كيف تمكّن مهندس شابّ من سرقة 10 ملايين دولار من "مايكروسوفت"؟

المصدر: بلومبرغ
تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

حملت بطاقة الهدية من "إكس بوكس"، وهي بطاقة ائتمان مدفوعة مسبقاً، سلسلة مؤلفة من 25 رقماً وحرفاً، وتُعرف أيضاً برمز "5x5". وأُرسل هذا الرمز عبر البريد الإلكتروني، رغم أنه لا يختلف كثيراً عن سلسلة الأرقام والأحرف الأخرى المدونة على بطاقات الهدايا التي تعلق عادةً على الرفوف قرب صناديق الدفع في صيدليات "سي في إس" (CVS) أو متاجر "تارغيت" (Target)، إذ تعرض بألوان عديدة كما في مكعب روبيك الشهير، وتباع بالنيابة عن شركات مثل "أبل" و"أبلبيز" (Applebee’s) و"ديزني" و"دومينوز"، وأي شركة أخرى قد تخطر على بالك، ومن بينها أيضاً شركة "مايكروسوفت" التي تسوّق بطاقاتها تحت شعار علامة "إكس بوكوس". بالطبع البطاقات وحدها من دون الرمز لا قيمة لها، إلا أن كلّ رمز "5x5" يوازي مبلغاً معيناً بالدولار.

في هذه الحالة، رمز "DD9J9-MXXXC-3Y6XD-3QH2C-PWDWZ" كان يساوي 15 دولاراً، ويمكن استخدامه لشراء أي من المنتجات التي تبيعها "مايكروسوفت" عبر الإنترنت، من ألعاب الفيديو إلى برامج "أوفيس" و"ويندوز" وأجهزة كمبيوتر "لينوفو" ومكبرات صوت "سونوس" (Sonos)، وغيرها.

بالتالي، يمكن اعتبار بطاقات الهدايا هذه نوعاً من العملات الرقمية، أشبه بـ"بتكوين". قد تبدو هذه المقاربة سخيفة بما أن بطاقات الهدايا مفهوم قديم يعود إلى زمن متاجر "بلاك باستر" (Blockbuster) لتأجير أفلام الفيديو، ولكن في الواقع توجد اليوم سوق على الإنترنت، إذ يمكن لأي شخص أن يبادل رموز بطاقات الهدايا بعملات بتكوين، ثمّ يحوّل مكاسبه إلى نقود. وحتماً تجذب هذه الأسواق المضاربين، إضافة كذلك إلى المحتالين، بما أنه يمكن القيام بعمليات التداول هذه من دون الكشف عن الهوية.

الوظيفة والبداية

تلقى فولوديمير كفاشوك رمزاً بقيمة 15 دولاراً قبل بضعة أسابيع من عيد الميلاد لعام 2017، وذلك ضمن مجموعة أخرى من الرموز تصل قيمتها الإجمالية إلى 300 دولار، إلا أن المهندس الذي يُعرف اختصاراً باسم "فوفا"، وهو شاب في منتصف العشرينيات، لم يدفع ثمن بطاقات هدايا "إكس بوكس" بنفسه، كما لم تكن هذه البطاقات هدية مبكرة من أقاربه لمناسبة عيد الميلاد. فكفاشوك كان قد بدأ قبل فترة وجيزة العمل في وظيفة بدوام كامل في مقرّ شركة "مايكروسوفت" في مدينة ريدموند بولاية واشنطن، إذ كان مكلفاً التحقق من البنية التحتية للتجارة الإلكترونية في الشركة.

ركّزت المهمة الموكلة إلى فريقه على محاكاة عمليات الشراء عبر متجر "مايكروسوفت" الإلكتروني للبحث عن ثغرات في نظام البيع، ما تطلب القيام بعديد من عمليات الشراء الوهمية من المتجر. مثلاً، إذا أضاف كفاشوك جهاز كمبيوتر "ديل" إلى عربة التسوق الإلكترونية، يمكنه أن يستخدم بطاقة ائتمان مزيفة تزوده بها "مايكروسوفت" لينجز عملية الشراء، ثمّ يوثق أي أخطاء قد تتخلل هذه العملية. وبما أن النظام يدرك أن عملية الشراء مزيفة، لا يُشحن المنتج الذي طلبه. على الأقل هذا ما كان يُفترض به أن يحصل.

اكتشاف الثغرة البرمجية

لكن كفاشوك وقع على ثغرة برمجية غيّرت حياته. كان ذلك الخلل واضحاً جداً لدرجة البلاهة، ولم يقدر أن يرغم نفسه على إبلاغ مديره به. فقد لاحظ أنه في كلّ مرة يحاول فيها اختبار شراء بطاقات هدية، يصدر متجر "مايكروسوفت" رمز "5x5" حقيقياً، وما لبث أن أدرك أن بإمكانه أن يولّد عدداً غير متناهٍ من الرموز، وكلّها مجاناً.

أحد كبار المهندسين السابقين في فريق كفاشوك، طلب عدم الكشف عن اسمه مثل المصادر الأخرى كافة في هذا التقرير؛ خشية ارتباط اسمه علناً بالانتهاكات التي حصلت لاحقاً، شبّه هذه الثغرة البرمجية بترك مصرف في الغرب الأمريكي القديم خزانته مفتوحة، ولكن في هذه الحالة في زمن لعبة "هيلو" (Halo) الإلكترونية. وأضاف الموظف السابق في "مايكروسوفت" أنه "عاجلاً أم آجلاً سوف يحاول شخص ما أن يأخذ عشرين دولاراً". وتابع: "حين لا يُقبض عليه سيكون لسان حاله: لا أحتاج إلا إلى ستة أشخاص لأفرغ كلّ الخزانة في ليلة واحدة، حين لا يكون أي من الموظفين هنا".

بدأ كفاشوك على مستوى صغير، فكان يصدر بطاقات "إكس بوكس" بمبالغ تتراوح بين 10 و100 دولار، إلا أن غنائمه تزايدت بسرعة، وحين قبض عليه العملاء الفيدراليون بعد نحو سنتين، كان قد سرق أكثر من 152 ألف بطاقة هدية "إكس بوكس" بقيمة أكثر من 10.1 مليون دولار. وكان ينفق من الأرباح التي حققها، فيعيش في منزل سعره أكثر من مليون دولار، ويخطط لشراء شاليه في منطقة تزلج، ويخت، وطائرة مائية. ولكن في نوفمبر الماضي، أصدر قاضٍ حكماً بسجنه لمدة تسع سنوات.

آلاف المستندات

يتناول هذا التقرير للمرّة الأولى تغطية معمّقة تلقي الضوء على حجم عملية الاحتيال التي قام بها كفاشوك، وهو يستند إلى آلاف الصفحات من المستندات المقدمة أمام المحكمة، ومقابلات مع موظفين حاليين وسابقين في "مايكروسوفت" ومحققين على صلة بالقضية، إضافة إلى أقارب وأصدقاء كفاشوك، ويكشف عن ممارسات شملت قرصنة أجهزة كمبيوتر، والتكسب غير الشرعي من "بتكوين"، والمضاربة باستخدام بطاقات الهدايا. ففي مرحلة ما، تداول كفاشوك بعدد هائل من رموز "5x5"، لدرجة أن جهة الادعاء قالت إنه كان وحده مسؤولاً عن التقلبات العالمية في أسعار بطاقات الهدايا من "إكس بوكس" في أسواق إعادة البيع. فحين كانت الأسعار تنخفض كثيراً، كان يمتنع عن البيع؛ على أمل أن يؤدي هذا النقص في بطاقات الهدايا إلى رفع السعر مجدداً في السوق.

وقال مايكل ديون، المدعي العام الرئيسي في القضية الجرمية الموجهة من الحكومة ضد كفاشوك، إن ما قام به "جريمة من الطراز القديم ولكن بتكنولوجيا حديثة".

في وقت تسلط فيه الأضواء على العملات الرقيمة، تُظهِر عملية الاحتيال هذه وما تلاها من تحقيقات كيف يمكن لسلسلة أرقام عشوائية بلا مغزى، مثل "DD9J9-MXXXC-3Y6XD-3QH2C-PWDWZ"، أن تشتمل على قيمة حقيقية، وأيضاً إلى أي مدى هي عرضة للتلاعب. فكفاشوك نفسه برر للمحققين أنه لم يقُم بأي عمل غير شرعي، لأن العملة الرقمية التي سحبها من "مايكروسوفت" لا تعتبر "أموالاً حقيقية".

القدوم إلى الولايات المتحدة

أتى كفاشوك إلى الولايات المتحدة قادماً من أوكرانيا في عام 2015 لحضور حفل زفاف عمته إيلا، التي كانت قد تزوجت من طبيب أسنان في جنوب كاليفورنيا، فسُحر أقاربه الأمريكيون الجدد بوسامته وتحدثه الإنجليزية بطلاقة، وانخراطه السريع في أسلوب الحياة في جنوب كاليفورنيا. تذكر كارول لين، والدة العريس، كيف تلذذ كفاشوك بأشعة الشمس في نيوبورت بيتش، واستمتع بـ"فرحة تجربة ركوب الأمواج وارتداء ملابس الغوص... فبدا وكأنه تجسيد للحلم الأمريكي".

ينحدر كفاشوك من مقاطعة ريفنا أوبلست في غرب أوكرانيا، وكان قد درس علوم الكمبيوتر والاقتصاد في واحدة من الجامعات المرموقة في البلاد، إذ يعمل كل من والده ووالدته مدرّسين.

يتذكره زملاء الدراسة بأنه كان طالباً ذكياً ولكنه عادي (تظهر إحدى إفادات العلامات أنه حصل على تقييم مقبول في الشؤون المالية، وضعيف في إدارة المخاطر). كان يحب شرب الجعة فيما يلهو بألعاب الفيديو "ماينز سويبر" (Minesweeper) و"وورلد أوف ووركرافت" (World of Warcraft)، كما يمارس رياضة الملاكمة ويقود دراجة نارية. وفي صورته على "فيسبوك"، يظهر وهو يركب دراجته النارية من نوع "ياماها"، مع لعبة "باربي" مثبتة في المقعد الخلفي، ويرفع يديه نحو السماء.

في عام 2014، شارك كفاشوك في المظاهرات التي عمّت كييف وأدت إلى الإطاحة بالرئيس المدعوم من روسيا، وشكّل ذلك واحداً من الأسباب التي دفعت عائلته إلى السعي إلى إبقائه في الولايات المتحدة بعد حفل زفاف إيلا. ساعدته عمته وزوجها، فاجتمع بمحامٍ متخصص بشؤون الهجرة كي يقدم طلب لجوء، وحصل على وظيفة في مجال البرمجة مراجعاً لرموز "جافا سكريبت". كما بدأ علاقة عاطفية مع مغتربة أوكرانية أخرى تقيم في الولايات المتحدة تُدعى ديانا ليونارد، كانت غالباً ما تنشر صوراً لها على "إنستغرام"، تستعرض فيها حياتها تحت أشعة الشمس في أمريكا.

صدمة ثقافية

يرى إيفان زفاريكا، زميل الدراسة السابق لكفاشوك الذي حافظ على التواصل معه عبر تطبيق "سكايب"، أن الصدمة الثقافية كانت حتمية. وقال: "الانتقال من دولة خارجة من الاتحاد السوفييتي إلى دولة عصرية، مثل الولايات المتحدة أو كندا، قد يشعرك وكأنك في فيلم أو لعبة كمبيوتر". وأضاف أن "فقدان التواصل مع الواقع لهذه الدرجة أمر غريب فعلاً". في أغسطس 2016، حصل كفاشوك على وظيفة مهندس كمبيوتر في شركة متعاقدة مع "مايكروسوفت" لتطوير متجرها الإلكتروني. انتقل بعدها إلى شقة بمساحة 500 قدم مربعة، مكونة من غرفة نوم واحدة، في مجمّع "نورمان أرمز" السكني، وهو مبنى قديم في سياتل على مقربة من جامعة واشنطن. كان إيجار شقته 1300 دولار، أي أكثر بـ150 دولاراً من راتب والده الشهري، الأستاذ الجامعي في أوكرانيا.

في وقت فراغه، أنشأ كفاشوك مع زميله رائد الأعمال في واشنطن، لي وانغ، شركة أطلقا عليها اسم "SearchDom.AI"، التي كان شعارها "حلّنا الآلي لكل مشكلاتك التسويقية". وفي إعلانات ترويجية كوميدية للشركة، يظهر الثنائي وهما يطرقان بصخب على جرس وطبول ويصرخان: "SEARCHDOM" (اتصلنا بوانغ هاتفياً، فأجاب أنه لا يتذكر شيئاً عن كفاشوك، ثمّ أغلق الخط).

تنافس مع العباقرة

في "مايكروسوفت"، شعر كبير المهندسين السابق الذي تحدثنا معه أن كفاشوك مغرور بالنسبة إلى موظف متعاقد من درجة وظيفية منخفضة، إلا أن الشاب بدا سعيداً في البيئة التنافسية التي كان يعمل فيها، إذ يسعى زملاؤه إلى اختراع "الابتكار العظيم التالي"، حسب وصف كفاشوك في شهادته أمام المحكمة لاحقاً. وقال في شهادته: "كان عليّ استخدام كل خلية عصبية في دماغي كي أتمكن من ابتكار أمر رائع يمكّنني من التنافس مع كلّ أولئك العباقرة". وتابع متحدثاً أمام المحكمة: "الأمر أشبه بفيلم (ماتركس)، إذ عليك الاختيار، إما الحبة الزرقاء وإما الحمراء".

ليس من المعروف متى بالضبط لاحظ كفاشوك الثغرة في بطاقات الهدايا بنظام الأمن التابع لـ"مايكروسوفت" (التي تقول الشركة إنها أغلقتها الآن)، ولكن بعد تعيينه في وظيفة دائمة في "مايكروسوفت" مهندساً براتب 116 ألف دولار سنوياً، اكتشف كفاشوك أن حسابات الاختبار الخاصة بفريقه مصممة فقط لمنع موقع التجارة الإلكترونية من شحن المنتجات المادية التي تُشترى بعمليات بيع مزيفة، مثل أجهزة الكمبيوتر الشخصية والأجهزة اللوحية وألواح المفاتيح وغيرها. فشركة "مايكروسوفت" لم يكن هدفها أن يطلب موظفو اختبار أنظمة البيع الإلكتروني بطاقات هدايا "إكس بوكس" كجزء من وظيفتهم. كان يمكن لكفاشوك أن يبلّغ مديره بنقطة الضعف هذه، إلا أنه فضّل تناول الحبة الحمراء.

في العادة، كان كفاشوك وزملاؤه يتناوبون على استخدام عدد من الحسابات المزيفة التي سجلوها تحت أسماء وهمية لدى فريق متجر "مايكروسوفت"، إذ استخدموا أسماء وبيانات أمنية ركيكة بما أن الحسابات كانت مزيفة، واعتقدوا أن لا فائدة منها خارج ريدموند.

لكن بهدف إخفاء هويته، استحصل كفاشوك على كلمات مرور حسابات الاختبار الخاصة بزملائه واستخدم بيانات الدخول الخاصة بهم (فكلمة المرور "VerySecret1" يبدو أنها لم تكن سرية جداً). في ذلك الخريف، عمل كفاشوك من داخل شقته في سياتل، إذ أخفى نشاطه على الإنترنت من خلال توجيه حركته عبر خوادم في اليابان وفي روسيا. وبعد أن قام بطلبات شراء تجريبية، ظهرت فوراً عشرات رموز بطاقات الهدايا، تقدر قيمتها بألفَي دولار، ثمّ 4200 دولار، وبعدها مبالغ أعلى بكثير. وبين مشتريات كفاشوك الأولى التي أكدت له أن بطاقات الهدايا المختلسة هي ذات قيمة فعلية وأن عملية الاحتيال سوف تنجح، كان تنزيل برنامج "مايكروسوفت أوفيس" البالغ سعره 164.99 دولار.

أتمتة عملية الاختلاس

في يناير 2018، صمّم كفاشوك برنامج الكمبيوتر "PurchaseFlow.CS" ليسرّع عملياته. فمن خلال بضع نقرات على التطبيق يمكنه اختيار قيمة بطاقة الهدية (30، 75، 100) والعملة (دولار أمريكي، يورو، جنيه إسترليني) وعدد عمليات الشراء التي يرغب في القيام بها. وقال محامو الادعاء لاحقاً إن كفاشوك أنشأ البرنامج الإلكتروني "لغاية واحدة فقطـ، وهي أتمتة عملية الاختلاس والقيام بعمليات احتيال وسرقة على نطاق واسع".

تعود بطاقات الهدايا إلى حقبة التسعينيات على الأقل، إذ صُممت لتكون هدية في اللحظة الأخيرة أو وسيلة لمنح المتلقي مرونة حيال الطريقة التي يريد أن يستخدم بها الهدية، وفي الوقت عينه تشكل بادرة ألطف من إعطائه النقود، إلا أن بطاقات الهدايا هي في الواقع أسوأ من النقود من نواحٍ عدّة، إذ تفقد قيمتها تدريجياً مع مرور الوقت، وفي بعض الأحيان يفرض التجار رسوم خدمة على البطاقات أو يلزمون المتلقي استخدامها قبل تاريخ انتهاء صلاحية محدد، وإلا تتبخر قيمتها. وبما أن نسبة كبيرة من المستهلكين ينسون بطاقات الهدايا، فإن بطاقات بمليارات الدولارات لا يُستفاد منها سنوياً. ولهذا السبب تحبها الشركات، فبطاقات الهدايا غير المستخدمة تشكّل ربحاً صافياً لها.

إلى ذلك، يمكن لبطاقات الهدايا، مثل عملة "مايكروسوفت" الرقمية، أن تقلص من شفافية الأسعار. ففي منتصف العقد الأول من الألفية الجديدة، كانت بطاقات هدايا "إكس بوكس" تساوي نقاطاً افتراضية بدل الدولارات، ما جعل قيمتها الفعلية محيرة. وكان والت موسبرغ، كاتب العمود المتخصص بالتكنولوجيا في "وول ستريت جورنال" في ذلك الوقت، قد وصف في عام 2006 هذا النظام بـ"المخادع". وقال إنه يتطلب 79 نقطة "إكس بوكس لايف" من أجل شراء أغنية لمشغل الوسائط المتعددة "زيون" من "مايكروسوفت"، على الرغم من أن سعر النقاط الـ79 يبلغ 99 سنتاً، وبالتالي فإن حاصل النقاط للسنتات كان يتقلب حسب المكان الذي تشتري منه والعدد الذي تشتريه.

خدعة نظام التسعير

من جهته، قال مسؤول سابق رفيع المستوى لشؤون التجارة الإلكترونية في "مايكروسوفت"، مطلّع على النظام، إن هذا الغموض في النقاط كان متعمداً. وشرح قائلاً: "كان من المطلوب تسويقياً ألا تكون النقاط مساوية للعملة. فلو كان النظام يقوم على سنت لكلّ نقطة، فسيصبح من السهل جداً على المستهلك أن يجري الحسابات ذهنياً". ولكن إذا لم يستوعب بوضوح قيمة النقاط، فيصبح أكثر ترجيحاً أن ينفق المال كما لو أنه مال مزيف. ومن أجل تعزيز الإنفاق، عرضت الشركة في البداية النقاط بكميات كبيرة فقط، تبدأ بـ5 دولارات على الأقل، ما يعني أنه لا يمكنك تنزيل أغنية دون أن يكون لديك مجموعة من النقاط المتبقية. إلا أن نظام التسعير هذا جعل "مايكروسوفت" عرضة للمتداولين الفطنين الذين بدؤوا في إعادة بيع نقاط "إكس بوكس". وحسب مسؤول سابق لشؤون المنتجات، دفع ذلك الشركة إلى الانتقال عام 2013 نحو بطاقات الهدايا القائمة على ما وصفوه بـ"العملة المخزنة للقيمة" أو "CSV" (اختصار لـ"currency stored value")، ما يعني أن بطاقة هدية من "إكس بوكس" بـ20 دولاراً تساوي قيمتها الفعلية الآن 20 دولاراً.

حققت عملة "إكس بوكس" نجاحاً باهراً. وحسب مصدرين مطلعين، درست "مايكروسوفت" لفترة وجيزة احتمال التعاقد مع طرف ثالث لإدارة بطاقات الهدايا، مثل شركة "فيزا"، إلا أن هذا النشاط التجاري كان يدرّ عليها كثيراً من الأرباح ولم ترغب "مايكروسوفت" في إعطاء حصة منه لـ"فيزا". كذلك استخدمت الشركة بطاقات الهدايا وسيلة تسويق منخفضة التكلفة، فـ"مايكروسوفت" تقدمها من حين إلى آخر لممارسي ألعاب الفيديو كمبادرة حسن نية، ولا تحتسب الشركة البطاقات الموزعة مجاناً ضمن نفقاتها التسويقية إلا في حال الاستفادة منها. وبالطبع في أحيان كثيرة تبقى من دون أن تُستخدم. والأهم، حسب المدير السابق لشؤون التجارة الإلكترونية، أن "مايكروسوفت" تتكبد رسوم معاملات أقل عند الدفع لها بواسطة بطاقات الهدايا مقارنة بالدفع باستخدام البطاقات الائتمانية.

بيع بحسومات كبيرة

حين بدأ كفاشوك عمليته الاحتيالية، كان المصرف الافتراضي التابع للشركة يعالج معاملات بمئات ملايين الدولارات، فهل كان أحد ليلاحظ اختفاء البعض منها؟ ملأت صفوف وصفوف من رموز "5x5" جداول "إكسل" بفضل تطبيق الاختلاس الذي طوّره كفاشوك (تنزيل تطبيق "أوفيس" بسعر 164.99 دولار يبدو أنه كان مفيداً له، إذ إن طباعة جدول "إكسل" المليء بالرموز قد تمتد على 2344 صفحة)، وعندها أصبح جاهزاً لسحب مبلغ ضخم.

ففي مارس 2018، قدم بائع عرضاً مغرياً، تمثل ببطاقات هدايا "إكس بوكس"، قيمة الواحدة منها 30 و50 و75 دولاراً، بحسم يصل إلى نحو 55%. وللشارين في الدول الأخرى، عرض البائع خمس عملات إضافية، بينها الين الياباني والدولار الأسترالي. وجاء في إعلانه: "أبحث عن شريك تداول"، متعهداً بالردّ في خلال 15 دقيقة أو أقل. وأضاف: "نبدأ التداول وأعطيك رمزاً. إذا كنت متصلاً بالإنترنت، يحدث الأمر على الفور".

كان كفاشوك ينشط تحت الاسم المستعار غريزلد وولف (Grizzled Wolf) على موقع "Paxful.com"، السوق الإلكترونية الرائدة لتبادل بطاقات الهدايا بالعملات المشفرة التي غالباً ما تكون "بتكوين". ويحظى الموقع بشعبية واسعة لدى المشترين والبائعين بالجملة، الذين يُجْرون عمليات المقايضة عبر رسائل الدردشة، فيما يحتفظ موقع "Paxful" بالعملة المشفرة كإيداع إلى حين الاتفاق على الصفقة.

"أحتاج إلى 75 يورو"... كتب ماكو، وهو متداول مموّل جيداً يزعم أنه من الصين ويستخدم صورة فتاة مبتسمة تشير بإشارة السلام. طلب ماكو 300 بطاقة "إكس بوكس" من غريزلد وولف بقيمة 27848 دولاراً. في ذلك الوقت، لم يكن "Paxful" يفرض على المستخدمين تقديم بطاقات هوية مصدقة من الحكومة، ما أتاح لهم أن يبقوا مجهولي الهوية. ولم نتمكن من التواصل مع ماكو للحصول على تعليق.

"حسناً"... أجاب غريزلد وولف بعد أربع ثوان فقط. وقد تقاضى من ماكو 1.98 بتكوين، كانت قيمتها في حينها 17240 دولاراً. ثمّ نسخ ولصق مجموعة الرموز "5x5" المسروقة في رسالة الدردشة، إذ يرجّح أن يكون ماكو قد باعها إلى مشترين آخرين مع هامش ربح.

حتى بعد هذه الصفقة الضخمة، ظلّ كفاشوك متحمساً لبيع مزيد، وقال لماكو: "يمكننا أن نزيد الكمية". تلت تلك العملية تداولات أكبر مع متداولين أكثر جرأة، وصبّت مزيداً من الدفعات بعملة "بتكوين" في محافظ كفاشوك المشفرة.

تعاملات ضخمة

أسهم ماكو ومستخدم آخر لموقع "Paxful" بتعاملات ببطاقات هدايا "مايكروسوفت" تقدر بنحو 7 ملايين دولار، ما أثار شبهات بأن يكون تمويلهما جزءاً من عملية إجرامية. ففي إحدى المرات قال ماكو: "انتظر لحظة حتى أتصل بالرئيس".

ولكن على الأقل، البعض من الذين اشتروا بطاقات من كفاشوك كانوا ببساطة أشخاصاً يحاولون شراء عملات لألعاب الفيديو بأسعار مناسبة. حين اتصلت بمتداول ينشط تحت اسم أفستيربون (Avsterbone)، كان قد اشترى بعضاً من رموز "إكس بوكس" من كفاشوك من دون أن يعرف أنها مسروقة، اكتشفت أنه كان مجرد طالب في المرحلة الثانية في ذلك الوقت، وليس رجل عصابات يحمل جهاز "ماك بوك".

قال أفستيربون، واسمه الحقيقي أفي راشلين، وهو اليوم طالب يدرس إدارة الأعمال في جامعة ولاية بنسلفانيا ويبلغ من العمر 19 عاماً، إن "كثيراً من أصدقائي على متن حافلة المدرسة كانوا يلعبون على الإكس بوكس، لذا كنت أشتري هذه الرموز من متداول على (Paxful) بحسم كبير، ثمّ أعيد بيعها لأصدقائي بحسم أيضاً". وأضاف: "إذا كنت أحصل على حسم بـ50%، فهم كانوا يحصلون على حسم بـ25%، وهكذا الجميع يكسب، ما عدا (مايكروسوفت) كما بتنا نعلم الآن".

من ناحيته، قال متحدث باسم "Paxful" إن كفاشوك كان "شخصاً خبيثاً"، وإن الشركة تعاونت مع الادعاء. وكان موقع "Paxful" قد عزز منذ حينها قواعد الامتثال، وحسّن تكنولوجيا مكافحة تبييض الأموال التي يعتمدها.

يمكن لمتداولي "بتكوين" أن يبقوا هوياتهم مجهولة، إلا أنه يمكن تتبع الأرقام الخاصة بأي تعاملات عبر سجل رقمي عام. والمقصود بذلك سلسلة الكتل أو الـ"بلوكتشين"، ما ينشئ سجلات يمكن أن تستخدمها السلطات الحكومية. وقد حاول كفاشوك تجنب ذلك من خلال تهريب بعض أرباحه عبر موقع "ChipMixer.com" الذي وصفه المدّعون الأمريكيون لاحقاً بأنه أداة تبيض أموال عبر الإنترنت، يعمل كـ"خلاط" يمزج بين "بتكوين" وعملات مشفرة أخرى بذات القيمة، من أجل "تغطية وإخفاء المصدر الأصلي" و"طمس أثر البلوكتشين" (قال متحدث باسم "ChipMixer" إن النظام يهدف إلى المحافظة على الخصوصية، وهو "مُستخدَم من عدد كبير من الأفراد، قد يكون بعضهم سيئين"). ثمّ نقل كفاشوك الـ"بتكوين" التي استبدلها إلى حسابه في "Coinbase"، التطبيق واسع الشعبية لتداول العملات المشفرة، إذ باعها مقابل النقود. وفي شهر مارس من ذلك العام، أودع 1.4 مليون دولار من "Coinbase" في حسابه الجاري الشخصي في مصرف "ويلز فارغو". ثمّ أودع مبلغ 935 ألف دولار إضافي في أبريل. وقال لمحاسبه إن أرباحه من "بتكوين" كانت ببساطة هدية من والده.

حياة رغيدة

بين عمله في "مايكروسوفت" ونشاطه الجانبي في السرقة، أمضى كفاشوك بعض وقته وهو يتأمل "أنماط المنازل التي يحبها الأمريكيون" على موقع "BobVila.com"، حسب نشاطه على الإنترنت الذي تتبعه محامو الادعاء.

اشترى سيارة "تسلا موديل إس" حمراء اللون مقابل 162899 دولاراً، ثمّ منزلاً عصرياً بقيمة 1.675 مليون دولار قرب بحيرة واشنطن مع مرسى للقارب. وأخبر الوسيط الذي ساعده على شراء المنزل أنه جنى كثيراً من المال من تداول الـ"بتكوين" ويرغب في شراء منزل على الواجهة المائية نقداً (يستذكر الوسيط قائلاً: "سألته مستغرباً: كم سنك؟"). أرسل بعدها كفاشوك صورة عن صك ملكية المنزل إلى ديانا عبر البريد الإلكتروني مع عبارة "أحبك"، وسرعان ما بدأت تلتقط صورها لـ"إنستغرام" من الشرفة المكشوفة قرب الموقد.

"إذا بدؤوا في تعقبي فسوف أهرب بكل بساطة"

تُظهر مؤشرات عدة أن كفاشوك كان متوتراً، فاستناداً إلى تاريخ عمليات البحث التي أجراها على الإنترنت، يبدو أنه كان يحاول الإقلاع عن الكحول، ويبحث عن طريقة للحصول على تأشيرة سفر إلى كندا. كانت أعماله لا تزال تسير قدماً، إلا أنه بدأ يواجه مشكلات في إمداداته. فلسبب ما، لم تعمل بعض رموز "5x5" حين حاول المشترون استخدامها عبر الإنترنت. أفستيربون، تلميذ الثانوية، طالبه بإعادة المال إليه وقطع التواصل معه، كما أخبر غريزلد وولف أنه اتصل برقم خدمة الزبائن لدى "مايكروسوفت" وأخبروه أنه جرى التبليغ بأن بطاقات الهدايا مسروقة. رد غريزلد وولف الأموال إلى بعض الزبائن، وزوّد البعض الآخر ببطاقات هدايا أخرى، وحمّل "مورّده" مسؤولية الرموز المعطلة.

لكن "الفوضى العارمة"، وفق وصف كفاشوك، لم تنتهِ، حتى إنها أثارت قلق زبونه الأكبر ماكو لاحقاً. فبعد أن تلقى ماكو كمية كبيرة من الرموز غير الصالحة، اتصل هو الآخر بـ"مايكروسوفت"، ما أثار غضب غريلزد وولف. وقال كفاشوك في رسالة إلى ماكو: "تباً لك يا رجل، لا يجب أن ترسل هذا الطلب إلى (مايكروسوفت)، أرسله لي". وأضاف: "إذا بدؤوا في تعقبي فسوف أهرب بكل بساطة".

بدء التحقيقات

في الواقع، كانت "مايكروسوفت" قد بدأت تحقيقاتها بالفعل. ففي فبراير 2018 لاحظ فريق التحقيق في عمليات الاحتيال في الشركة، المعروف اختصاراً باسم "FIST"، تضاعفاً غير مبرر في عمليات الشراء عبر الإنترنت بواسطة بطاقات الهدايا. واعتقد المحققون في البداية أن "جهة خبيثة خارجية" تقف خلف عملية الاحتيال، حسب تقرير داخلي. لكنهم سرعان ما أدركوا أن المتورط شخص من داخل الشركة.

في شهر مارس، تعقب المحققون في الشركة نشاطاً استثنائياً قادهم إلى حسابَي اختبارات داخليين مسجلين باسم موظفين اثنين في فريق متجر "مايكروسوفت"، واكتشفوا أن الحسابين سبق واستهلكا رموزاً بقيمة نحو 8 ملايين دولار، بيعت على "Paxful" ومواقع أخرى. أغلقوا الحسابين، ولكن ما هي إلا بضعة أيام حتى بدأ حساب ثالث يشتري الرموز. تمكن ذلك الحساب (كلمة مروره: $tore123) من سرقة بطاقات هدايا "إكس بوكس" بقيمة 1.6 مليون دولار إضافية في غضون 26 ساعة، قبل أن تحظره "مايكروسوفت" هو الآخر.

جرى التحقيق مع الموظفَين صاحبَي حسابَي الاختبارات اللذين بدوَا ضحيتين مصدومتين أكثر من مرتكبين متورطين بجريمة، حسب تقرير مؤرَّخ في 17 أبريل. ووجدت "مايكروسوفت" أن برنامج الاختبارات "Fiddler" الذي يستخدمه الموظفون للتبليغ عن الأخطاء البرمجية يحتوي على بيانات تكشف تفاصيل تسجيل الدخول الخاصة بأعضاء فريق الاختبار. وبالتالي بإمكان أي شخص يستخدم "Fiddler" أن يقرصن حساباتهم، ما يعني أن موظفاً أو متعاقداً آخر يقف خلف العملية. لجأ فريق "FIST" إلى أندرو كوكسون، الذي يتولى التحقيقات الجنائية في المخالفات المرتكبة من طرف موظفي "مايكروسوفت" منذ نحو 15 عاماً. وتمكن كوكسون، المحقق المخضرم في وحدة جرائم الكمبيوتر في شرطة اسكوتلنديارد، من تضييق دائرة البحث والتوصل إلى مشتبه به جديد: فولوديمير كفاشوك.

شبهات واستجواب

بعد تصفح بيانات "CSV"، اكتشفت "مايكروسوفت" أن أحد حسابات الاختبار الرسمية الخاصة بكفاشوك استُخدم لشراء بطاقات هدايا "إكس بوكس" بشكل غير شرعي في عام 2017. وما أثار الشبهات أكثر، كان ارتباط اسم كفاشوك بمجموعة أخرى من البطاقات المسروقة التي استُخدمت في متجر "مايكروسوفت" الإلكتروني من أجل شراء ثلاث بطاقات رسوميات "جي فورس" (GeForce) عالية الجودة من صُنع شركة "إنفيديا" (Nvidia). وكان البائع قد شحنها إلى غريغو شيكور في الوحدة رقم 309 في مجمّع "نورمان أرمز" في سياتل. اللافت أن أحداً بذلك الاسم لم يكُن يعيش في "نورمان أرمز"، وأكبر رقم لوحدة سكنة في المجمع ككل كان 308. كفاشوك كان يقيم في الوحدة 101.

في 18 مايو، عند الساعة 2:30 بعد الظهر، جلس كفاشوك مقابل كوكسون، فيما كان الأخير ينقر على جهاز التسجيل الصوتي في غرفة مؤتمرات في مقرّ "مايكروسوفت" في ريدموند. قال المحقق: "من الواضح أننا نحاول التوصل إلى حقيقة كلّ هذه الرموز الأخرى التي تقول لنا إنك غير مسؤول عنها"، حسب سجل اللقاء. ولدى سؤاله ما إذا كان قد استخدم حسابات الاختبار من أجل إصدار رموز، أقرّ كفاشوك باستخدام نحو 600 منها، ولكن فقط من أجل شراء أفلام ليشاهدها مع صديقته في المنزل. وقال إنه وديانا احتفظا بقائمة من الرموز قرب جهاز الـ"إكس بوكس" في المنزل بجوار التلفاز، وكانا يشطبان بعض الرموز كلّما نزّلا فيلماً جديداً، حسب قوله. أمّا في ما خصّ رقاقات "إنفيديا"، فأقرّ بأنه استخدم بطاقات رسوميات من أجل تعدين العملات المشفرة، إلا أنه زعم بأنه لا يتذكر أنه طلبها ولا يعرف سبب شحنها إلى غريغور شيكور في عنوان سكنه السابق. وقال لكوكسون: "أنا مشوّش حيال هذا الأمر".

هفوات المبتدئين

بعد أربعة أسابيع من اللقاء، طردت "مايكروسوفت" كفاشوك، فعلى الرغم من كونه مهندساً محترفاً، فإنه ارتكب عديداً من هفوات المبتدئين. صحيح أنه حاول تغطية استخدامه للإنترنت عبر خوادم دولية، لكنه لم يتنبّه إلى أنه استخدم الكمبيوتر ذاته القائم على نظام "لينكس"، مع النسخة القديمة ذاتها من متصفح "فايرفوكس" من أجل السرقة. وقد مكّنت هذه البيانات الوصفية "مايكروسوفت" من ربطه بالجريمة، حتى إنّ المحققين اكتشفوا أن رخصة "مايكروسوفت أوفيس" التي اشتراها في بداية عملية الاحتيال كانت مسجلة باسم حساب إداري في شركته الناشئة "SearchDom".

استمر كفاشوك وديانا بعيش حياة الترف في منزلهما الجديد، فكانا يقومان بجولات في القارب حول ميرسر آيلند، ويذهبان لقضاء العطلة في هاواي. وفي صورة على "إنستغرام" تعود إلى ديسمبر 2018، يظهر كفاشوك وهو يحمل مشروب كوكتيل في حانة "كليف دايف بار" قرب ماوي، بعد فترة وجيزة من حصوله على وظيفة أخرى في القسم الرقمي من "مجموعة سينكلير برودكاست" (Sinclair Broadcast Group) قرب برج الإبرة الفضائية في سياتل.

يصف أحد زملاء كفاشوك السابقين في شركة "سينكلير" الرجل بأنه "ودود" و"متعاون"، ويتصرف "بطريقة مسترخية جداً"، ويبدو مثل أي موظف آخر في مجال التكنولوجيا.

لم يكشف قطّ أنه ثري، إلا أن زملاءه افترضوا أنه يتحدّر من عائلة غنية حين أتى إلى العمل بسيارته "تسلا" الحمراء.

في 16 يوليو 2019، أرسل إليه صديقه رسالة عبر منصة "سلاك" (Slack) ليدعوه إلى تناول القهوة، إلا أن حسابه كان مغلقاً، كما لم يُجِب بعدها على الرسائل النصية، ولم يسمعوا عنه أي شيء بعدها.

أدلة دامغة

في ذلك اليوم، كان العملاء الفيدراليون الذين أجروا تحقيقاتهم الخاصة حول كفاشوك بعد أن أحالت "مايكروسوفت" القضية إليهم، قد داهموا منزله الكائن قرب البحيرة. وقد جلس كفاشوك متربعاً على الكنبة فيما فتشوا المنزل ووجدوا عديداً من الأدلة التي تثبت تورطه بعملية الاحتيال، بينها مفاتيح محفظة عملات مشفرة، ودفاتر تحتوي على معلومات عن حسابات مصرفية، ووحدات تخزين الذاكرة "يو إس بي" مليئة برموز "5x5"، وكمية ضخمة من الأموال النقدية، بينها أكثر من 4 آلاف دولار في حقيبة يد ديانا (بعد الاتصال بها عبر "إنستغرام" رفضت ديانا الإجابة عن الأسئلة لهذا المقال، لكنها قالت إن كفاشوك "ألطف شخص قابلته، وكان يحاول دائماً مساعدة الآخرين"). كذلك وجد المحققون قائمة باستثمارات كفاشوك المستقبلية مكتوبة بالأوكرانية على ورقة رسم بياني. وتكشف القائمة أنه كان يخطط لشراء مقتنيات مترفة أخرى، بينها منزل بقيمة 4 ملايين دولار في ماوي، ومنزل بمليون دولار في "الجبال قرب مصعد التزلج"، ويخت واحد.

أما عنوان هذه القائمة فهو "كيف سأدير مبلغ الـ10 ملايين التالي؟".

إحالة إلى المحاكمة

في فبراير 2020، أحال المدّعون الفيدراليون في مقاطعة غرب واشنطن كفاشوك إلى المحاكمة بتهمة تبييض الأموال وانتحال شخصية والاحتيال الإلكتروني والاحتيال عبر البريد وتقديم تصاريح عوائد ضريبية مزيفة. وقال ديون، المدعي العام الرئيسي في القضية، إن إيجاد وحدات تخزين الذاكرة المليئة برموز "5x5" في منزل كفاشوك "يوازي إيجاد الأموال المسروقة في غرفة المتهم في عملية سطو على مصرف".

وقفت "مايكروسوفت" عديداً من بطاقات الهدايا المسروقة قبل استخدامها، ما جعلها عديمة الجدوى للأشخاص الذين أعادوا بيعها، وتمكنت دائرة الإيرادات الداخلية من تتبع الأموال المشفرة المبيضة. مع ذلك، قالت السلطات الحكومية للمحكمة إن كفاشوك "اتخذ خطوات لإخفاء أثر الأموال في جريمته. وقد يكون أخفى الملايين في مكان ما".

من جهتهم، قال محامو كفاشوك إن موكلهم لم يكُن يخطط للاحتيال على أحد، فقد أصدر رموز بطاقات الهدايا في مسعى لمساعدة الشركة، إذ كلما زاد عدد بطاقات هدايا "إكس بوكس" التي توزَّع مجاناً، تكسب المنصة مزيداً من الشعبية، ما يؤدي إلى زيادة الإنفاق، وبالتالي كان يفكر من المنطلق التالي: لما لا يوزع عشرات الآلاف من بطاقات هدايا "إكس بوكس" المجانية ليرى ما إذا سيسهم ذلك في تعزيز التفاعل والمبيعات في نهاية المطاف؟

الابتكار العظيم التالي

قال كفاشوك في شهادته أمام المحكمة إن كلّ ذلك كان جزءاً من تخطيطه لـ"الابتكار العظيم التالي"، وقد استلهمه من المخترعين الذين غيروا العالم، والذين يعتبرهم مثله الأعلى، من طراز هنري فورد وتوماس إديسون. وقال إن الورقة المكتوبة بخط يده حول كيف يرغب في إنفاق الـ10 ملايين دولار التالية التي يجنيها، كانت مجردة قائمة أمنيات تحفيزية. وفي ما خصّ قرصنة كلمات مرور زملائه، برر كفاشوك ذلك بأنه لم يكن انتحال شخصية بما أن حسابات الاختبارات هي أصلاً بهويات مزيفة.

لكن القاضي وهيئة المحلفين اعتبروا حجج الدفاع واهية، ووجدوه مذنباً بكلّ التهم الموجهة ضده. وسيرحَّل على الأرجح إلى أوكرانيا بعد انتهاء محكوميته في مارس 2027، وسيضطر إلى أن يعيد 8.3 مليون دولار.

من الحجج الأكثر إبداعاً التي تذرّع بها كفاشوك، أن بطاقات الهدايا لم تكن مالاً "حقيقياً" ولم تكلّف "مايكروسوفت" أي شيء، لأنها "لم تؤدِّ إلى أي تعاملات مصرفية حقيقية"، إلا أن هذه الحجة لم تقنع المحكمة، إذ قال ديون إن المنزل الضخم الذي اشتراه كفاشوك لم يدفع ثمنه بـ"مال مونوبولي"، فـ"مايكروسوفت" هي التي تكبّدت التكلفة.

وهذه نقطة مهمة جداً. في زمن تبدو فيه رموز "إكس بوكس" و"بتكوين" أشبه بأموال لعبة افتراضية، فإن بعض الأشخاص يشترون ويتداولون بها وكأنهم "يلعبون بشخصيات في لعبة الفيديو الشهيرة "غراند ثفت أوتو" (Grand Theft Auto).

أما كفاشوك فيقول إنه مجرد شخص "جرفته بعيداً فرصة أن يصبح مليونيراً على الفور".