تسرُّب موظفي "كريدي سويس" في الشرق الأوسط بسبب أجواء عمل سامة

مركز دبي المالي العالمي ويتوسطه مبنى البوابه. يضم المركز مكاتب "كريدي سويس" الذي نفى صحة اتهامات لبرونو ضاهر حول معاملته لموظفي الثروات
مركز دبي المالي العالمي ويتوسطه مبنى البوابه. يضم المركز مكاتب "كريدي سويس" الذي نفى صحة اتهامات لبرونو ضاهر حول معاملته لموظفي الثروات المصدر: بلومبرغ
تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

قدَّم برونو ضاهر، كبير التنفيذيين في بنك "كريدي سويس" في الشرق الأوسط اعتذاراً ليس من مألوفه في اجتماع مبيعات في مايو، مبدياً أسفه لأنَّه قال في وقت سابق، إنَّه سيوجه مسدساً إلى رؤوس مصرفييه، إنْ لم يحسِّنوا أداءهم. وأوضح في اعتذاره أنَّه يميل إلى استخدام استعارات تشبيهية في كلامه.

أتى تعبيره عن الندم صادماً لتناقضه الواضح مع نهجه المعتاد خلف كواليس نشاطه الذي يُعنى بإدارة ثروات من المنطقة، وقد اشتهر ضاهر بالتعبيرات النيرانية، والمجابهات، والتوبيخ بالشتم. بحسب أشخاص عملوا معه، ألقى ذات مرة علماً سويسرياً في سلة مهملات، كما وجَّه تهديدات دفعت موظفين لتسجيل شكاوى.

ساعد أسلوب إدارة ضاهر ببناء نشاط بقيمة 75 مليار فرنك سويسري (82 مليار دولار أمريكي) مما جعل بنك "كريدي سويس" قوة إقليمية خلال 15 عاماً قضاها فيه. لقد اجتذب أيضاً زمرة مخلصة من مساعدين تبعوه من مؤسسة "ميريل لينش"، وعزز علاقات عميقة مع أهم أفراد العائلات الحاكمة، والمديرين التنفيذيين في الخليج.

لكنَّ بعض الموظفين ضاقوا به ذرعاً، و بدأت رقعة إمبراطوريته بالانحسار. لقد أصبح مكان العمل الذي يهيمن عليه هرمون الذكورة- وهو ما اشتهرت به صناعة التمويل الحديثة- موضع تساؤل بشكل متزايد في وقت يكافح فيه المديرون التنفيذيون في مصرف "كريدي سويس" للاحتفاظ بأصحاب الكفاءات والتعافي من تداعيات سلسلة من الأخطاء، بما في ذلك انهيار شركة "غرينسيل كابيتال" (Greensill Capital)، الشريك فيما كان يشكِّل في السابق استراتيجية إدارة أصول بقيمة 10 مليار دولار كان قد روَّج لها ضاهر وفريقه بجرأة.

ترك ما لا يقل عن خمسة من كبار المصرفيين، كان يشرف أحدهم على إدارة حوالي 6 مليارات دولار من أصول العملاء- وأكثر من 20 مدير علاقات من المبتدئين في الشرق الأوسط وإفريقيا- بنك "كريدي سويس" منذ بداية عام 2019.

على نطاق أوسع، تعهد رئيس مجلس الإدارة أنطونيو هورتا أوسوريو بإجراء مراجعة عالمية لاستراتيجية الشركة بعد توليه المسؤولية في أعقاب زوج من الكوارث. أدى انهيار شركة الوساطة المالية الرئيسية "أركيغوس كابيتال مانجمنت" ( Archegos Capital Management) إلى تكبُّد البنك خسائر بقيمة 5.5 مليار دولار، مباشرة بعد انهيار شركة "غرينسيل" الذي قد يجشِّم العملاء المليارات من ثرواتهم.

ترهيب وتنّمر

كشفت مقابلات مع 26 شخصاً على دراية بعمليات الثروة في الشرق الأوسط وإفريقيا لدى مصرف "كريدي سويس"، منهم موظفون سابقون وحاليون، وعملاء، ومختصو استقطاب كفاءات، عن أجواء سامة من ترهيب وتنمر. فقد قالوا، إنَّ الضغط من أجل تحقيق الأهداف دفع بعضهم إلى مخاطرات مفرطة ساهمت في خسائر العملاء.

قال بعضهم، إنَّهم قد عانوا من أعراض جسدية مثل آلام في الصدر، كما يعانون بمجرَّد تذكُّر تجربتهم في العمل تحت قيادة ضاهر. جرى تقديم ثلاث شكاوى على الأقل من قبل موظفين على المستوى الداخلي في السنوات الخمس الماضية، بدعوى سوء المعاملة من قبل ضاهر أو كبار مساعديه، وفقاً لستة من الأشخاص الذين تحدثَّوا إلى وكالة "بلومبرغ". ولم تعرف نتائج الشكاوى.

قال مصرفيون حاليون وسابقون في "كريدي سويس"، إنَّهم مستعدون للتحدُّث عن تجربتهم في ظلِّ حكم ضاهر الآن، لأنَّ آفاق حياتهم المهنية وإقاماتهم لم تعد شديدة الارتباط بشدة بشركة "كريدي سويس". لديهم المزيد من الخيارات المحتملة الآن، إذ تعتزم البنوك الأخرى، بما في ذلك "يو بي أس"، و "جوليوس بير" و"غولدمان ساكس"، التوسع في المنطقة، على الرغم من أنَّهم طلبوا عدم ذكر أسمائهم خشية أن يتعرَّضوا لعقوبات.

وامتنع ضاهر عن التعليق عبر محامي الشركة. وأصدر بنك "كريدي سويس" نفياً شاملاً عندما دُعي للتعليق على الأحداث الموصوفة في هذه القصة، وقال في بيان: "يرفض البنك بشدَّة الادعاءات التي لا أساس لها أو الكاذبة أو المأخوذة تماماً خارج السياق. بنك كريدي سويس مدير ثروة رائد في الشرق الأوسط تحت القيادة القوية لبرونو ضاهر منذ عام 2006 ". وأضاف البنك في البيان: "لقد كان فريقه موضع إشادة، فقد فاز بالعديد من جوائز القطاع. علاوةً على ذلك، جرت مراجعة الأعمال على نحو منتظم من خلال قواعد الامتثال والتدقيق. لقد أثبتت النتائج فعالية وكفاءة كل الضوابط والثقافة المعتمدة ".

سلة المهملات

تذكَّر موظفون محدودية تدخُّل كبار المديرين التنفيذيين في "كريدي سويس" في زيورخ ، برغم أنَّ أحد الأمثلة كان عبر إزالة جزء من مقطع فيديو من شبكة الإنترنت بالبنك بعد اجتماع في عام 2014. خلال الحادثة، التي شاهدها أكثر من 300 شخص، قرَّع ضاهر موظفين يديرهم في سويسرا، وشبههم بفريقه المحلي على سبيل النقد. وبعد أن حذَّر المصرفيين أنَّ عليهم تحقيق مستوى أداء أفضل، أو البحث عن وظائف أخرى، أخبرهم أنَّه ألقى علماً سويسرياً في سلة مهملات، وسُمع يقول: "ذلك هو مكانه".

رفض كبار المسؤولين التنفيذيين في البنك في ذلك الوقت، بما في ذلك الرئيس التنفيذي السابق برادي دوغان، التعليق.

استمرت الحوادث، ففي عام 2016، خلال زيارة إلى مكتب البنك في جوهانسبرغ، وهو مغلق الآن، وقف ضاهر للتحدُّث إلى مجموعة من حوالي 10 مصرفيين دعاهم إلى عشاء جماعي. تحوَّل خطاب ضاهر بعد بضع دقائق إلى توبيخ بصوت مرتفع بما يكفي ليسمعه روَّاد المطعم الآخرين. ولم يتوقَّف الا عندما نبهه موظف إلى أنَّه كان يتحدَّث في مكان عام.

كما يتذكَّر شاهد حادثة وقعت في عام 2017، فقد وجَّه ضاهر توبيخاً علنياً مهيناً لأحد المديرين في بهو مكاتب البنك مفتوحة التصميم في مركز دبي المالي العالمي. فقد كان غاضباً بعد إلغاء موعد اجتماع مع أحد أفراد الأسرة الحاكمة في الإمارة جرى ترتيبه لزيارة رئيس وحدة الثروة الدولية آنذاك "إقبال خان".

معسكر تدريب

اكتسبت أعمال ضاهر سمعة نتيجة معدل تنقُّلات الموظفين المرتفع. على سبيل المثال، في أوائل عام 2019، أضاف مصرف "كريدي سويس" حوالي 25 مصرفياً خاصاً، وفي غضون 18 شهراً لم يتبقَ منهم سوى خمسة.

شبَّه بعض المغادرين الحال بمعسكر تدريب تصل فيه رسائل تحذير في غضون ستة أشهر أو نحو ذلك، ومفادها: إمَّا الأداء أو مواجهة العواقب. كما اشتكوا أنَّ تغطية العملاء الرئيسيين انتقلت إلى من يُعتبرون أصحاب حظوة لدى ضاهر. وسخر بعض المقرَّبين منه من الموظفين الجدد علناً، وحذَّروهم من أنَّهم لن يستمروا أكثر من بضعة أشهر. جلبت ممارسة الضغوط على المصرفيين أصولاً جديدة مع المساعدة في كبح التكاليف.

غالباً ما قال ضاهر لموظفيه، إنَّهم إمَّا يكونوا معه أو ضده، متمنياً لهم الحظ في العثور على وظيفة في مكان آخر. يتذكَّر بعض الموظفين السابقين تهديدات بتدمير حياتهم المهنية بسبل مثل نشر تقييمات سلبية عنهم في سوق المصارف شديد التقارب أو إجراء تحقيقات حول الموظفين المغادرين بغية استرداد مكافآت منهم. ما يزيد الأمور تعقيداً يتمثَّل في أنَّ تأشيرات العمل في المنطقة تنتهي غالباً بحوالي شهر أو نحو ذلك بعد فقدان الوظيفة، إذ قال العديد من الموظفين، إنَّهم تعرَّضوا للتوتر بشأن احتمال الاضطرار إلى نقل عائلاتهم بعد سنوات من استقرارها .

كان الأداء الفردي والجماعي يعرض عبر رسوم بيانية أثناء اجتماعات، ويتشارك فيه أعضاء مجموعة ضاهر التي يزيد عددها عن 100 شخص. كما أنَّ تقصير فرد في تحقيق الأهداف قد يجعله هدفَ تقريع له.

قال الموظَّفون، إنَّ ضاهر علني في مطالبه بأنْ يلتزم موظفوه بجميع قواعد الامتثال، بما في ذلك التحقق من معرفة عميلك، وتقييمات المخاطر، لكنَّهم قالوا، إنَّ الضغط من أجل الأداء يدفع بعضهم إلى الحد.

خريج بوسطن

ضاهر مواطن فرنسي، ولد عام 1958 في سوريا، وله صلات بالأردن، والبحرين، ولبنان، وهو يشجع كرة القدم، ويدخن السيجار، وتخرَّج في جامعة بوسطن. بدأ في مؤسسة "ميرل لينش"، وشقَّ طريقه في فريق كان يهتم بكبار العملاء في الشرق الأوسط عبر وظائف شغلها في باريس، وجنيف، والبحرين. قال الأشخاص الذين عملوا معه هناك، إنَّ مجموعته أحرزت تقدُّماً في تغطية أغنى أغنياء المنطقة، لكنَّه لم يكن صانعَ نجاح، بل برَع في تعيينات مفصلية تحفيزاً للتوسُّع.

بعد 21 عاماً، قفز ضاهر إلى بنك "كريدي سويس" في عام 2006، وانضمَّ إليه مجموعة من الزملاء، ظلَّ بعضهم إلى جانبه طوال العقد الماضي.

تولى ضاهر إدارة الأعمال، فقد كان "كريدي سويس" في وسط طفرة نمو في الأسواق الناشئة. كان البنك قد حصل للتوِّ على ترخيصه للعمل كواحد من قلة لديها عمليات مصرفية متكاملة في دبي. وسَّع الأعمال لتشمل منصة أسهم وإقراض خاص، وافتتح مكاتب في بيروت، والبحرين، والدوحة، والمملكة العربية السعودية. كما ساعد في تنفيذ النهج المتكامل الذي يُعرف به البنك، الذي ينظر إلى الثروات الشخصية للعملاء وشركاتهم على أنَّها مصادر دخل رديفة.

حظيت المنطقة بمزيد من التركيز في 2015 عند ترقية خان لإدارة أعمال وحدة الثروات الدولية، التي شملت الشرق الأوسط وإفريقيا. عمل ضاهر عن كثب مع خان لدراسة آفاق التوسع، بما في ذلك دخول سوق المملكة العربية السعودية على أرضها.

خان، الذي انتقل إلى شركة "يو بي أس" في عام 2019، رفض من خلال متحدِّث باسمه التعليق على هذه القصة.

خالية المخاطر

كان عملاء مصرف "كريدي سويس" في المنطقة - بما في ذلك رئيس الوزراء القطري السابق الشيخ حمد بن جاسم آل ثاني - من بين أكثر العملاء تعرُّضاً للخسائر بسبب تفكك صندوق استثمار "غرينسيل". أفادت وكالة "بلومبرغ" أنَّ مصرف "كريدي سويس" باع أكثر من 10 % من إجمالي سلسلة التوريد المرتبطة بشركة " غرينسيل" عبر ذراعه المصرفي الخاص في الشرق الأوسط وإفريقيا.

جرى منح بعض المصرفيين أهدافاً لبيع ما لا يقل عن مليون فرنك سويسري من الصناديق المرتبطة بشركة "غرينسيل"، نظراً لأنَّه جرى تسويق المنتجات على أنَّها أدوات خالية من المخاطر تقريباً، وتشبه النقد، أخبر ضاهر المصرفيين أنَّه لا يوجد سبب لعدم وضع كل عميل لديهم في الصندوق، وفقاً لثلاثة أشخاص لديهم معرفة مباشرة. كما مايزال من غير الواضح كم سيكلِّف إغلاق الصناديق المستثمرين في نهاية المطاف. علماً أنَّ بعض المستثمرين موَّل استثماراتهم عبر الاستدانة، مما يزيد حجم خسائرهم المحتملة.

ليست هذه هي المرة الأولى التي يضطر فيها فريق ضاهر للتعامل مع العملاء غير الراضين. في عام 2014، باع مصرفيو ضاهر في بيروت رهانات مرتفعة المخاطر على الفرنك السويسري، وانتهى الأمر بالزبائن الى خسائر فادحة نتيجة طلبات تغطية رأس المال عندما تخلى البنك الوطني السويسري بشكل غير متوقَّع عن الحدِّ الأقصى لقيمة الفرنك المرتبطة باليورو. قال شخصان مطَّلعان على الأمر، إنَّ أحد العملاء في الشرق الأوسط الذي خسر ما بين 10 ملايين دولار، و 20 مليون دولار، قد عوَّضه البنك بالكامل.

جرى حينئذ توبيخ بعض المصرفيين المتورطين، ونقلوا خارج البلاد إلى دبي، إذ يستمر واحد منهم على الأقل في عمله.

راهناً، قد تؤدي مغادرة موظفين بارزين في وحدة ضاهر إلى تعقيد مكانة البنك في السوق.

لا يعرف الكلل

فيما قد يكون أقوى ضربة، تبع مصرفي ثروات بنى سجلاً بقيمة 6 مليارات دولار من الأصول، وهو ديش شارما، خان إلى وحدة الثروة في شركة "يو بي أس" أواخر عام 2020. وقد جلب معه علاقاته مع الرؤساء التنفيذيين في بعض أكبر الشركات في المنطقة، فضلاً عن فريق من أربعة مصرفيين آخرين. يصفه زملاؤه السابقون بأنَّه

لا يعرف الكلل، وقدَّم صفقات على غرار الخدمات المصرفية الاستثمارية محققاً عشرات ملايين الدولارات كعائدات لكل معاملة. لطالما عمل شارما مع ريمي مينيسون، الذي قاد مجموعة الصفقات الاستراتيجية في بنك "كريدي سويس"، ويقوم بذلك الدور الآن لدى "يو بي أس"، التي انضم إليها قبل شارما ببضعة أشهر.

غادر العديد من المديرين الرؤساء، بمن فيهم رافي فينكاتاراجو، وكريستيان زوين، وفادي عيد. كما غادر أحد المديرين الرؤساء في الأشهر الأخيرة بعد أن عمل لدى "كريدي سويس" على مدى 16 عاماً، وكان على بعد بضع سنوات فقط من التقاعد، لكنَّه قرر أنَّه لم يعد بإمكانه تحمُّل ضاهر، وفقاً لما ذكره أشخاص كانوا قد تحدَّثوا إليه.

في مصرف "يو بي أس"، يهدف خان إلى مضاعفة الأصول التي يديرها البنك في الشرق الأوسط. لقد افتتح مركزاً جديداً في قطر، ومن المحتمل أن يستهدف أحد أكبر صناديق الثروة في العالم، وهو جهاز قطر للاستثمار - أحد المساهمين الرئيسيين في بنك "كريدي سويس" إلى جانب أنَّه عميل لديه. كلما جذب منافسون موظفاً، اقتربوا من اصطياد الثروة وعملاء صناديق الثروة الرئيسية، مما سيؤدى إلى احتلال المكانة القوية التي بناها ضاهر.