رهان أمريكي على خطط بايدن في معالجة فوضى قطاع الإسكان

المصدر: بلومبرغ
تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

تشبه سياسة الإسكان في الولايات المتحدة الطبقات الموجودة في علم الجيولوجيا. فمنذ ثلاثينيات القرن الماضي، قامت الحكومة الفيدرالية بوضع طبقة فوق أخرى من البرامج، والحوافز لمساعدة الفقراء، والطبقة الوسطى، والمحاربين القدامى وغيرهم على شراء المنازل. واليوم، بات هناك تراكم في السياسات والبيروقراطيات المعقَّدة وغير الملائمة لاحتياجات عصرنا الحالي. يقول كريس هربرت، المدير الإداري لمركز "هارفارد" المشترك لدراسات الإسكان: "إنَّها تشبه الصخور الرسوبية. لم يصدف أن جلسنا يوماً، وقلنا لأنفسنا: فلنفكر بسياسة إسكان متماسكة في الولايات المتحدة".

استثمار ضخم

يتطلَّع الرئيس الأمريكي جو بايدن للقيام بما هو أفضل في هذا الشأن. فمع ارتفاع أسعار المساكن فوق متناول العديد من المشترين، وأزمة إخلاء محتملة تلوح في الأفق، تضغط إدارة بايدن من أجل ضخِّ أكبر استثمار فيدرالي في قطاع الإسكان منذ عقود، الذي سيكون مصمَّماً أيضاً بشكل يساعد عل تحقيق الأهداف المتعلِّقة بالمناخ والمساواة العرقية.

يتضمَّن هذا الاستثمار ضخ أكثر من 300 مليار دولار اقترحتها إدارة بايدن من أجل "بناء وتحديث" المساكن، كجزء من حزمة البنية التحتية المترامية الأطراف، بالإضافة إلى مجموعة كبيرة من بنود الإنفاق الاجتماعي التي ستزيد من حجم الأموال التي يحتاج إليها الأمريكيون للحفاظ على مساكنهم. وكل هذا يأتي إلى جانب صرف أكثر من 50 مليار دولار من أموال الطوارئ التي خصَّصها الكونغرس لمساعدة الأسر، التي لم تتلقَ إعانات تتعلَّق بمدفوعات الإيجار والرهن العقاري خلال جائحة كورونا.

تدفق الأموال هذا، يأتي بعد عقود على تراجع الإنفاق الفيدرالي على مساعدات الإسكان. وقد أسهم هذا التراجع -فضلاً عن سنوات من تراجع معدلات البناء- في حدوث نقص حادٍّ في المساكن الميسورة التكلفة خلال فترة تفشي الوباء. وأنفق ما يقربُ من 11 مليون أسرة أكثر من نصف دخلها على الإيجار في عام 2018، وهو نوع من الضغوط التي تسبَّبت في مرور العديد من الناس في كثير من الأحيان بأزمات مالية.

أرقام محيِّرة وفرص متفاوتة

هناك مجموعة من الأرقام المحيِّرة للعقل في هذا الصدد. فعلى سبيل المثال، في ليلة واحدة خلال شهر يناير 2020، كان هناك أكثر من 580 ألف شخص بلا مأوى في الولايات المتحدة، وفقاً لإحصاء سنوي نظَّمته وزارة الإسكان والتنمية الحضرية.

وقد تسبَّب وباء كوفيد-19 في تفاقم أوجه عدم المساواة الملاحظة في النظام، فقد بدت معدلات فقدان الوظائف لدى الأسر من ذوي الأصول السوداء، وأصحاب الأعراق اللاتينية، أعلى منها لدى عائلات تحمل البشرة البيضاء. ومن المرجَّح أن تتخلَّف هذه الفئات عن سداد الإيجارات، أو مدفوعات الرهن العقاري.

في الوقت ذاته، تسبِّب سياسة التيسير الكمي التي اعتمدها مجلس الاحتياطي الفيدرالي، في انخفاض معدلات الرهن العقاري إلى أدنى مستوياتها التاريخية. هذا الأمر سمح للكثيرين بإجراء عملية إعادة تمويل للمنازل التي يمتلكونها أو حتى شراء عقارات أخرى، في حين وجد آخرون ممن يشترون منازل للمرة الأولى أنفسهم خارج هذا السوق المزدهر.

يقول "علي وولف"، كبير الاقتصاديين في شركة "زوندا" المتخصصة في استشارات وبيانات الإسكان: "إذا لم يكن لديك رصيد ائتماني ممتاز، ودفعة أولى كبيرة وتنافسية، وإن لم تكن مستعداً للمزايدة على سعر المنزل إذا تطلَّب الأمر، ففرصك بالشراء ستكون ضئيلة".

ويهدف برنامج المساعدة في الإيجار في حالات الطوارئ، الذي أقرَّه الكونغرس هذا العام وخلال السنة الماضية- بالإضافة إلى سياسات مراكز السيطرة على الأمراض بشأن وقف الإخلاء- إلى منع تدهور الأوضاع المعيشية للأسر بصورة أكبر، ووقف المعاناة التي تسبب فقدان الوظائف.

يقول جين سبيرلينغ، كبير مستشاري الرئيس الأمريكي، الذي يشرف على حزمة المساعدات لمواجهة تداعيات جائحة كورونا، والبالغة قيمتها 1.9 تريليون دولار، وتمَّ تمريرها في شهر مارس: "إنَّ إحدى الفجوات التي ورثناها، ويتمُّ الآن إجبارنا على مواجهتها، هي الافتقار إلى هيكل واسع النطاق لمساعدة الأمريكيين على تجنُّب عمليات الإخلاء غير الضرورية، والمدمِّرة المحتملة". وأضاف: "نحن نسابق الزمن لسدِّ تلك الفجوة."

مساعدات سطحية

مع ذلك، كانت هذه الإعانات بطيئة في الوصول إلى المستأجرين في بعض الأماكن، وهي مجرد مساعدات سطحية تخفي تحتها العديد من المشكلات الأساسية. وهذا هو السبب في أنَّ البيت الأبيض يدفع باتجاه ضخ استثمارات أكبر من تلك المتوافرة حالياً، كجزء من خطط الرئيس للوظائف والعائلات الأمريكية. وتشمل هذه الاستثمارات زيادة كبييرة في الإعفاءات الضريبية -التي تمَّ تحديدها في 26 مايو الماضي- للمساعدة على تمويل الإسكان الميسور التكلفة، و40 مليار دولار لإصلاح المساكن الشعبية، التي من شأنها أن تساعد بشكل غير متكافئ المجتمعات التي تضمُّ أصحاب البشرة غير البيضاء (الملونين).

أيضاً، من شأن الإعفاء الضريبي الموسَّع المخصص لمن لديهم أطفال، أن يضخَّ المزيد من الأموال في جيوب العائلات، ويمكن أن تتسبَّب زيادة تمويل قسائم الإسكان الموجودة ضمن مخطط ميزانية الرئيس بايدن في مساعدة نحو 200 ألف أسرة إضافية، حتى تتمكَّن هذه الأسر من دفع الإيجارات.

تقول كارول غالانت، مديرة هيئة التدريس في مركز تيرنر لابتكار الإسكان في جامعة كاليفورنيا في بيركلي، إنَّه يمكن لهذه المساعدات المخصصة للأمريكيين من ذوي الدخل المنخفض أن تشكِّل تغييراً حقيقياً في أجزاء من البلاد، إذ يوجد بالفعل في تلك المناطق ما يكفي من المنازل، ولكن الأجور المتوافرة محلياً لا تواكب ارتفاع تكاليف الإسكان.

لكن على الرغم من ذلك، لن تكون تلك المساعدات كافية لتخفيف عبء الإيجارات في المناطق السكنية عالية التكلفة، كمنطقة خليج سان فرانسيسكو، وسياتل، وبوسطن، بحسب ما تقول غالانت. وستتطلَّب زيادة دعم المنازل في تلك الأماكن فتح ملف المعارضة المحلية لتطوير الأحياء السكنية، والمعروف باسم "نيمبس" (Nimbys).

إصلاح القوانين

يتركَّز حل إدارة بايدن لهذه المشكلة في تطبيق برنامج منح طوعي، من شأنه أن يمنح السلطات القضائية المحلية أموالاً لتمويل ما يمكن أن يكون عملية شاقة لإصلاح قوانين تقسيم المناطق، وإزالة العقبات الأخرى التي تحول دون إضافة المزيد من المساكن.

وتسبَّبت مثل هذه القوانين المحلية -بما في ذلك متطلَّبات وقوف السيارات للمباني الجديدة، وحظر المساكن التي تسكن فيها أكثر من عائلة– في زيادة الفصل بين المساكن، كما فاقمت مشكلة الزحف العمراني، ورفعت التكاليف.

لكن بعض الأماكن المرفهة ربما لن تحصل على دعم مالي، وفق ما يقوله جو كورترايت، مدير مركز "سيتي أوبزرفاتوري" (City Observatory)، وهو مركز أبحاث متخصص في السياسة الحضرية، يقع مقرّه في مدينة بورتلاند بولاية أوريغون.

وتقول سارة سعديان، نائب رئيس السياسة العامة في الائتلاف الوطني للإسكان منخفض الدخل، إنَّ النهج الأكثر فاعلية يتمثَّل في اشتراط إجراء الإصلاحات المطلوبة أولاً، حتى يتمَّ تقديم أموال الدعم الفيدرالية. وأضافت: "هذا هو المال الذي يحتاجون إليه حقاً، وهذه الطريقة ستكون أكثر إقناعاً".

تكلفة متزايدة

على المدى القريب، تحارب الإدارة الأمريكية أيضاً قوى السوق التي تجعل من الصعب إضافة المزيد من المساكن. فعلى سبيل المثال، بعدما زاد سعر أخشاب البناء، ارتفعت تكلفة تشييد المنزل الواحد بنحو 36 ألف دولار تقريباً في العام الماضي، وفقاً للجمعية الوطنية لبناة المنازل. كما أنَّ النقص في قطع الأراضي الجاهزة، وقلة العمالة تسببا أيضاً في إعاقة أعمال التشييد.

بالجمع بين كل تلك العوامل السابقة، نجد أنَّ هناك زيادة تضخمية كبيرة في تكلفة المسكن، التي يمكن أن ترتفع بأكثر من 4% سنوياً بحلول عام 2023، وهو مستوى أعلى من أيِّ مستوى سابق شهدته البلاد في الدورات الاقتصادية الماضية، بحسب تقديرات باحثين في مجموعة "غولدمان ساكس".

وفي حين أنَّ العديد من مقترحات الإسكان التي قدَّمتها الإدارة تحظى بدعم الحزبين الديمقراطي والجمهوري، إلا أنَّ الآمال في تقديم مشروع قانون البنية التحتية الذي يدعمه الجمهوريون تضاءلت. وقد يجبر ذلك الكونغرس على تمرير العديد من أولويات الرئيس بايدن من خلال إجراء مصالحة برلمانية على الميزانية، وهي عملية سريعة يمكن أن تستبدل تأييد كلا المجلسين بالحصول على تصويت الديمقراطيين فقط لصالحها. لكنَّ محاولات إقناع المعتدلين والتقدُّميين في الحزب الديمقراطي بالموافقة على هذه القوانين، قد تمنع الإدارة الأمريكية من الوصول إلى إصلاحات أكثر طموحاً.

ففي سوق الرهن العقاري على سبيل المثال، يمكن للناس حالياً الحصول على قروض مدعومة من الحكومة لشراء منازل في أجزاء من جنوب فلوريدا، التي تعاني بالفعل من فيضانات موسمية بسبب ارتفاع مستويات سطح البحر. ويمكن للولايات المتحدة أن تختار التوقُّف عن دعم قروضها العقارية، كما تقول "جيني شويتز"، وهي زميلة أولى في معهد بروكينغز تدرس سياسة الإسكان. تضيف شويتز: "هذا يبدو وكأنَّه أمر سهل المنال، ولكن حتى الآن اخترنا عدم التقدُّم للحصول على هذه القروض".

المخاطرة في التنفيذ

أيَّاً كان الشكل الذي ستتخذه خطة بايدن للإسكان، فإنَّ إدارة هذه الخطة بفعالية ستكون مهمة ضخمة. وفي هذا تقول غالانت، التي عملت كمساعد لوزير الإسكان خلال إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما، قبل أن تنتقل إلى جامعة كاليفورنيا في بيركلي: "المخاطرة الأكبر تكمن في مرحلة التنفيذ. والأمر الذي يخشاه البيروقراطيون أكثر من أيِّ شيء آخر هو انتقادهم من قبل الكونغرس لعدم صرف الأموال، أو إخراج تلك الأموال بطريقة تتسبَّب في إساءة استخدامها".

لقد أجبر الوباء الحكومة الفيدرالية على أن تكون أكثر ذكاءً، لأنَّها تضع برامج، وتوزِّع أموالَ إعانات الإغاثة على الولايات والسلطات القضائية المحلية. ويمكن أن يساعد ذلك في إرساء الأساس للإنفاق على الإسكان من خلال حزمة البنية التحتية، كما تقول "إيريكا بوثيغ"، المساعدة الخاصة للرئيس الأمريكي في ملف الإسكان والسياسة الحضرية. وتضيف بوثيغ: "لدينا تعاون مذهل عبر الوكالات. لذلك آمل أن تصل الموارد المخصصة من خلال هذه الخطط بشكل جيد، وأن تبدأ بالفعل في معالجة بعض المشكلات المتراكمة".