لا الطيران ولا السيارات.. القطارات وسيلة التنقل التي تسعى أوروبا لترويجها

عديد من شركات السكك الحديدية الوطنية في أوروبا الغربية عقدت اتفاقيات تعاون طويلة الأمد لربط المدن الرئيسية العابرة للحدود في القارة.
عديد من شركات السكك الحديدية الوطنية في أوروبا الغربية عقدت اتفاقيات تعاون طويلة الأمد لربط المدن الرئيسية العابرة للحدود في القارة. المصدر: بلومبرغ
المصدر: بلومبرغ
تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

في تمام الساعة 8:52 مساءً من 20 مايو الماضي، انطلق قطار النوم من محطة "أوسترليتز" للسكك الحديدية في باريس، وعلى متنه رئيس الوزراء الفرنسي جان كاستكس، الذي كان يدشن الرحلة الافتتاحية الليلية للقطار إلى مدينة نيس، التي تستغرق 12 ساعة.

قطارات النوم

وبينما لا تتعدى مدة رحلة الطيران التي تربط بين المدينتين 90 دقيقة، قضى كاستكس ونحو 100 مسافر آخَر في القطار، الليل بأكمله على أسرّة النوم. وقد استيقظوا في صباح اليوم التالي في منطقة الريفييرا الفرنسية، حيث تناولوا وجبة الإفطار المكوَّنة من كرواسون وقهوة بالكريمة، على طول ممشى متنزَّه "بروميناد ديزونغليه" في نيس.

وبعد أكثر من ثلاثة أعوام على توقفه عن العمل، أصبحت فكرة إعادة تشغيل خط "باريس-نيس" جزءاً من دفعة طموحة لإحياء القطارات الليلية في جميع أنحاء أوروبا، فضلاً عن الاستبدال ببعض الرحلات القصيرة أخرى ليلية أطول نطاقاً وأكثر استدامة بيئياً.

وعلى رغم التطورات التي شهدتها القطارات فائقة السرعة والطائرات الخارقة للصوت، فإن فرنسا ليست وحدها التي تستثمر في هذا الشكل البطيء من السفر، إذ يوجد كذلك قطار النوم النمساوي "نايت جيت" الذي بدأ تسيير خدماته أيضاً من فيينا إلى أمستردام في مايو.

في الوقت نفسه تخطط الشركة الهولندية الناشئة "يوروبيان سليبر" لتقديم رحلات ليلية جديدة تربط أمستردام وبرلين وبروكسل وبراغ بحلول العام المقبل، كما أن عديداً من شركات السكك الحديدية الوطنية في أوروبا الغربية عقدت اتفاقيات تعاون طويلة الأمد لربط المدن الرئيسية العابرة للحدود، مثل برشلونة وبرلين وباريس وفيينا، عبر القطارات الليلية.

انبعاثات أقلّ

وتشكّل هذه الجهود الجماعية حجر الأساس في "الصفقة الخضراء" التي أطلقها الاتحاد الأوروبي عام 2019. فبموجب هذه الصفقة، تستهدف أوروبا خفض انبعاثات وسائل النقل عبر القارة بنسبة 90%، وهو جزء من هدف أكبر لتصبح أوروبا محايدة للكربون بحلول عام 2050.

وفقاً للأرقام الصادرة عن المفوضية الأوروبية، يمثل قطاع النقل 25% من إجمالي انبعاثات الغازات الدفيئة في الاتحاد الأوروبي. ومن أصل هذه النسبة، يساهم النقل البري بنحو ثلاثة أرباع النسبة، بينما يقتسم النقل الجوي والبحري النسبة المتبقية.

تُصدِر السكك الحديدية 0.4% فقط من الانبعاثات، فهي وسيلة النقل الأقلّ إصداراً للكربون، وهذا يفسر تخصيص المفوضية الأوروبية ما قيمته 5.8 مليار يورو (7.1 مليار دولار) للبنية التحتية للسكك الحديدية في جميع أنحاء الكتلة. كما اعتبر الاتحاد عام 2021 "العام الأوروبي للسكك الحديدية".

من جهتهم فإن المسافرين لا يعتبرون السكك الحديدية مجرد طريقة أكثر صداقة للبيئة للتنقل في أوروبا، فمنهم مَن يفضّل أيضاً الاستيقاظ على شروق الشمس وغروبها، مثل محبّ السكك الحديدية باسكال داوبوين الذي كان يدعو منذ عام 2016 إلى عودة القطارات الليلية في فرنسا من خلال الاتحاد الذي أنشأه تحت اسم "نعم للقطار الليلي". ويقول داوبوين: "أحب الشعور ورؤية المناظر الطبيعية وهي تمر أمامي، كما أحب الشعور عندما أمرّ عبر الأنفاق، وأنا أعرف أني أمر داخل الجبال، والشعور بالجغرافيا المحيطة داخل القطار الليلي".

تكلفة التحول لتصبح صديقاً للبيئة

عندما ميزت المفوضية الأوروبية عام 2021 بكونه "عام القطارات"، لم تكن تتوقع تزامن ذلك مع جائحة، ومع ذلك سينطلق الجزء الأكبر من الحملة في سبتمبر من خلال قطار "كونيكتينغ يورب إكسبريس" الذي سيسلك مساراً دائرياً من لشبونة إلى باريس، وسيتوقف القطار في 70 مدينة على مدى 26 دولة طوال رحلته، وذلك للترويج لفوائد القطارات للسفر الترفيهي والرسمي على حد سواء.

تحسين البنية التحتية

يقول كيفن سميث، رئيس تحرير مجلة السكك الحديدية الدولية: "السكك الحديدية لديها حالياً قدر غير مسبوق من النيات السياسية الحسنة"، وأوضح أن "السياسيين ينفقون الأموال لتحسين البنية التحتية، وتقديم خدمات أفضل، وتشغيل مزيد من القطارات، وهذا سلوك سيتبعه المستهلكون أيضاً".

مع ذلك، لا تستطيع الحكومات الاعتماد فقط على الواجبات الأخلاقية لتعزيز الطلب، إذ يتعلق الأمر بالتكلفة أيضاً، إذ يقول سميث: "السفر بالقطار يجب أن يكون تنافسياً من حيث التكلفة، وهذا تَحَدٍّ حقيقي حالياً".

ففي ظلّ ارتفاع النفقات التشغيلية، حيث تحمل القطارات الليلية عدداً أقل من الركاب وتتطلب خدمات إضافية مثل ترتيب الأسرَّة وغسيل الملابس، تزيد تكلفة تذاكر السفر ذهاباً وإياباً في عربة النوم خط "باريس-نيس" على 218 يورو، أو نحو 266 دولاراً، في حين أن تكلفة الرحلات الجوية تبلغ 161 دولاراً في المتوسط.

لكن داوبوين يعتقد أن المسؤولية لا ينبغي أن تقع على عاتق شركات السكك الحديدية لتقديم أسعار أكثر تنافسية، بل يتعين على شركات الطيران تقديم مزيد من "الأسعار القابلة للمقارنة". ويقول: "عندما تعكس تكلفة السفر التكلفة البيئية الحقيقية وترتفع أسعار الطيران، سيتراجع لجوء الأفراد إلى الرحلات الجوية تلقائياً".

تدابير السلامة ضد الوباء

تراجع المسافرون عن اللجوء إلى السفر بالقطارات بشكل كبير في الربع الثاني من عام 2020، فقد انخفضت أعداد ركاب القطارات في فرنسا بنسبة 78% عن العام السابق، فيما تراجعت أعداد المسافرين جوّاً في أوروبا بأسرها بنسبة 51% في الفترة نفسها.

مع ذلك اتضح أن السفر بالقطار لا يمثل خطراً أكبر من الطيران عندما يتعلق الأمر بـ"كوفيد-19". ففي دراسة نُشِرَت الصيف الماضي في مجلة "الأمراض المعدية السريرية"، استنتج الباحثون أن أخطار انتقال الوباء في القطارات لم تشكل أهمية إحصائية. ويقول الباحث الرئيسي شينغي لاي، من جامعة ساوثهامبتون، إن فرص الإصابة بفيروس كورونا من شخص مصاب على متن قطار تتراوح بين 0.2% و0.4%، وبالتالي فهي مماثلة أو أصغر من فرص الإصابة على متن الطائرة.

وتتبع أوروبا نهجاً مماثلاً للولايات المتحدة، فالقطارات هناك تعمل أيضاً على تعزيز أنظمة تنقية الهواء التي توفّر تدفقاً جديداً للهواء بما يصل إلى 20 مرة في الساعة، كما تساهم المقصورات الخاصة في القطارات الليلية لخط "باريس-نيس" في تجنب العدوى، إذ يمكن للمرء حجز مقصورة كاملة تحوي من أربعة إلى ستة أسرّة.

العقد المقبل

تعتزم الحكومات توجيه المستهلكين إلى خيارات القطارات حتى بعد انقضاء العام الحالي، ففي أبريل أقرّت فرنسا قانوناً يحظر الرحلات الجوية الداخلية القصيرة التي يمكن استخدام القطارات لإتمامها في مدة تقلّ عن ساعتين ونصف الساعة، وهي مدة يمكن قضاؤها للتنقل بين باريس وبوردو أو نانت على سبيل المثال.

ورغم تلك المساعي، توجد تنازلات يتعين تقديمها عندما يتعلق الأمر بسبل الرفاهية. فعلى سبيل المثال، يفتقر خط "باريس-نيس" الجديد إلى وسائل الاستحمام وشبكة الإنترنت (واي فاي). لكن يُزوَّد المسافرون بمجموعة معدات تضمّ سدادات أذن وأقنعة للعين ومناديل مبللة. ويستمتع المسافرون في مقاعد الاستلقاء وكبائن النوم التي تضمّ أسرّة بطابقين بهذه المزايا.

وبحلول العام المقبل، سترتفع مستويات الرفاهية داخل القطارات، إذ سيبدأ تشغيل جيل جديد من قطارات "نايت جيت" في خدمة السكك الحديدية الوطنية النمساوية. وسيصبح هناك شاشة تحكُّم تعمل باللمس لتنظيم المقصورة وطاولات، وأضواء محيطة بالمكان ومحطات شحن، فيما ستضمّ المقصورات الفاخرة مراحيض ووسائل استحمام داخل المقصورة، تقريباً مثل مقاعد درجة رجال الأعمال في الرحلات الجوية.

رفاهية الضيافة

في غضون ذلك، تعمل الشركات الخاصة على سدّ الفجوة أمام مستهلكي المنتجات الفاخرة، فقد قالت مجموعة الضيافة "بلموند" إن عام 2019 كان عاماً قياسياً لرحلاتها الليلية الفاخرة على متن قطار فينيسيا "سيمبلون-أورينت" إكسبريس ذي الخمسة النجوم. وفي العام المقبل ستضيف نقاط ركوب محددة لمسارات رحلاتها الأوروبية الكبرى لتشمل أمستردام وبروكسل وفلورنسا وروما.

كما أن في هذا القطار ثلاثة أجنحة كبيرة جديدة، تتميز بحمامات رخامية بها معدات استحمام وأرضيات دافئة وتشطيبات على طراز الفن الزخرفي "آرت ديكو"، مع جدران خشبية مطلية. وكل تلك الأجنحة قابلة للحجز في رحلات الليلة واحدة بين مدن مثل روما وباريس بسعر يبدأ من 6200 جنيه إسترليني (8780 دولاراً أمريكياً) للفرد.

يقول غاري فرانكلين، نائب الرئيس للقطارات والرحلات البحرية في "بلموند": "الأمر لا يتعلق فقط بالانتقال من محطة إلى أخرى، بل بخوض التجربة ومعرفة المسافرين معك على نفس الرحلة. وأعتقد أن هذا سيكون أكثر أهمية خلال العامين المقبلين، بخاصة بعد أن كان الجميع في حالة إغلاق وعزلة".