حملات التلقيح الناجحة في الدول الغنية ستحجب معاناة الفقراء

تعاظم التفاوت في توزيع اللقاحات بين الدول الثرية والدول الفقيرة
تعاظم التفاوت في توزيع اللقاحات بين الدول الثرية والدول الفقيرة المصدر: بلومبرغ
المصدر: بلومبرغ
تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

حملات التلقيح واسعة النطاق وتراجع أعداد الإصابات وانخفاض الوفيات في بعض الدول الثرية، باتت تهدد بحجب الحجم الحقيقي للمعاناة الناجمة عن جائحة كورونا حول العالم. والتي يرجح أن تستمر لأشهر إضافية، وربما لسنوات.

عبّر كارل بيلدت عن هذا القلق بصفته المبعوث للجهود التي تدعمها منظمة الصحة العالمية منذ العام الماضي، لتوزيع اللقاحات وغيرها من الأدوات الضرورية في الحرب ضد وباء كورونا. فمن أجل السيطرة على الفيروس الذي ينتشر في الهند وغيرها من الدول، لابدّ من إقناع الدول الثرية بمشاركة فائض الجرعات المتوفرة لديها من لقاحات كورونا، بهدف سدّ فجوة التمويل التي تقدر بنحو 19 مليار دولار، بحسب ما قاله بيلدت في مقابلة معه.

مبعوث بخبرة سياسية

جاءت نتائج مراجعة مستقلة للاستجابة الدولية لجائحة كورونا صدرت مؤخراً، منسجمة مع المخاوف التي عبّر عنها بيلدت. حيث دعت المراجعة مجموعة الدول السبع بالالتزام بتوفير 60% من الأموال المطلوبة هذا العام. كما حثّ التقرير الدول مرتفعة الدخل على تأمين أكثر من ملياريْ جرعة من اللقاحات للدول الفقيرة بحلول منتصف عام 2022.

قال بيلدت "في حال اعتقد المواطنون في بريطانيا والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة أن الأسوأ صار خلفنا، ثمة خطر بأن يتحول الاهتمام نحو مكان آخر"، محذراً من أن "السيناريو الأسوأ لم ينته بعد".

ولا يعد بيلدت غريباً على الجهود الدبلوماسية الحساسة؛ فقد سبق أن شارك في قيادة محادثات اتفاقية دايتون للسلام عام 1995 التي وضعت حدّاً لحرب البوسنة. كما كان يشغل منصب رئيس الحكومة السويدية خلال مفاوضات الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. واليوم، يجد بيلدت نفسه وسط حملة لحشد الدعم لصالح مبادرة تسريع الوصول إلى أدوات محاربة "كوفيد-19" التي أطلقتها منظمة الصحة العالمية، للضغط على القادة العالميين من أجل زيادة المساهمة في الحرب العالمية ضد جائحة كورونا.

في غضون ذلك، يبدو أن التفاؤل سيد الموقف في عدد من الدول المحظوظة. ففي الولايات المتحدة، بدأت الاستعدادات لتلقيح طلاب المراحل المتوسطة والثانوية، وهي فئة أقل عرضة للخطر نسبياً، وذلك قبل بدء المخيمات الصيفية والعام الدراسي الجديد. وبحسب مركز السيطرة على الأمراض والوقاية منها، يمكن أن تتراجع الوفيات من فيروس كورونا إلى ألف و500 وفاة أسبوعياً بحلول الخامس من يونيو، بعد أن كانت تسجل أكثر من 8 آلاف أسبوعياً في منتصف مارس.

وكانت بريطانيا أعلنت عن صفر وفيات في أحد تقاريرها اليومية خلال شهر مايو، وبدأت تستعد للسماح للمواطنين بالتلاقي والتقارب في المطاعم والحانات المغلقة. كذلك، أعلن مسؤولون آخرون في أوروبا، بينهم وزير الصحة الألماني عن أملهم بتسجيل انخفاض في أعداد الإصابات.

توزيع غير متساوٍ

فيما تحارب الهند للتعامل مع الارتفاع الكبير في أعداد الوفيات في صفوف سكانها الذين يبلغ عددهم نحو 1.4 مليار نسمة، تتصاعد المخاوف بالنسبة للكثيرين في أماكن أخرى حول العالم. فعلى الرغم من انحسار الوباء في دول العالم المتطور، إلا أن أكثر من 600 ألف إصابة تسجّل على مستوى العالم يومياً. في ظلّ تأجج الموجة الوبائية في دول مثل كولومبيا والبرازيل وماليزيا.

في هذا السياق، يشكل التخلي عن براءات اختراع اللقاحات، وهو اقتراح تدعمه إدارة الرئيس جو بايدن، أمراً واعداً، ولكنه غير كافٍ لمعالجة الحاجة الفورية للقاحات. ذلك بحسب إيلين تي هوين، مديرة مؤسسة "قانون وسياسة الأدوية"، وهي مجموعة بحثية في هولندا حيث قالت: "كلّ ما هو متوفر اليوم يجب أن يؤول إلى الأماكن الأكثر تأثراً بالأزمة"، مضيفةً: "ربما تلقيح المراهقين في كاليفورنيا لا يجب أن يحظى بالأولوية في هذه المرحلة".

حتى الآن، لم تتمكن منصة "كوفاكس" التابعة لبرنامج تسريع الوصول إلى لقاحات "كوفيد-19"، من شحن سوى 60 مليون جرعة. وهو رقم يمثل أقل من ربع عدد الجرعات التي وزعت في الولايات المتحدة وحدها.

كان الخبراء المستقلون دعوا في تقريرهم حول الاستجابة للجائحة إلى مراجعة عمل "كوفاكس"، مشيرين إلى قصور في الجهود المبذولة لضمان حصول العالم على اللقاحات والأدوية وغيرها من التجهيزات.

من جهته، شدّد روبرت ييتس، المدير التنفيذي لمركز الصحة العالمية في مؤسسة "شاتهام هاوس" في لندن على أهمية التنسيق الدولي من أجل معالجة مشكلة انعدام الكفاءة وانعدام المساواة في التوزيع. وقال ييتس: "نحن لسنا في وضع جيد هنا"، مضيفاً: "يجب أن تؤول اللقاحات إلى الدول والفئات العمرية الأكثر حاجة إليها، وهذا أمر لا يحدث حالياً".

مصير مشترك

يحذّر المسؤولون الصحيون من أن الجميع سيكونون عرضة للخطر في حال استمر الفيروس في التفشي في العالم. ما يهدد بالمزيد من الطفرات التي ستؤدي إلى إطالة أمد الجائحة في العالم بشكل كامل. وفي هذا الإطار، أكد بيلدت الذي عُيّن في منصبه في مارس الماضي، على ضرورة التركيز على تلقيح العاملين في مجال الرعاية الصحية في الدول النامية. وقال: "طالما تتفشى هذه الجائحة كالنار في الهشيم في بعض الأجزاء من العالم، لن نكون بأمان".

يذكر أن بعض الدول الغنية قد حصلت على كمية لقاحات تزيد بكثير عن حاجتها، فيما يدعو الناشطون هذه الدول إلى تشاركها مع دول أخرى. وبحسب مركز "ديوك" للابتكار في مجال الصحة العالمية في دورهام شمال كارولاينا، فإن الدول مرتفعة الدخل، اشترت نحو 5 مليارات جرعة، والدول متوسطة الدخل 2.2 مليار جرعة، فيما بلغت حصة الدول الفقيرة 270 مليون جرعة فقط.

تبرعات ضئيلة

مع ذلك، فإن الكثير من التبرعات التي تم التعهد بها لم تلق طريقها للتنفيذ بعد، حتى أن الكميات المتبرع بها تعدّ ضئيلة في وجه الأزمة. وكانت السويد قد تعهدت بالتبرع بمليون جرعة من لقاح "أسترازينيكا"، ووعدت فرنسا بمشاركة نصف مليون جرعة بحلول منتصف يونيو، فيما تعتزم الولايات المتحدة تقديم 60 مليون فقط من لقاح "أسترازينيكا".

قال بيلدت: "كان من الحكمة أن يطلب الأوروبيون والأمريكيون كميات تفيض كثيراً عن حاجاتهم الفورية"، وأضاف: "يعني هذا، أن بإمكانهم تشارك الفائض مع غيرهم، حين تصبح الأوضاع في بلادهم تحت السيطرة. ونحن نقترب من تحقيق ذلك. إن الأوروبيين والأمريكيين يتحدثون بهذا الشأن، ولكن علينا الانتقال من الحديث إلى التطبيق على أرض الواقع".

شدد بيلدت الذي شغل منصب رئيس الحكومة السويدية بين عاميْ 1991 و1994 على أهمية تشارك الجرعات بشكل عادل من خلال منصة "كوفاكس". وتابع: "إذا لم يتم ذلك، ثمة خطر من أن يتم إعطاء اللقاحات للدول الصديقة فقط، ولا أعتقد أن هذا سيكون مفيداً".

فوائد اقتصادية

أعرب المفاوض السابق في أزمة البلقان، عن قلقه تجاه نقص أجهزة الأوكسجين واضطرار بعض المناطق للتصرف بشكل غير سليم، بسبب عدم كفاية أجهزة الاختبارات. وعلى الرغم من أن برنامج تسريع الوصول إلى أدوات "كوفيد-19" تمكن من جذب أكثر من 14 مليار دولار حتى الآن، بشكل خاص من الولايات المتحدة وألمانيا وبريطانيا، إلا أن ثمة خطرا ألا يتمكن من بلوغ هدفه على صعيد التمويل هذا العام. وحذر بيلدت من أن هذا التقصير قد يسهم في إطالة أمد الوباء على الأرجح.

الحاجة لأموال إضافية

قال ييتس من "شاتهام هاوس": "على الدول الغنية مثل دول مجموعة السبع أو مجموعة العشرين أن توفر المال"، وأضاف: "إنه أمر مؤكد، إذا ساهمنا بتلقيح العالم، يمكن أن نوفر على الاقتصاد تريليونات الدولارات".

كان وزراء دول مجموعة السبع قد أكدوا على ضرورة تأمين "التمويل المناسب" وشجعوا كافة الشركاء في الحملة على زيادة الدعم في إطار الخطوة التالية للسيطرة على الجائحة وتعزيز الأمن الصحي.

إذ بالنسبة للدول العشرة مرتفعة الدخل، ومن بينها كندا وألمانيا واليابان وقطر وكوريا الجنوبية وبريطانيا والولايات المتحدة، فإنه من شأن استثمار الـ19 مليار دولار اللازمة، أن ينتج فوائد اقتصادية بأكثر من 466 مليار دولار خلال خمس سنوات، بحسب التقرير الصادر عن منصة "كوفاكس"، خلال الشهر الماضي.

عقّب بيلدت: "جميع الحكومات مدركة للجائحة ومدركة لما يحصل في بلادها"، وأضاف: "هل يوجد ما يكفي من الاهتمام لما يجري على الصعيد العالمي وتبعات ذلك بالنسبة للجميع، في حال لم تتم السيطرة على الوباء على مستوى العالم؟ لا يزال أمامنا الكثير من العمل".