركات أخرى لتصنيع الرقائق. كذلك نجحت شركتان منافستان لـ"إنتل" هما "أدفانسد مايكرو ديفيسيز" و"فابليس" (fabless) في بيع رقائق 7 نانومترات منذ عدة أشهر.

تقول غواني فيني، الشريك المؤسس ومحلّل الرقائق صاحبة الخبرة الممتدة في "أدفيزور كابيتال مانجمنت": "لقد خرج تطوُّر عملية التصنيع عن القضبان تماماً".

ولم تدخل "إنتل" المأزق الذي تواجهه فجأة، بل جاء بعد تعرُّضها لأزمات عديدة على مدار العقد الماضي، بما في ذلك الفشل في اقتحام سوق رقائق الهواتف الذكية وتدهوُر الثقافة المؤسسية الذي أعمى الشركة عن أوجه القصور الخطيرة، وفقاً لما ذكره أكثر من عشرين موظفاً حالياً وسابقاً طلب معظمهم عدم المشاركة خوفاً من العقاب أو تعريض وظيفتهم للخطر. كذلك أيضاً التحولات العالمية التي أدّت إلى صعود عمالقة التكنولوجيا الآسيويين مثل "سامسونغ" و"تايوان" لتصنيع أشباه الموصلات وإنتاجها أجهزة أكثر تقدماً.

على الرغم من أن المؤسسين مور ونويس كانا من مبتكري أول أشباه موصلات في الوقت الذي كانت فيه شبه جزيرة سان فرانسيسكو تشتهر ببساتين اللوز أكثر من منتجات السيليكون، كان أول قرار اتخذوه تعيين المهندس أندي غروف ذي الأصول المجرية الذي مثّل نقطة تحول في رحلة صعود "إنتل" وشغل منصب الرئيس التنفيذي للشركة في الفترة 1987-1998. وقد أرسى عديداً من المبادئ خلال تلك الفترة، مما ترك أثراً واضحاً على تفكير جيل من الإدارة بعده، كما رسّخ قيم الانضباط الثمين والصدق والتركيز داخل المؤسسة.

نهج غروف

اشتهر غروف بمطالبة الموظفين بمزيد من الانضباط، وابتكر نظام "قائمة المتأخرين" التي تطلب من الموظفين الذين حضروا للعمل بعد الساعة 8 صباحاً التوقيع بأسمائهم على ورقة في مكتب الاستقبال، وكذلك وضع نظام تقييم أداء يصنّف جميع المهندسين في واحد من أربعة تصنيفات وفق الأداء. وقد اعتمدت شركات تقنية كبرى على نظام غروف لتقييم الأداء إضافة إلى عديد من تقنيات غروف الإدارية الأخرى، كما أثر نهج غروف في كتب الأعمال الأكثر مبيعاً التي تناولت الانضباط التنظيمي مثل كتاب "الصدق الراديكالي" (Radical Candor) وكتاب "العظمة بالاختيار" (Great by Choice). كذلك نجح غروف في التعامل مع كبار المديرين، إذ روج لاستراتيجية "المواجهة البناءة"، وكان يرى أن الصراحة في التعامل يجب أن تهدف إلى ضمان إبراز المشكلات وحلها بكفاءة، إذ يُسمح للموظفين بالاختلاف والالتزام ضمن ما أُطلِقَ عليه وقتها "محادثات غروف" (Grove-talk.

أدى نهج غروف إلى ظهور سلوكيات عدائية بعض الشيء داخل اجتماعات "إنتل"، وهو ما وصفه بعض الموظفين خلسة بأنه "محاكم التفتيش المجرية"، ولكنه يشير أيضاً إلى أن غروف كان يقبل الاستماع إلى النقد، كما اعتاد غروف التقرب من الموظفين المبتدئين الرافضين الذين سمَّاهم "كاساندراس" ممن يمكنهم التحدث عن المشكلات المحتمَلة دون خوف من التعرض للانتقام.

وقال غيلسنجر في مقابلة أُجريَت معه عام 2016 بعد وقت قصير من وفاة غروف: "كانت توجيهات آندي غروف تشبه الذهاب إلى طبيب الأسنان وعدم الحصول على نوفوكين"، وهو ما قصد به المجاملة، كما أشاد به قائلاً: "كان غروف يسعى بقوة للحصول على الحل الصحيح للمشكلات".

خلال فترة ولاية غروف التي امتدت لعقد من الزمن، تنافس أكثر المهندسين طموحاً من أجل الحصول على لقب "المساعد الفني" للرئيس التنفيذي على الرغم مما يتطلبه ذلك الدور الموجود الآن ضمن هيكل فريق عمل أمازون ومايكروسوفت من مهامّ بسيطة مثل العمل سائقاً للرئيس والمساعدة على إعداد جدول أعمال غروف، ولكنه تضمن أيضاً صياغة العروض التقديمية والوقوف في منصب الرئيس التنفيذي في الاجتماعات رفيعة المستوى. وقد انتقل عديد من المساعدين الفنيين إلى مناصب عليا في "إنتل" أو في شركات منافسة، ومن بينهم الرئيس التنفيذي السابق للشركة بول أوتليني، الذي عمل مساعداً فنياً لغروف.

وما زاد قوة تأثير نهج غروف الإداري هو التناسق بين ما يُحرَز من تقدُّم تقني ومالي بشكل مثير للإعجاب، إذ بلغت الثقة بذلك النهج حد اعتباره أقرب إلى قوانين الطبيعة، إذ أدّى ما رسخه غروف من الانضباط إلى إنتاج "إنتل" رقائق أكثر تطوراً بتكلفة أرخص تماشياً مع القانون المسمى باسم مؤسس الشركة غوردون مور الذي توقع وتيرة تطور الرقائق، لتصبح "إنتل" من شركات صناعة الإلكترونيات الأمريكية القليلة التي ازدهرت في الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي وبرزت منافساً قوياً لعمالقة التصنيع في اليابان وكوريا الجنوبية وتايوان.

شغل غروف منصب رئيس مجلس الإدارة حتى عام 2005، وقدم المشورة من كثب للمديرين التنفيذيين للشركة حتى وفاته، ولكن لم يمنع تأثيره الكبير تفادي واحدة من أكبر الأزمات التي شهدتها "إنتل" منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. وفي الوقت الذي كانت تستعد فيه "آبل" لإطلاق هاتفها الذكي الجديد، كانت "إنتل" تبيع معالجات جهاز "ماك" للشركة، وقد اتفق ستيف جوبز مع الرئيس التنفيذي وقتها أوتيليني على توفير إنتل الرقائق اللازمة لجهاز آيفون. لكن جوبز قدّم عرضاً اعتبره أوتليني منخفضاً مما أدى إلى تعاقد "آبل" مع "سامسونغ" لتقديم الرقائق لتتحول بعدها إلى تصنيع الرقائق بنفسها، ثم عادت للاستعانة بأطراف أخرى لإنتاج الرقائق، جاء في مقدمتها رائدة التصنيع التعاقدي للرقائق لصالح الغير شركة "تي إس إم سي" (TSMC) ومقرها تايوان، التي أُسّسَت عام 1987 وركزت أعمالها على على تقديم أشباه الموصلات لشركة "فابليس".

حاولت "إنتل" بعد ذلك مراراً دخول سوق تصنيع رقائق الهواتف الذكية، واستحوذت على "إنفينيون تكنولوجيز" (Infineon Technologies AG) لتصنيع معالجات الهواتف المحمولة مقابل 1.4 مليار دولار عام 2011، لكنها عانت منافسة شديدة مع شركة "كوالكوم تكنولوجيز" (Qualcomm Technologies Inc) الرائدة في سوق صناعة رقائق الهواتف المحمولة، كما حاولت تقديم تمويل لعملاء الشركة مثل "إل جي إلكترونيكس" (LG Electronics Inc) الكورية من أجل صنع أجهزة تعتمد على رقائقها رغم ركود مبيعات تلك الأجهزة.

تعثُّر دخول سوق الهاتف المحمول

في النهاية، ووفقاً لعديد من الأشخاص المطّلعين على استراتيجية وعمليات "إنتل"، تعثرت جهود الشركة من أجل دخول سوق رقائق الهاتف المحمول، ورجعوا ذلك إلى تركيز "إنتل" موارد إنتاجها كافة وتصميمها على رقائق الكمبيوتر والسيرفرات، وهو ما أدّى إلى خسارتها إيرادات تُقدَّر بمليارات الدولارات، بالإضافة إلى منح منافسيها فرصة لاكتساب خبرة تصنيع الرقائق بهذا الحجم الكبير والمواصفات القياسية الدقيقة، في الوقت الذي يزيد فيه عدد الهواتف المحمولة على أجهزة الكمبيوتر والسيرفرات حول العالم، كما يتطلب أن تتميز رقائق الهواتف المحمولة بتوفير الطاقة للحفاظ على عمر البطارية.

يقول ريستو باوكا رئيس شركة "في إل إس آي آر" للأبحاث، إن التعاقد مع شركة "آبل" "أصبح دافعاً كبيراً لتقدّم شركة (TSMC)". وأضاف: "اتضح أن هذا التعاقد مثمر للغاية ومستمر لفترة طويلة".

أصيب شون مالوني وريث أوتليني بسكتة دماغية قاتلة عام 2010، تبعها بعد ذلك بعامين إعلان أوتيليني المفاجئ اعتزاله، وبديلاً من أوتيليني، عُيّن بريان كرزانيتش البالغ من العمر 53 عاماً والذي يمتلك خبرة ممتدة تجعله من بين المخضرمين في الشركة لكنه لم يكُن جزءاً من الثقافة المؤسسية التي أسّس لها غروف والقائمة على النقد الذاتي. وحسب أشخاص عملوا معه، يعكس أداء كرزانيتش ثقة لا تتزعزع بالقدرات الهندسية للشركة، بخاصة تفوُّق مجموعة التكنولوجيا والتصنيع المسؤولة عن صياغة عملية إنتاج الرقائق الجديدة والتي كان يديرها سابقاً مع مدير تنفيذي آخر.

في عام 2013 وبعد فترة وجيزة من تعيينه، اجتمع كرزانيتش مع 250 من كبار مديري الشركة في غرفة اجتماعات بأحد الفنادق القريبة من "إنتل" للبحوث ومراكز التصنيع المنتشرة في هيلسبورو وأوريغون. واعتبر كثير من المديرين داخل الغرفة، الاجتماعَ فرصةً لتَعرُّف كرزانيتش.

استغل كرزانيتش الاجتماع وحاول أن يضع قواعد أساسية جديدة، ففي الوقت الذي حاول فيه كبار المديرين قضاء مزيد من الوقت مع الرئيس الجديد في إحدى جولاته المعتادة حول الحرم الجامعي، طلب منهم كرزانيتش التوقف عن طلب الانضمام إليه، إذ يتذكر الحاضرون قوله وقتها: "أحب الركض بمفردي"، وأضاف: "أنا لا أحب الناس عموماً"، وقد تسبب في صمت محرج إذ تَوقَّع المديرون التنفيذيون إنهاء الحوار معه بشكل مختلف.

وخلال فترة ولايته التي امتدت لخمس سنوات كانت سياسة كرزانيتش معاكسة تماماً لسياسة غروف القائمة على احتضان الموظفين الجدد "كاساندراس"، إذ أهان كرزانيتش علناً المديرين التنفيذيين الذين اختلف معهم، وتجاهل مناقشة التحذيرات من تخلُّف قدرة الشركة على تصنيع المنتجات الرئيسية.

يقول أحد التنفيذيين السابقين: "لم يخلق بريان بيئة عمل مناسبة لطرح الموظفين للمشكلات والعمل على حلّها"، كما قالوا: "الحد من معرفة الحقائق يمثّل موتاً لشركة معقدة بحجم (إنتل)".

وتَصرَّف كرزانيتش خلال اجتماعات مراجعة مشكلات العمل التي استخدمها الرؤساء السابقون كمنتديات للنقاش بشكل يبدي عدم اهتمامه بها، إذ أجاب خلالها عن رسائل البريد الإلكتروني أو تَسوَّق عبر الإنترنت وأحياناً كان يغادر لإجراء مكالمات هاتفية وفقاً لما قاله أشخاص عملوا معه. ويؤكد زملاؤه أن تلك هي الطريقة التي كان ينتهجها كرزانيتش لإظهار عدم اهتمامه أو لإبداء أنه قد اتخذ قراره بالفعل أو عدم تقديره ما يُطرَح. ووفقاً لعشرات المصادر، كانت تغلب على مشاركات كرزانيتش في أثناء تلك الاجتماعات السخرية من المقدمين والإساءة إليهم والردّ على الخبراء أحياناً بأنه ليس لديهم فكرة عما يتحدثون عنه، ولم يستجِب كرزانيتش لطلبات متكررة للتعليق.

وتعرضت عائشة إيفانز التي تدير أعمال "إنتل" لتصنيع الرقائق للهواتف المحمولة وقت قيادة كرزانيتش، وإحدى أشهر السيدات ذوات البشرة السوداء العاملات في صناعة الرقائق، لأقسى ازدراء من كرزانيتش، إذ كُلّف إيفانز وضع خطة لنقل إنتاج أحد المكونات الرئيسية لتُصنَّع داخل "إنتل" بدلاً من التعاقد مع "TSMC"، الشركة التي كانت تصنع رقائق الهاتف المحمول لصالح "إنفينيون"، لكن إيفانز خلصت في النهاية إلى أن الانتقال لن ينجح نتيجة تصميم مصانع "إنتل" لتصنيع السيرفرات عالية الأداء ورقائق الحوسبة المستخدمة في الكمبيوتر الشخصي، لا لتصنيع المعالجات التي يمكنها العمل في ظل عمر بطارية محدود.

وقدمت إيفانز ما خلصت إليه خلال عرض تفصيلي استغرق ثلاث ساعات أوجزت خلاله مخاوفها لكرزانيتش وآندي براينت رئيس مجلس الإدارة و10 من كبار المديرين التنفيذيين الآخرين. وحسب أشخاص حضروا الاجتماع، كان عرضها شاملاً ومقنعاً وأصرّت خلاله على أن "TSMC" يجب أن تستمر في تصنيع تلك المنتجات.

ولكن بعد أن انتهت من العرض بدا أن كرزانيتش لم يستوعب تلك التفاصيل، لكنه رفع ذراعه في الهواء وأنزل قبضته على الطاولة وصرخ قائلاً: "اللعنة عائشة إيفانز"، ووجه الحديث إليها قائلاً: "أنتِ غير قادرة على فهم (إنتل)، وليس لديكِ أي خطط لعينة". وحدقت إيفانز إلى وجهه ثم قالت: "أنت على حق".

ويبدو أن ثقة كرزانيتش بقدرة "إنتل" على تصنيع الرقائق كان لها ما يبررها، ولكن لوقت قصير، إذ أصبحت إنتل في عام 2015، أول شركة تطلق مجموعة من الرقائق بترانزستورات 14 نانومتراً، في تحسُّن واضح مقارنة بالجيل السابق الذي يبلغ 22 نانومتراً. ولكن في نفس العام حذّر أحد المهندسين كرزانيتش من تأخر الجيل القادم من رقائق الشركة التي تعتمد على ترانزستورا 10 نانومترات المقرر طرحه في 2017 ستة أشهر عن الموعد المحدد. ولم يختلف ردّ كرزانيش عما فعله مع إيفانز، إذ أرسل إليه خطابات مليئة بالكلمات البذيئة، وفقاً لما ذكره المهندس.

في العام التالي قدّم مهندسان آخران بيانات لكرزانيتش تُظهِر اتجاهاً مثيراً للقلق بشأن منحنى العائد للرقائق الجديدة التي تؤكد عدم تحسن معدل الخطأ أو النسبة المئوية للرقائق المعيبة في تشغيل منتج معين بالسرعة الكافية. وأشارا إلى أن "TSMC" المنافسة قد تطلق رقائقها ذات الـ10 نانومترات قبل "إنتل"، ووفقاً لعديد من الشهود، أخبرهم كرزانيتش أنهم في الواقع لا يعرفون ما يتحدثون عنه.

وفي النهاية لم يتأخر إطلاق المنتج ستة أشهر فقط بل امتد إلى ثلاث سنوات، ولم تطرح "إنتل" رقائقها ذات الـ10 نانومترات حتى عام 2020، وهو ما تَسبَّب في خفض شركة "ديل تكنولوجيز" (Dell Technologies Inc) إحد أكبر عملاء "إنتل"، توقعات مبيعاتها للعام بأكمله بأكثر من مليار دولار.

وعقّب توم سويت المدير المالي لشركة ديل وقتها قائلاً: "لسنا سعداء بشكل كبير في العمل معهم الآن". ورغم ذلك واصل كرزانيتش تقديم الوعود خلال تصريحات عامة بقدرة الشركة على إنتاج رقائق 7 نانومترات في الوقت المحدد، وهو الأمر الذي شكّك فيه كثير من الأشخاص داخل الشركة.

خروج خبرات تتجاوز 200 عام

اضطُرّت "إنتل" إلى طرد كرزانيتش في يونيو 2018، وكان السبب المعلن وقتها كشف علاقة جمعته مع أحد مرؤسيه على الرغم من تسامح "إنتل" في السابق مع علاقات كُشف عنها بين كبار المديرين التنفيذيين ومرؤوسيهم، مما دفع إلى توقُّع عديد من المديرين التنفيذيين أن مجلس الإدارة سئم أداءه ومعاملته الموظفين.

وبالمقارنة، تفوقت إيفانز رئيسة قطاع الهواتف المحمولة في "إنتل" على كرزانيتش، إذ غادرت الشركة في عام 2019 لتتولى منصب الرئيس التنفيذي في شركة "زوكس" المصنّعة للسيارات ذاتية القيادة التي بيعت العام الماضي لشركة "أمازون".

وأجبرت "إنتل" عديداً من كبار المديرين التنفيذيين على الاستقالة بالتزامن مع مغادرة كرزانيتش، ومن بين من أُجبِروا على الاستقالة: ستايسي سميث المدير المالي السابق والمسؤول عن العمليات، وكيرك سكاوغين المسؤول عن إدارة أعمال رقائق أجهزة الكمبيوتر الشخصية، وريني جيمس رئيس "إنتل"، بالإضافة إلى استقالة مجموعة من كبار المهندسين مثل: دادي بيرلماتر مدير الإنتاج، وراني بركار المسؤول عن تطوير منتجات بعض رقائق "إنتل" الأكثر أهمية، وروني فريدمان قائد فريق تصميم المعالجات الدقيقة.

وكان مجموع سنوات خبرة العمل في إنتل لمن قدّموا استقالتهم مجتمعة نحو 200 عام.

لم تكن الأزمات الداخلية السبب الوحيدة في تعثُّر "إنتل"، لكنها تزامنت مع التحول الذي استمر لعقود من التصنيع من الولايات المتحدة إلى أجزاء أخرى من العالم شهدت تطوراً سريعاً على صعيد التصنيع والاقتصاد بدعم من سياسات حكومية شجعت على التوسع في الإنتاج والتصدير.

وكانت "TSMC" ومقرها في هسينشو بتايوان، الرائدة في تصنيع الرقائق التعاقدي لصالح الغير، أحد أكبر المستفيدين من ذلك التحول، إذ تعتمد عليها "AMD" منافس "إنتل" منذ فترة طويلة، وكذلك شركات أخرى مثل "نفيديا" و"كوالكوم" و"برودكوم" وغيرها من كبار عملاء "إنتل". كما اتجه بعض الشركات إلى الاعتماد على نفسه في تصنيع الرقائق، إذ صممت "أمازون" في عام 2018 سيرفر ورقائق معالجة بنفسها واستخدمتها لتحلّ محل بعض رقائق سيرفر زيون من "إنتل" لتعلن أمازون منذ ذلك الحين استخدام رقائق أخرى جميعها من تصنيع "TSMC"، كما أعلن كل من "غوغل" و"مايكروسوفت" برامجهما لتصنيع رقائق داخل الشركة.

إلى جانب ذلك، تتعرض ريادة "إنتل" في تشغيل أجهزة الكمبيوتر الشخصية المتطورة للخطر مع بدء شركة "آبل" تصميم رقائق أجهزة كمبيوتر "ماك" المحمولة وأجهزة الكمبيوتر المكتبية، كما أعلنت في نوفمبر كشفت النقاب عن ثلاثة أجهزة كمبيوتر جديدة تتميز بمعالج مركزي صممه مهندسو "آبل"، وصنّعته "TSMC". وقالت "آبل" وقتها صراحةً إنها تسعى للتخلص تدريجياً من الاعتماد على "إنتل"، ووصفت أجهزة "ماك" الجديدة بأنها "فئة متطورة تماماً من المنتجات"، كما تخطط "آبل" لتصنيع سلسلة من الرقائق التي تُستخدم في أجهزة "ماك" المتطورة لتُطرَح في أقرب وقت هذا العام وفقاً لأشخاص على دراية بالموضوع.

قوة تايوان

وظهرت بشكل واضح قوة "TSMC" بالتزامن مع أزمة نقص إمدادات الرقائق عالمياً، الأمر الذي أدى إلى تباطؤ تصنيع السيارات ومناشدة الشركات في أوروبا واليابان والولايات المتحدة للشركة لزيادة الإنتاج.

وقد أصدر الرئيس الأمريكي جو بايدن في فبراير قراراً تنفيذياً يهدف إلى معالجة ذلك النقص في إمدادات الرقائق وخفض اعتماد الولايات المتحدة على الدول الأجنبية، كما التقى أعضاءٌ من إدارته مسؤولين تنفيذيين في شركات السيارات وأشباه الموصلات في 12 أبريل، بما في ذلك غيلسنجر لمناقشة أزمة نقص إمدادات الرقائق تفصيلياً. وفي نفس الوقت تضغط شركات تصنيع أشباه الموصلات على الحكومة لفرض إعفاءات ضريبية وتقديم الحوافز لتشجيع الاستثمارات المحلية، بالإضافة إلى الجهود التي بُذلت بالفعل في عهد الرئيس دونالد ترامب لوقف التقدم الصيني في مجال الإلكترونيات وصناعة الرقائق. وكان ترامب أعلن أن الشركات الصينية تمثل تهديداً للأمن القومي الأمريكي، وأدرج البيت الأبيض بعدها في عهد الرئيس ترامب "شركة صناعة أشباه الموصلات الدولية" (Semiconductor Manufacturing International Corp) التي تتخذ من شنغهاي مقراً لها، إلى جانب شركتَي "هواوي" و"ZTE" وشركات صينية أخرى، إلى القائمة السوداء، ومنعها من الوصول إلى تصميمات البرامج وأشباه الموصلات الأمريكية.

وتدعم تلك الخطوات "إنتل" على المدى الطويل، ولكن تبقى مهمة إعادة الهيكلة العاجلة للشركة تقع بشكل مباشر على عاتق غيلسنجر وفريق عمله.

وقد بدأ غيلسنجر سريعاً تعيين مديرين تنفيذيين للشركة لشغل المناصب التي خلت بالتزامن مع مغادرة كرزانيتش، وبدأت التعيينات بعودة سونيل شينوي الذي غادر "إنتل" عام 2014 ليعمل نائباً أول لرئيس المجموعة، والمسؤول عن هندسة التصميم، وعاد أيضاً غلين هينتون الذي قاد سابقاً عمليات تطوير تصميم الرقائق الرئيسية للشركة.

أرسل غيلسنجر مذكرة إلى الموظفين في أول يوم عمل له استدعى فيها ذكرى المؤسسين نويس ومور وغروف، وعمد إلى تذكير الموظفين بـ"القيادة الملهمة" لمؤسسي "إنتل"، كما أشار غيلسنجر في يناير الماضي في أثناء مؤتمر عبر الهاتف في وول ستريت إلى ما واجهته "إنتل" خلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين من خسائر، وعودتها إلى استعادة حصتها السوقية في سوق الرقائق والسيرفرات بعد ذلك قائلاً: "الشركات الكبرى قادرة على العودة بعد الفترات الصعبة، ورغم التحديات، أقوى وأفضل وأقدر من أي وقت مضى".

وتعهد غيلسنجر في مارس ببناء مصانع جديدة واقتحام أعمال التصنيع التعاقدي لصالح الغير. وأشار إلى حاجة "إنتل" إلى إعادة قطاع التصنيع بالشركة إلى المسار الصحيح وإنشاء مصانع جديدة وتشغيلها، وهو ما قد يستغرق سنوات حتى تستطيع إنتل إيجاد طريقة تحقّق بها التوازن بين احتياجات العملاء الجُدُد، إلى جانب تلبية الاحتياجات الهائلة القائمة بالفعل.

وتسبق "TSMC" "إنتل" في التصنيع التعاقدي لصالح الغير بأكثر من ثلاثة عقود، كما نجحت في إنتائج رقائق 7 نانومترات منذ عام 2018 ، كذلك بدأت "آبل" تصنيع معالجات 5 نانومترات العام الماضي.

ولكن إصرار غيلسنجر على استعادة ريادة "إنتل" يبدو جدياً في ظل إعلانه عن استثمار الشركة 20 مليار دولار في أعمال التصنيع التعاقدي لصالح الغير. ولكن رغم خطة الشركة لزيادة نفقاتها الرأسمالية بنحو 35% عام 2021، تبقى خلف "TSMC" التي أعلنت عن استثمار نحو 10 مليارات دولار هذا العام، فيما يبدو أن المال وحده لن يعيد ريادة "إنتل" السابقة.