الفردية تجعلنا سعداء وأكثر إيثاراً

المصدر: غيتي ايمجز
Andreas Kluth
Andreas Kluth

Columnist at Bloomberg Opinion. Previously editor-in-chief of Handelsblatt Global; 20 years at The Economist. Author of "Hannibal and Me."

تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

الفردية أمر جيد، أما العقلية الجمعية فهي سيئة. هذا الاستنتاج توصلت إليه أول مرة في مراهقتي، حين قرأت أطروحة "الطريق إلى العبودية" لفريدريك هايك. منذئذ تؤكد تجارب حياتي صحة حدسي، وهذا ما يجعل صدري يضيق من استمرار معارضي الفردية في تشويه ماهيته سواء لجهل أو سوء قصد.

أخص بين التهم المضللة حول الفردية اعتبارها بشكل ما مرادفة للأنانية وتعظيم الأنا. وهناك طرح بأن المتفردين لا يفكرون إلا بأنفسهم، بينما يعمل الأفراد في الأوساط الجمعية على رعاية مصالح رهطهم.

عكس هذا الطرح هو الأقرب إلى الحقيقة. هذه خلاصة بحث عتيد أجراه أربعة من علماء النفس، وهم شون رودس، وريبيكا رايان، وأبيغيل مارش من جامعة جورج تاون، وديڤون غونتر من جامعة هارفارد.

سبر هؤلاء العلماء غور البيانات بطريقة تثير الإعجاب، رسموا من خلالها ما يرقى إلى خرائط نفسية-ثقافية للعالم. لم يقتصر ما قاسوه على الموضوعي من صحة الأحوال في بلدان مختلفة كمثل الثروة والصحة، بل تجاوز ذلك إلى الشخصي من إنطباع الناس حول ازدهارهم أو تقدمهم. كما أنهم رسموا خريطة للعالم وفقاً لستة معالم ثقافية حددها عالم الاجتماع الهولندي الراحل، خيرت هوفستيد.

تُقدّر بعض البلدان التسلسل الهرمي للسلطة أكثر من سواها. والبعض اصطلاحياً أكثر "ذكوريةً" ويمجدون الإنجاز والبطولة مثلاً. ويُقدّر آخرون التوافق على الآراء والتعاون. ترتاح بعض الثقافات أكثر لعدم اليقين والغموض فيما لا تجاريها أُخر بنفس الدرجة. البعض يركز على طويل الأمد وأخرون على قصيره. وهناك من يثمن الانضباط بينما يميل غيرهم الى التساهل.

ثم نصل الى الفردية وهي سمة الحضارات التي تقدر الاستقلال الذاتي للأفراد في صنع القرارات الشخصية والسعي لتحقيق الذات والتعبير عنها. على نقيضها، تعظم المجتمعات الجمعية تسخير الاستقلالية الفردية لصالح احتياجات المجموعة ومكانة الفرد ضمنها.

تحرى المؤلفون أيضاً الإيثار. حيث تمعنوا في بيانات كل شيء من العمل الطوعي والأفعال اللطيفة العشوائية إلى الأعمال الخيرية والتبرع بالدم والكلى ولب العظام، وصولاً الى المعاملة الرحيمة للحيوانات. ووجدوا رابطاً بارزاً أوحد بعد دراسة كل تلك البيانات. الفردية، وصحة الأحوال الشخصية، والإيثار مترابطة جداً كما تظهر الخرائط الآتية.

على نقيض ذلك، فإن البلدان ذات الثقافات الجمعية كالصين أو أوكرانيا، تأتي في الدرجات الدنيا على سلم الإيثار.

هل كان السامري متفرداً؟

يبقى التساؤل مطروحاً حول ما إذا كانت هذه علاقة سببية يتفاعل نتاجها وفي أي اتجاه تمضي، أم أنها مجرد ارتباط عوامل. لكن وفقاً لمارش، وهو أحد المشاركين في البحث، يبدو أن الفردية تجعل الناس يزدهرون، وهذا بدوره يجعلهم أكثر إيثاراً، كما تُحسن شعورهم تجاه الذات وهلم جرا في ميدان من الفضائل.

لكوني أؤيد فكر هاياك، أجد هذا مطمئناً أكثر من كونه مفاجئاً. يُعد منح الجماعة الأولوية وفق العقلية الجمعية بحق شكلاً من أشكال التمييز لصالح المطلعين من الداخل، سواء كان انتقائهم بالقرابة الجينية أو الأيديولوجية. كما أنها تأتي ضد الدخلاء، بمن فيهم الغرباء. وبالتالي، فإن "التضامن" الجمعي ليس طوعياً ولا شمولياً ويكون"التناغم" فيه قسرياً ومحدوداً على صعيد فكري. ذروة السنام هي الشيوعية ومرادفها القبلي أو الأممي هو الفاشية أما بالمفهوم الطائفي فتتمثل بالأصولية الدينية.

بالمقارنة، تركيز المتفرد على الاستقلالية الشخصية والحرية قد يؤدي إلى تخفيف روابط القرابة الاجتماعية، فيما يغدو العقل منفتحاً أيضا تجاه الأشخاص خارج الرهط، ويتضمن أولئك الأشخاص الغرباء كلياً. وبهذا الشكل، تتناغم الفردية مع الكونية. أتخيل أن السامري الصالح في الرواية عن المسيح كان متفرداً شعر بالسعادة بعد تقديم يد العون.

لكن لماذا تميل بعض الحضارات إلى الفردية أكثر من غيرها؟ يبدو جلياً أن التنمية الاقتصادية تساعد في ذلك. فكلما كنت أكثر ازدهاراً وأمناً، قلّت اعتماديتك على المجموعة التي تنتمي لها لمجرد النجاة، وبالتوازي تزداد قدرتك على السعي لتحقيق أهداف مستقلة وتجربة معارف جدد. ومع ذلك، فإن معطيات الاقتصاد تقدم فقط جزءاً من الإجابة، حيث إن دولاً كاليابان أصبحت غنية دون أن تتسم بالفردية.

حظر تعدد الزوجات ساهم بالفردية

ثمة تفسير أكثر طموحاً يرجع إلى العصور الوسطى. في زمن مبكر جداً ولدوافع غير مرتبطة البتة، ثبطت الكنيسة الرومانية الكاثوليكية التقاليد القديمة، مثل زواج أبناء الأعمام والأخوال، وكذلك تعدد الزوجات. بشكل عام، وقبل فترة طويلة من الإصلاح البروتستانتي، أسهمت هذه السياسات في إضعاف مؤسسات القرابة وشجعت على انتشار الأسر الأولية.

هذا الأمر أجبر الأوروبيين الغربيين على النظر إلى ما هو أبعد من مجموعاتهم، وإيجاد انتماءات أخرى، بما في ذلك التعريفات الفردية للهوية. الحداثة والمؤسسات من القانون العام الإنجليزي إلى اقتصاد السوق دفعت عجلة هذه النزعة. وهذا من شأنه تفسير سبب أن الفردية، وبالتبعية الإيثار، ليست خاصة بالغرب لكنها أكثر شيوعاً فيه، والمقصود بالغرب في هذا السياق الحضارات التي نشأت تاريخياً في أراض ذات تراث كاثوليكي، حتى لو أنها أصبحت في الغالب بروتستانتية أو علمانية اليوم.

ينبغي أن يبعث هذا كله على التفاؤل. فلربما تكون أصول الفردية غربية، لكن مستقبلها يبدو عالمياً، نظراً لانتشارها في كل مكان تقريباً. بمزيد حظ، سيؤدي هذا الأمر إلى تحرر المزيد من الأفراد على كوكبنا من العبودية ليغدوا أكثر انفتاحاً وسخاءً تجاه الآخرين، ناهيك عن الشعور بالسعادة والحرية.