الصين تقضي على "جاك ما" وتقلب المنافسة لصالح البنوك التقليدية

تصميم: سام آيلند - بلومبرغ
المصدر: بلومبرغ
تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

مضت ثمانية أشهر على اختفاء أشهر رجل أعمال عرفته الصين على الإطلاق عن المشهد العام، وهو جاك ما. وبحسب تقديرات متحفظة، فقد تراجعت ثروة "ما" بنحو 70 مليار دولار خلال تلك الأشهر الثمانية.

إخضاع "جاك ما" وأتباعه

تمثل هذه التقديرات وجهة النظر المتفائلة بشأن انخفاض قيمة "مجموعة آنت" (Ant Group) المملوكة لـ"ما"، والتي بدأت منذ أن عارض الملياردير حكومة بكين بشكل علني، وما تبع ذلك على الفور من إلغاء السلطات الصينية لخطط شركته لطرح عام أولي ضخم.

وحالياً يعمل القائمون على "آنت" على حساب التكلفة الحقيقية التي تكبدها عملاق التكنولوجيا المالية التابع لمجموعة "علي بابا".

لقد تم إخضاع أتباع "بابا ما" في البلاد بدورهم، وهو الذي يمثل النسخة الصينية من جيف بيزوس. وكان هذا الإخضاع من السلطة العليا في البلاد، متمثلة في الرئيس الصيني، شي جين بينغ وساعده الأيمن في الاقتصاد، ليو هي.

حالياً، يقوم فريق من المنظمين الماليين رفيعي المستوى في البلاد، بمطالبة إريك جينغ، وهو الرئيس التنفيذي لشركة "آنت" وفريق عمله، بتقديم تحديثات مستمرة بشان التقدم المحرز في إعادة هيكلة أعمال الشركة وفق التوجيهات الحكومية، بحسب مصادر مطلعة على الأمر، حيث بات يتوجب فحص كافة المبادرات الجديدة داخل الشركة من قبل المسؤولين الحكوميين.

ذكر أحد المصادر الذي طلب عدم الكشف عن هويته لحساسية القضية، أن السلطات تناقش تعيين ممثل حكومي في الإدارة التنفيذية العليا لشركة "آنت"، بغرض المراقبة.

شركات التكنولوجيا في الصين

يمتد ما يحدث مع "ما" إلى كبريات شركات التكنولوجيا في الصين، ويمثل الأمر اصطداماً ما بين القيادة الحرة، ومبادئ الرأسمالية التي امتزجت بعصر الإنترنت، والثروة، وما نتج عنها من تداعيات، مع أهداف وطموحات الحزب الشيوعي الصيني.

تصف الجهات التنظيمية ما يحدث بأنه "تصحيح" للمسار، وهو الأمر الذي لا تزال الحكومة تمارسه مع شركات أخرى، ما يؤثر على العمليات المالية الخاصة بشركات مثل "تينسنت القابضة" (Tencent Holdings)، و"جيه دي دوت كوم" (JD.com) و"بايت دانس" (ByteDance) المالكة لتطبيق "تيك توك" الشهير.

وفي الوقت الذي يتساءل فيه المسؤولون الأمريكيون والأوروبيون منذ سنوات عما يجب فعله مع شركات التكنولوجيا الكبرى التي تزداد قوتها يوماً بعد يوم، جاءتهم الإجابة من الصين بأنه لابد من تأكيد السيطرة عليها.

فرض السيطرة

في مجال التكنولوجيا المالية، يعني فرض السيطرة أن تقوم الحكومة بإجبار الشركات الناشئة التي تعمل في المجال مثل "آنت"، على العمل بشكلٍ أقرب للبنوك التقليدية، وهو أمرٌ يقود إلى قلب موازين القوى داخل الصناعة المالية الضخمة المثقلة بالديون، لتميل نحو مصلحة البنوك المملوكة للدولة، التي تتمتع بعلاقات جيدة مع الحزب الشيوعي وتلتزم بتنفيذ خططه.

وبينما تدعّي بكين، إساءة استغلال شركات الإنترنت والتكنولوجيا المالية الصينية الكبرى لقوتها السوقية، يريد "شي" كبح جماح المبتكرين دون خنق الابتكار، وتقليل المخاطر المالية دون تقليص المكاسب الاقتصادية. لكن السؤال هو، هل يستطيع فعل ذلك؟

خسائر الشركات

بالفعل، تلقت شركة "آنت" ونظيراتها، ضربات قاسية في ظل عمل الجهات التنظيمية على تقليص نفوذها، فيما يبدو أن المستقبل أقل ربحية بكثير أمامها.

فمن المتوقع أن يتقلص الإقراض عبر الإنترنت لمئات الملايين من الصينيين، وهو المحرك الأكبر لنمو تلك الشركات، حيث تتوقع "بلومبرغ إنتليجنس" تراجعه بنسبة 23% على مدى السنوات الخمس المقبلة.

كذلك من المتوقع تراجع الأموال المتدفقة إلى المنتجات الاستثمارية التي تباع من خلال منصات التكنولوجيا المالية، حيث تتم مراقبة نظم المدفوعات عن كثب.

يقول ليو مينغ، الشريك المؤسس لشركة "بروسبكت أفينيو كابيتال" (Prospect Avenue Capital) التي تدير أصولاً بقيمة 500 مليون دولار ومقرها بكين: "أولويات بكّين قد تغيرت".

بداية القصة

بدأت الأزمة في أكتوبر الماضي، عندما انتقد "جاك ما" الجهات التنظيمية المالية العالمية والبنوك التقليدية، حيث قال إنها منفصلة عن الواقع وتخنق الابتكار. وبعد ما يزيد على أسبوع بقليل من تصريحاته، تم تجميد الاكتتاب العام لشركة "آنت".

كما أصدرت السلطات منذ ذلك الحين قواعد جديدة تطال كل شيء من إقراض المستهلكين إلى الرافعة المالية للشركة ووضع قواعد تنظيم احتكار المدفوعات عبر الإنترنت.

استغلت الجهات التنظيمية ووسائل الإعلام الحكومية الاستياء الشعبي من أباطرة الثراء الفاحش في الصين، واتهمت تلك الشركات بإغراق الفقراء والشباب في الديون.

الرقابة على شركات التكنولوجيا

أخبرت الجهات التنظيمية أكثر من 12 شركة تكنولوجية بأنه يتوجب إعادة هيكلة أذرعها المالية لتصبح كيانات أشبه بالبنوك يشرف عليها بنك الشعب الصيني.

وتشمل إعادة الهيكلة إخضاع كل شيء للتدقيق، بدءاً من طريقة جمع بيانات المستهلكين وكيفية استخدامها، إلى كيفية منح القروض والمستحقين، وكذلك شركاتها التابعة في الخارج وهياكل ملكيتها.

يُقدر شوغين تشين، المحلل المقيم في هونغ كونغ أن "آنت" كانت أكثر الشركات التي تأثرت بتحديد حجم أعمالها التجارية الأكثر ربحية والتي تعتمد على تقديم قروض صغيرة عبر الإنترنت للمتسوقين بالشراكة مع البنوك مع التغييرات المفروضة من الحكومة.

فقد فُرض على الشركة تحت الترخيص الجديد، ألا تزيد هذه الديون على 300 مليار يوان (46.4 مليار دولار) مقارنة بأعمال تزيد قيمتها على ضِعف تلك القيمة قبل عام، علماً أنه كان من المتوقع أن تشهد أعمال الشركة نمواً مطرداً منذ ذلك الحين.

يقول جويل غالو، الرئيس التنفيذي لشركة "كولومبيا تشاينا ليغ بيزنس أدفيزور" (Columbia China League Business Advisory) للاستشارات ومقرها غوانغزهو، إن تراجع البنوك الحكومية عن شراكتها مع شركات التكنولوجيا المالية بناءً على طلب الجهات التنظيمية، زاد من التحديات التي تواجه هذه الشركات.

جمع البيانات

يبدو أن المزيد من الألم مازال ينتظر هذه الشركات. فقد جرت مطالبة "آنت" ومنافستها "تينسنت" بقطع "الروابط غير المناسبة"، والتي تستخدمها الشركتان منذ فترة طويلة لتوجيه مليار مستخدم لاستخدام تطبيقات الدفع المنتشرة في كل مكان وهما "علي باي" (Alipay) التابع لشركة "آنت" و"وي تشات باي" (WeChat Pay) التابع لشركة "تينسنت"، لتقديم خدمات أكثر من الدفع، مثل القروض وإدارة الأموال، فيما لا يزال يتعين على الجهات التنظيمية مراقبة وتقييم كيفية قيام الشركتين المهيمنتين على المدفوعات عن طريق الهاتف المحمول بتوجيه المستخدمين إلى تلك التطبيقات واستخدام ثروة البيانات التي تجمعها كل منهما.

ويعمل بنك الشعب الصيني على صياغة قواعد جديدة تحد من احتكار المدفوعات عبر الإنترنت، ويسعى في الوقت ذاته إلى إطلاق مشروعٍ لتولي مسؤولية البيانات التي تجمعها تلك المنصات وتعمل على مشاركتها مع المنافسين.

يقول زينون كابرون، العضو المنتدب لشركة "كابرونيجا" (Kapronasia) للاستشارات ومقرها سنغافورة: "طبقت الحكومة الصينية قواعد تنظيمية قليلة جداً ومتأخرة جداً لحماية صناعة خدمات المدفوعات من سيطرة شركتي "علي بابا" و"تينسنت" اللتين أصبحتا بمثابة الأبطال المحليين، لكن الحكومة الصينية تفضل سوق أكثر توازناً".

ثروات مبددة

أدى التحول المفاجئ في توزيع الثروات، إلى انتشار حالة استياء ضمن هذه الشركات. يقول ليون نيو، مدير شركة "سي جي إل" (CGL) للتوظيف ومقرها بكين، إن عدداً من موظفي "آنت" بمن فيهم كبار المسؤولين التنفيذيين، يبحثون عن كثب عن وظائف أخرى بسبب قلقهم بشأن تضاؤل قيمة خيارات الأسهم الخاصة بهم.

من جهته، قام "جينغ" الذي تولى زمام الأمور بعد استقالة الرئيس التنفيذي السابق سيمون هو، بشكل مفاجئ في مارس الماضي، بوعد موظفي الشركة بطرح أسهم الشركة للاكتتاب العام، فيما يبقى تأثر تقييم الشركة بالاضطرابات الأخيرة غير معروف.

يقدّر فرانسيس تشان، محلل "بلومبرغ إنتليجنس" قيمة شركة "آنت" وفقاً لمضاعفات ربحية شركات التمويل التقليدية بما يتراوح بين 29 إلى 115 مليار دولار، وهو ما يقل بكثير عن قيمتها السابقة البالغة 320 مليار دولار، والتي كان من المتوقع أن تحققها العام الماضي، فيما جاءت تقديرات المساهمين الرئيسيين للشركة أكثر إيجابية، حيث خفَّضت شركة "فيديليتي إنفستمنت" التي تملك 0.14% من "آنت" تقديراتها للشركة إلى النصف لتبلغ نحو 144 مليار دولار في نهاية فبراير مقارنة بتقييم بلغ 295 مليون دولار في وقت سابق.

كما يتراوح تقييم شركة "واربورغ بينكوس" (Warburg Pincus) التي تملك 0.33% من أسهم "آنت" بين 200 و250 مليار دولار.

سيطرة البنك المركزي

المخاطر المالية التي تواجه هذه الشركات باتت مرتفعة. أفاد تقرير نشرته "بلومبرغ نيوز" في مارس بأن "تينسنت" اضطرت إلى تحويل عمليات التمويل الخاصة بها إلى شركة قابضة يشرف عليها البنك المركزي. وتزامن مع ذلك خسارة الشركة 37 مليار دولار من قيمتها السوقية في يومٍ واحد.

بعد شهرين من ذلك التراجع، ذكرت وسائل إعلام محلية أن الجهات التنظيمية كانت قد طالبت الشركة بإجراء إصلاحات.

تترقب شركة "جيه دي تكنولوجي" (JD Technology) ذراع التجارة الإلكترونية لشركة "جيه دي" التي تملك ثاني أكبر موقع للتجارة الإلكترونية في الصين من حيث صافي الدخل، تعليمات واضحة من الجهات التنظيمية قبل الانخراط بشكل أكبر في مجال التمويل، وفقاً لمصدر مطلع على الأمر. وكانت شركة "جيه دي" قد تعرضت لموجة من الانتقادات والسخرية على نطاق واسع العام الماضي، بعد عرضها إعلاناً يظهر فيه عامل من ذوي الدخل المنخفض يقترض المال لدفع مقابل ترقية درجة السفر الخاصة به لصالح شركة طيران. وقد دعا البعض إلى مقاطعة الشركة إثر ذلك.

رفض كل من ممثلي "آنت" و"تينسنت" التعليق ،بينما لم ترد "جيه دي تكنولوجيا" وبنك الشعب الصيني والجهة التنظيمية للعمليات المصرفية في الصين على طلبات التعليق.

زيادة قدرة البنوك التنافسية

يقول غالو: "أزاحت القواعد التنظيمية التي تم فرضها على شركات التكنولوجيا المالية بعضاً من بريقها وصلابتها". ويتزامن ذلك مع سعي البنوك الكبرى إلى زيادة قدراتها التنافسية. حيث بلغت قيمة استثماراتها في التكنولوجيا المالية 31 مليار دولار العام الماضي.

لقد قفز إنفاق البنك الصناعي والتجاري الصيني، أكبر بنك في العالم من حيث الأصول بنسبة 40%، كما قام البنك بتوظيف 800 متخصص في مجال التكنولوجيا ليصل إجمالي فريق العمل بذلك المجال إلى 35 ألفاً و400 موظف. ويقدم تطبيق الخدمات المصرفية للبنك خدمات تشبه تطبيق "علي باي"، حيث يجمع بين خيارات السفر والترفيه وتناول الطعام إلى جانب مجموعة من الخدمات المالية التي يتم تقديمها لمستخدمي التطبيق البالغ عددهم 416 مليون مستخدم.

ارتفعت أسهم بنك "تشاينا ميرشانتس" (China Merchants) الرائد في مجال الخدمات المصرفية للأفراد بنحو 60% منذ تعليق الاكتتاب العام لشركة "آنت". وقد طلبت الجهات التنظيمية من "آنت" تقليص صندوق سوق المال الخاص بها، والذي كان يوماً ما الأكبر في العالم.

تزامن ذلك مع تقديم بنك "تشاينا ميرشانتس" الذي يتخذ من المركز التكنولوجي في "شنزن" مقراً له، منتجات استثمارية كانت مقصورة في السابق على عملائه الأثرياء فقط لتصبح متاحة لكافة العملاء باستثمار أقل من 100 ألف يوان. وارتفعت أصول الخدمات المصرفية الاستثمارية للأفراد التي يديرها البنك بشكل قياسي بعدما زادت بنحو 650 مليار يوان في الربع الأول لتصل إلى 9.6 تريليون يوان.

ثورة في الإقراض والخدمات المالية

لطالما سعت البنوك التقليدية في الصين إلى زيادة عملائها من الأفراد ممن لا يمتلكون تاريخاً ائتمانياً أو ضمانات.

في المقابل، ساعدت منصات مثل "آنت" في إحداث ثورة في طبيعة الإقراض، حيث نجحت في معالجة كميات كبيرة من البيانات الجديدة من أنظمة الدفع ووسائل التواصل الاجتماعي والمصادر الأخرى لتقييم الجدارة الائتمانية للأفراد. وفي الوقت الذي طلبت فيه الجهات التنظيمية من 13 منصة كبرى كبح عملياتها المالية، أقرت هذه الجهات نفسها بالدور الكبير الذي لعبته شركات التكنولوجيا المالية في تحسين كفاءة وتقييم الائتمان وخفض تكاليف المعاملات.

يقول كيفين كويك، المحلل في "برنشتاين" (Bernstein) عما يحدث مع شركات التكنولوجيا المالية: "هم لا يقصدون القضاء عليها".

تعطّش للقروض وثقة مشروطة

يتعطش الأفراد العاديون في الصين للقروض، ومنهم "يانغ مي" الفتاة التي تبلغ من العمر 30 عاماً، وتدير صالون تجميل صغيراً في مدينة تشنغدو جنوب غربي الصين، وكانت قد حصلت على قرض بقيمة 5 آلاف يوان لمساعدتها على شراء منتجات تجميل مختلفة عن طريق "آنت" في سبتمبر الماضي.

ستدفع "مي" فوائد بقيمة 185 يواناً كل ثلاثة أشهر، بما يعادل معدل فائدة سنوياً يبلغ 14.8%، وهو ما تراه "معقولاً".

كانت "مي" ترغب في الحصول على قرضٍ آخر لتمويل توسعها، لكنها علَّقت خططها بعد أن اضطرت "آنت" إلى تقييد الإقراض، حيث أكدت ترددها في الاقتراض من مؤسسة أخرى لأنها تثق بعلامة "آنت" التجارية.

يقول "لي لين" الذي يمتلك مصنعاً لتجهيز الأغذية وإنتاج منتجات الألبان وصلصات الطبخ التقليدية في مقاطعة سيشوان، إنه يواجه صعوبة في الحصول على قروضٍ من البنوك المملوكة للدولة. كما يؤكد أن البنوك المحلية تقدم القليل لأصحاب المشروعات الصغيرة، حيث لا تتعامل معهم بصفتهم عملاء رئيسيين.

يضيف "لي" البالغ من العمر 40 عاماً، أنه وزملاءه من رواد الأعمال، يواصلون الاعتماد على جهات الإقراض الصغيرة عبر الإنترنت بتكلفة مرتفعة نتيجة ما تفرضه الجهات التنظيمية من قيود، إلى جانب فرض فائدة على أساس قيمة القرض الإجمالي حتى بعد سداد نصف قيمة القرض. ويكمل "لي" حديثه قائلاً: "كان من الصعب للغاية على المشروعات الصغيرة الحصول على تمويل من بنوك الدولة، كما إن تكلفة الاقتراض مرتفعة للغاية بالنسبة لنا" مضيفاً: "هي تجعل عملية إدارة الأعمال التجارية، صعبة للغاية".