"نادي باريس" يستغل جائحة كورونا لاستعادة نفوذه المفقود

المصدر: بلومبرغ بيزنس ويك
المصدر: بلومبرغ
تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

يسافر "سفيان بكر" بانتظام شديد منذ تسعينيات القرن الماضي إلى باريس لكي يطالب بتخفيض ديون إثيوبيا المتصاعدة. وبصفته وزيراً للمالية في الدولة التي مزَّقتها الحرب منذ 1996 إلى 2015، كان لدى "بكر" خيارات قليلة بخلاف ما يُعرف باسم "نادي باريس"، وهو المجموعة غير الرسمية من الدول الغنية التي أنقذت العديد من الحكومات، من الأرجنتين إلى زامبيا.

في عام 2004، وجد "بكر" نفسه مرة أخرى في مبنى الخزانة الفرنسية الشاهق المطلِّ على نهر السين، حيث يذهب المتوسّلون عادة سعياً وراء الإعفاء من قروضهم، ليخرجوا منه بعد ذلك بتعهد قيمته 1.3 مليار دولار لتخفيف عبء الديون. إلا أن هذه كانت آخر مرة يقوم فيها "بكر" بمثل هذه الرحلة.

صعود الصين

في السنوات التي تلت تلك الزيارة، أصبحت الصين أكبر مقرض للدول النامية، لتتجاوز بذلك الدول الأعضاء في "نادي باريس"، الذين كانوا فيما مضى الدائنين الحكوميين الأساسيين للعالم النامي –حيث باتت القروض المقدمة من النادي تمثل نحو نصف القروض الممنوحة من الصين أو ما يزيد قليلاً على نصفها، وفقاً لـ"معهد "كايل للاقتصاد العالمي". وبالتالي، فإن "نادي باريس" اليوم -على حد قول بكر- "لم يعد المنتدى الوحيد لحل مشكلات الديون".

إطار عمل مشترك

مع ذلك، يمكن لخطة جديدة معدّة لتخفيف أعباء الديون في أعقاب جائحة كورونا، أن تمنح "نادي باريس" فرصة لاستعادة نفوذه، أو -على الأقل كما يرى أعضاؤه- فرصة لإقناع بكين بالالتزام بقواعد النادي الخاصة بحل مشكلات الديون.

في العام الماضي، ساعد النادي على صياغة نظام تعليق مؤقت للدفع موجه إلى أفقر دول العالم، ونفضَ الغبار عن خطة قديمة تحث الدائنين على استخدام نموذجه في إعادة الهيكلة. وشكّل تبني مجموعة العشرين للاقتصادات الرائدة لما يعرف بإطار العمل المشترك، خطوة كبيرة على طريق تحقيق طموح "نادي باريس" المزمن، ألا وهو جلب الصين إلى طاولة المفاوضات.

تحفظ صيني

قبل هذا الاتفاق، كانت الصين، الدولة العضو في مجموعة العشرين، والتي تمضي قدماً في طريقها لتجاوز الولايات المتحدة كأكبر اقتصاد في العالم خلال هذا العقد، مترددة في "اللعب" وفق القواعد الغربية.

على الرغم من أن وزارة الخارجية الصينية أعلنت دعمها لإطار العمل المشترك والتعاون مع الآخرين من أجل تخفيف ديون الاقتصادات النامية، إلا أن بكين تبقي على تحفظاتها بشأن إطار العمل هذا. ففي حين نمت قوتها المالية، لا تزال البلاد تتطور، ويقول قادتها إن ذلك أكسبها رؤية أعمق للدول المدينة، بشكل يفوق ما كان يمكن أن يتوصل إليه "نادي باريس". وفي هذا الشأن، يقول "تانغ شياويانغ"، نائب مدير "مركز كارنيغي - تسينغهوا للسياسة العالمية" في بكين: "أظهرت الصين أن لديها فهماً خاصاً حول أفضل السبل لتعزيز التنمية، وكانت النتائج أفضل بكثير في أغلب الأحيان"

غموض وسرية

قلة من المسؤولين الماليين في الاقتصادات الصناعية الكبرى، توافق على ذلك. لكن ما يشكل قلقاً كبيراً هو أن الصين تطالب في العادة وأكثر من غيرها، بأن تكون هناك سرية في موضوع الإقراض، وهو ما يثير الشكوك في أن ديون الدول النامية للصين تفوق التقديرات رسمياً. وبعد مراجعة 100 اتفاق بين جهات الإقراض المملوكة للدولة الصينية والحكومات، حذّرت مجموعة من الباحثين الأمريكيين والأوروبيين من الغموض حول إمكانية وجود بنود في اتفاقات الإقراض الصينية، تمنع المدينين من إعادة هيكلة ديونهم عبر التنسيق مع "نادي باريس".

استرداد الديون

قبل ظهور "نادي باريس"، كان تحصيل الديون الدولية عملاً فوضوياً، وفي بعض الأحيان لا يخلو من العنف، مثلما حدث في عام 1861 عندما غزت القوات الفرنسية المكسيك بسبب قرض غير مدفوع. ورغم أن الفرنسيين خسروا أول معركة كبرى في 5 مايو من عام 1862، والتي يتم إحياء ذكراها في المكسيك فيما يعرف بالعطلة الرسمية "سينكو دي مايو" (Cinco de Mayo)، إلا أن الفرنسيين تمكّنوا من إلحاق الهزيمة بالجيش المكسيكي بعد ذلك بعام، وفرضت فرنسا تعيين الأرشيدوق النمساوي إمبراطوراً للمكسيك. لكن مع ذلك، لم يُسدّد القرض أبداً. وكذلك حدث في عام 1912، عندما غزت مشاة البحرية الأمريكية نيكاراغوا لضمان سداد القروض الأمريكية، في احتلال استمر لأكثر من عقدين.

تأسيس نادي باريس

لتجّنب هذا النوع من "دبلوماسية الزوارق الحربية"، تأسس نادي باريس في عام 1956. سعت الحكومات الغربية حينها إلى تحصيل القروض المقدمة للدول النامية في وقت مبكّر من الحرب الباردة. ولا يتمتع النادي، الذي يضم عدداً كبيراً من البيروقراطيين في الخزانة الفرنسية، بسلطة ملزمة قانونيناً، لكنه ساعد الدول الدائنة الكبرى على مدى أجيال في فرض إرادتها على العديد من المقترضين. وتم تصميم نظام النادي ليبرز نفسه في صورة القوي المغلّفة بطبقة خارجية من الرُّقيِّ. ويتذكّر ممثلو الدول المدينة الغرفة الصغيرة في وكالة الخزانة الفرنسية التي كانوا ينتظرون فيها قرار وشروط الدائنين لأي إعفاء، في ساعات مملِّة طويلة لم يحدّ من وطأتها سوى الزجاجات القديمة المسحوبة من قبو النبيذ المجهز جيداً. ويقول "جان بيير جوييه" (Jean-Pierre Jouyet)، رئيس النادي في الفترة من 2000 إلى 2005:

كان النادي أداة للتأثير الاقتصادي والمالي لفرنسا

سمعة النادي

كانت بداية النادي بطيئة، حيث لم يتعدَ عدد صفقاته السنوية، الصفقة الواحدة في أول عقدين من عمره، إلى أن تسارعت الوتيرة في الثمانينيات استجابة لحالات التخلف عن السداد في أمريكا اللاتينية، حيث تم توقيع 24 اتفاقية في عام 1989 وحده. وعزّزت هذه الصفقات من سمعة النادي كمفاوض صارم يفضّل المدفوعات المتأخرة على مسامحة الجميع. غير أن حدّة هذه الصورة خفّت مع تبنيه دوراً تنموياً.

في التسعينيات، انضم النادي إلى حملة لإعفاء الدول الفقيرة من قروض يزيد حجمها على 100 مليار دولار، وفي عام 2016، أصبحت البرازيل وكوريا الجنوبية من الدول الدائنة الناشئة. ويقول "إيمانويل مولان"، رئيس مجلس إدارة النادي ورئيس الخزانة الفرنسية: "نحاول دائماً التأكد من أن (نادي باريس) يظل سريع الحركة ومرناً في تقديم الحلول المناسبة. وإذا نجح إطار العمل المشترك، فيمكن أن يمهّد الطريق أمام الصين للانضمام رسمياً إلى النادي".

النادي وصندوق النقد

من بين المخاطر التي يتعرض لها إطار العمل المشترك الذي يقوده "نادي باريس"، هو ارتباطه بآلية الإقراض المعتمدة في صندوق النقد الدولي، والذي يفرض إجراءات تقشفية قاسية مقابل الحصول على إعفاء من الديون. ويقول "بيتر دويل"، الاقتصادي السابق في صندوق النقد الدولي والذي استقال في عام 2012 بعد انتقاده لدور الصندوق في الأزمة المالية العالمية: "سنضيّع عدة عقود بعد انتهاء الوباء إذا أصرَّ النادي على اتباع نفس طريقته السابقة في الضغط على الدول إلى أقصى حد لكي تدفع للدائنين القدامى". ولغاية الآن، أدى هذا الاحتمال إلى إضعاف الحماس تجاه البرنامج، إذ لم تعلن سوى 3 دول من بين 73 دولة، وهي تشاد وإثيوبيا وزامبيا، عن مشاركتها فيه.

دائنو القطاع الخاص

هناك تحدٍ آخر يتمثل في إقناع الدائنين من القطاع الخاص بإعادة التفاوض في شأن المدفوعات المستحقة. ويفرض إطار العمل المشترك على المدينين أن يطلبوا من المصرفيين وحملة السندات الحصول على الإعفاء ذاته الذي يمنحه المقرضون الحكوميون. لكن إثيوبيا أشارت إلى أنها لن تفعل ذلك، خوفاً من رد فعل المجتمع المصرفي العالمي. وعلى النقيض من ذلك، دعت وزارة الخارجية الصينية حملة السندات التجارية إلى المشاركة في أي صفقة.

مع ذلك، قد يكون إطار العمل المشترك في مصلحة الصين، لأن جهودها الثنائية لا تؤدي دائماً إلى نتائج مستدامة، كما يقول "توماس لامبرت"، نائب الأمين العام للنادي من 2004 إلى 2006 والمدير الإداري الحالي لمجموعة "لازارد سوفيرين آدفايزوري" (Lazard Sovereign Advisory)، والذي حذّر أيضاً من تحاشي استخدام تسمية "نادي باريس" أمام الصينيين، لأنهم "لا يريدون أن يكونوا جزءاً من نادٍ يربطهم بهيمنة الغرب. ولكن واقعياً، يعتبر إطار العمل المشترك هذا بداية لإعادة بناء (نادي باريس) على نطاق أوسع وبنفس المبادئ"، على حد قوله.