كشف هوية متعاملي "بتكوين" يحيّر الهيئات التنظيمية

المصدر: بلومبرغ
المصدر: بلومبرغ
تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

عندما وصف نائب رئيس شركة "بيركشاير هاثاوي" تشارلي مونغر في أوائل شهر مايو "بتكوين" بأنَّها "مفيدة للخاطفين والمبتزين"، و"تتعارض مع مصالح الحضارة"، سخر المتحمسون للعملات المشفَّرة من أدائه الاستثماري، وقارنوه بدمية مسنَّة، معتبرين أنَّه مسنٌّ للغاية ليتمكَّن من فهم التكنولوجيا. وتساءل مايكل سايلور، المستثمر في مجال العملات الرقمية، والمدير التنفيذي لشركة "مايكروستراتيجي" في مقابلة مع موقع إلكتروني متخصص في المعادن الثمينة، بشكل مجازي: "هل تذهب إلى جدِّك للحصول على مشورة استثمارية بشأن التقنيات الجديدة؟".

فدية "كولونيال بايبلاين"

يبدو تحذير مونغر وجيهاً للغاية في الوقت الحالي، خصوصاً بعدما قامت عصابة إجرامية بقرصنة إلكترونية استهدفت شركة "كولونيال بايبلاين"، مما أدى إلى توقُّف 45% من إمدادات الوقود في الساحل الشرقي بشكل رسمي. وبرغم عدم الكشف عن تفاصيل الاختراق، إلا أنَّ طريقة عمل المجموعة تعتمد على تشفير بيانات ضحاياها، والتهديد بنشرها علناً، ما لم يتم سداد الفدية المطلوبة بعملة "بتكوين"، أو أي عملة مشفَّرة أخرى.

كيف لا يعدُّ مثل هذا الأمر "تعارضاً مع مصالح الحضارة"؟

الغالبية العظمى من مستخدمي "بتكوين" ليس لديهم أي علاقة بالعالم الإجرامي، فضلاً عن أنَّ الكثير من عمليات السرقة يتمُّ تمويلها بالدولار الأمريكي المتعارف عليه. وبالتالي، فإنَّ إلقاء اللوم على "بتكوين" بسبب نشاطات أصحابها يشبه إلى حدٍّ ما الغضب من فئة المئة دولار بسبب استخدامها في صفقة مخدرات.

لكن الآن، وبعد السماح بإنفاق مكاسب عملة "بتكوين" المتنامية على مدى 12 عاماً بعيداً عن أعين الحكومة الساهرة، تتجه الجهات التنظيمية، سواء في الولايات المتحدة أو أوروبا، إلى اتخاذ إجراءات صارمة بشأن العملات المشفَّرة. فقد أصبح طموح هذه الهيئات، القضاء على الميزة المهمة المتمثِّلة في عدم الكشف عن هوية مالكي هذه العملات، التي تجعل من "بتكوين" ومثيلاتها من العملات الرقمية المشفَّرة ملاذاً للقراصنة والمجرمين الآخرين. وحول ذلك، قالت وزيرة الخزانة الأمريكية جانيت يلين خلال قمة مجلس الرؤساء التنفيذيين التي نظَّمتها صحيفة "وول ستريت جورنال" في الرابع من مايو: "ليس لدينا إطار عمل مناسب للتعامل مع القضايا المختلفة التي تفرضها تلك العملات من منظور تنظيمي"، واصفةً استخدام العملات المشفَّرة في الأنشطة غير المشروعة بأنَّه موضوع "جدير بالمعالجة".

سجل المعاملات

على النقيض من ذلك، قد تكون العملات المشفَّرة رديئة للغاية بالنسبة إلى المجرمين، إذ تقوم "بتكوين" بحفظ معاملاتها في سِجِل رقميٍّ ينشر كل معاملة علناً، مع تحديد المستخدمين من خلال سلسلة من الأحرف يطلق عليها "عنوان المحفظة". وإذا تمكَّنت إحدى وكالات إنفاذ القانون من الكشف عن مالك المحفظة؛ فإنَّها تحظى في الأساس بحقِّ الوصول إلى سجل معاملات هذا الشخص بالكامل دون الحاجة إلى استصدار مذكرة لاستدعائه. إذا قارنا ذلك مع عدم القدرة النسبية على تعقُّب النقود الورقية، ستبدو الدولارات التقليدية أفضل بالنسبة إلى العمليات الإجرامية العادية.

لكن بالنسبة إلى جرائم الإنترنت، تظل "بتكوين" هي وسيلة الدفع الافتراضية. فمنذ إغلاق مكتب التحقيقات الفيدرالي لمنصة سوق "سيلك رود" المخصص لتدوال العملات المشفَّرة في الأعمال غير المشروعة عام 2013، ظهرت عملات رقمية أخرى لا يمكن تتبعها بسهولة. ومع ذلك، ما تزال "بتكوين" هي الأكثر انتشاراً، ويرجع ذلك جزئياً إلى سهولة الحصول عليها، واحتفاظها بقيمتها بشكل أفضل من غيرها.

جرائم الإنترنت

كما تُظهر حادثة قرصنة شركة "كولونيال بايبلاين" أنَّ برامج الفدية هي المشكلة الأسرع نمواً. في عام 2020، ذهب ما يقرب من 350 مليون دولار من العملات المشفَّرة إلى محافظ مرتبطة بهجمات من هذا النوع، أي أكثر بأربعة أضعاف من مستويات عام 2019، وفقاً لشركة "تشيناليسيز" (Chainalysis)، وهي شركة تحليلات للأدلة الجنائية متخصصة في جرائم الإنترنت الخاصة بالعملات المشفَّرة.

وقد لاحظت ذلك الجهات التنظيمية، فقد اقترحت وزارة الخزانة الأمريكية أواخر عام 2020، القواعد التي تتطلَّب من البنوك، والبورصات، وأي شخص آخر يتعامل بعملة "بتكوين" بذل جهد أكبر لاكتشاف الهويات الحقيقية للأشخاص الذين يحاولون سحب العملة. وفي بعض الحالات، بذل جهد أكبر لمعرفة الأشخاص الذين يقومون بإرسال العملة المشفَّرة إليهم.

في هذ الإطار، جمعت وزارة الخزانة أكثر من 7 آلاف خطاب خلال فترة التعليق الرسمية على مقترحها للقواعد التنظيمية الخاصة بالعملات المشفَّرة. لم تأتِ التعليقات السلبية فقط من الشركات التي تركِّز على العملات المشفَّرة، مثل بورصة "كوين بيس" لتبادل العملات، ولكن أيضاً من شركات ذات ثقل كبير في "وول ستريت"، مثل "فيديليتي للاستثمارات" التي حاولت مؤخَّراً تعزيز وجودها في عالم التشفير. وقال بعض المحللين، إنَّ المقترح قد يتسبَّب في انهيار سعر "بتكوين".

قواعد تنظيمية

كان وزير الخزانة الأمريكي السابق ستيفن منوشين، قد دفع باتجاه وضع اللمسات الأخيرة على القواعد التنظيمية قبل مغادرة الرئيس دونالد ترمب لمنصبه، لكنَّ وزارته رفعت القرار النهائي إلى إدارة بايدن في نهاية المطاف.

ظهرت القواعد التي وصفها المدافعون عن العملات المشفَّرة بأنَّها أكثر إثارة للقلق في مارس، بإذن من مجموعة العمل المالي "فاتف"، وهي المنظمة الدولية التي تضع معايير عمل هيئات مكافحة غسيل الأموال حول العالم. وقالت المجموعة، إنَّه يجب على الدول مطالبة مشغِّلي شبكات التشفير بجمع البيانات حول أنشطة مستخدميها، حتى لو لم يكن المشغِّلون أنفسهم يحتفظون بمحافظ المستخدمين، في حين وصف مركز "كوين سنتر" لأبحاث العملات المشفَّرة الاقتراح بأنَّه يعدُّ "مراقبة جماعية من دون إذن قضائي".

من ناحيتهم، يعتقد المسؤولون التنفيذيون في مجال التشفير أنَّ مخاوف المنظِّمين مبالغ فيها. وبعد أيام من تعليقات "مونغر"، و"جانيت يلين"، قامت "كوين بيس"، التي سجل الطرح العام الأولي لأسهمها في إبريل مستوى قياسياً قُيِّمَت من خلاله بـ86 مليار دولار، بنشر تقرير "تدقيق للحقائق" للرد على المخاوف. وبحسب "تشيناليسيز"، انخفضت النسبة المئوية لحجم معاملات العملة المشفَّرة المرتبطة بالتمويل غير المشروع إلى 0.34% العام الماضي، من 2.1% في عام 2019.

الاستجابة للضغوط

استجابت "كوين بيس"، وشركات التشفير الأخرى للضغوط التنظيمية كما تفعل الشركات في كثير من الأحيان، من خلال توظيف جماعات الضغط والمسؤولين الحكوميين السابقين للدفاع عن قضيتها. فقد ازداد النشر العام لملفَّات الضغط التي تشير إلى المشكلات المتعلِّقة بالتشفير بأكثر من الضعف من عام 2019 إلى العام الحالي. وفي شهر إبريل، أصدرت جمعية تجارية تمَّ تشكيلها حديثاً من قبل "كوين بيس"، و"فيديليتي"، وشركات أخرى وثيقة بيضاء (مستند تقني) من تأليف مدير وكالة المخابرات المركزية بالإنابة السابق مايكل موريل. وخلصت الوثيقة إلى أنَّ الادعاءات حول استخدام "بتكوين" في التمويل غير المشروع "مبالغ فيها بشكل كبير".

يجعل نمو "بتكوين" فرض المزيد من الإجراءات التنظيمة أمراً حتمياً إلى حدٍّ ما. فقد كان من السهل على الحكومات تجاهل العملات المشفَّرة قبل عقد من الزمان. أما الآن، ومع المحاولات الحثيثة لبنوك كبرى مثل "جي بي مورغان"، و"غولدمان ساكس" من أجل الحصول على جزء من صناعة تقدَّر بمليارات الدولارات؛ فإنَّ أحداثاً مثل اختراق شركة "كولونيال بايبلاين" تجعل استخدام "بتكوين" الإجرامي خطراً غير مقبول. لقد قضت صناعة العملات المشفَّرة سنوات في الكفاح من أجل اقتحام التمويل العام، وهي الآن بصدد اكتشاف مقدار تكلفة النجاح.