على صوت أجراس الإنذار المدوية.. هكذا سقط "كريدي سويس" في فضيحة "آركيغوس"

تجاهل "كريدي سويس" كل التحذيرات وعلامات الخطر التي ظهرت بوضوح في صندوق "آركيغوس" حتى انهياره
تجاهل "كريدي سويس" كل التحذيرات وعلامات الخطر التي ظهرت بوضوح في صندوق "آركيغوس" حتى انهياره المصدر: بلومبرغ
Timothy L. O'Brien
Timothy L. O'Brien

Timothy L. O'Brien is a senior columnist for Bloomberg Opinion.

تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

فكرة أساسية تتكرر في تقريرٍ تفصيلي غير عادي حول خسارة "كريدي سويس" 5.5 مليار دولار على أيدي شركة "آركيغوس كابيتال مانجمنت" مفادها: كيف أن هذه الخسارة كان يمكن تجنبها بسهولة ويسر.

ليست الانهيارات المالية الملحمية ظاهرة جديدة على وول ستريت بطبيعة الحال.

"لونج تيرم كابيتال مانجمنت"، و"ليمان براذرز هولدينجز" وشركات أخرى تملأ قائمة بالشركات سريعة النمو، ونخبة من مديري الأموال والسماسرة ممن سعوا بأنفسهم إلى التهلكة والكارثة.

سوء الإدارة والجشع وضعف إدارة المخاطر أسباب مشتركة وراء حالات التدهور الفجائي.

تجاهل أحداث الماضي

مع ذلك، يذكرنا "كريدي سويس" أن بعض مؤسسات التمويل تعاني عجزاً غير محدود عن التعلم من الماضي، ورغبة لا ترتوي في جذب العملاء الأثرياء يستطيعون تقديم المظهر الرائع – وذلك بغض النظر عن تاريخ العميل وسجل أعماله.

تفككت شركة "لونج تيرم كابيتال مانجمنت" عندما انقلبت حركة السوق ضدها. بنك "ليمان براذرز" – والبنوك التي جرى إنقاذها من التعثر فيما بعد – قبلت الدخول في مخاطر هائلة لم يفهمها رؤساؤها.

نتجت خسائر "كريدي سويس" عن ثقته في شخص واحد وشركته، وعما يصفه التقرير بثقافته الكسولة إلى حد كبير والتي تتسم باللامبالاة.

علامات الخطر

بنك استثمار سويسري تاريخي أمضى سنوات يتغافل عن علامات الخطر عند "آركيغوس" خلَّفت له سمعة محطمة وخسائر هائلة تطلبت خططاً عاجلة لجمع الأموال، مع طرد عاملين واستقالة بعضهم، ومستقبل غامض تحوم حوله سحابة إمكانية الاستحواذ عليه.

يوضح التقرير الذي أعدته "بول وفايس وريفكايند وورتون آند جاريسون"، وهي شركة قانون استأجرها البنك لدراسة وفحص كارثة "آركيغوس"، أن لا أحد من كبار صيارفة صندوق التحوط لدى "كريدي سويس" أبدى انتباهاً خاصاً عندما انتفخت وتضخمت محفظة شركة "آركيغوس" في أوائل العام الحالي.

أثارت هذه الظاهرة صغار المصرفيين ومديري المخاطر الذين يعملون لدى البنك العملاق في زيورخ، كما كانوا منذ عدة سنوات، لكن مخاوفهم وتحذيراتهم كانت تواجه بالرفض على الدوام.

تحذيرات لم تؤخذ في الاعتبار

حتى مديري المخاطر في مختلف إدارات وأقسام بنك "كريدي سويس" تدخلوا في الأمر.

ففي 9 فبراير الماضي، أحد المدراء الذين يتابعون مخاطر صناديق التحوط أخبر مديري المخاطر المسئولين مباشرة عن المتابعة الدقيقة لـ "آركيغوس" أن الصندوق يجب أن يقدم مليار دولار من الضمانات الجديدة بعد أن أظهرت أوضاعه في التداول علامات على احتمال الخسارة. (جميع الاقتباسات هنا تأتي من تقرير بول وفايس، مالم يذكر خلاف ذلك).

لكن مدير المخاطر الرئيسي الذي يتابع حساب "آركيغوس" رد مدافعاً، وشكك في أن أوضاع الشركة خطيرة، مشدداً على أنه يرغب في موازنة "العائد التجاري مع إدارة الخطر". كما أنه لا يريد أن يتبنى من يرتبطون مع بنك "كريدي سويس" رأياً سيئا في "آركيغوس".

ورأى مدير المخاطر أن الشركة التي تتخذ مقرها في نيويورك يمكنها بسهولة تسييل محفظتها الهائلة من الأوراق المالية "خلال أسبوعين".

وأضاف أن طلب مليار دولار من الشركة "هو بمثابة مطالبتها بنقل نشاطها، وأن قيمة إيرادات الصندوق الفعلية والمتوقعة هائلة".

بدايات الأزمة

بعد ذلك بيومٍ واحد، طلب بنك "كريدي سويس" من "آركيغوس" 750 مليون دولار، وتجاهلت الشركة الطلب، وفقا للتقرير.

في 17 فبراير، مراقبو أداء "كريدي سويس" أشاروا إلى أن تعرض البنك لخسائر "آركيغوس" المحتملة تصاعد إلى 550 مليون دولار.

في اليوم التالي، التمس أحد المحللين من مدير المخاطر الرئيسي المتابع لحساب "آركيغوس" أن يحصِّل مبلغ 750 مليون دولار بسرعة من هذا الصندوق المقامر.

موقف "آركيغوس" المالي دعمته تدفقات كبيرة من الديون، كما أن صافي قيمة الأصول في محفظة الشركة تضخم وانتفخ من 1.5 مليار دولار إلى 8.1 مليار دولار في أقل من عام.

لقد حذَّر المحلل المالي بأن "آركيغوس" إذا تعثرت فإن "جميع السماسرة (الذين يدعمون صندوق التحوط) سوف يتطلعون إلى التخارج منه في توقيت واحد"، لكن رئيسه تجاهل التحذير، ملاحظاً بأن مؤسس "آركيغوس"، وهو "سونغ كوك بيل هوانغ" ألمح بأن الشركة سوف تُقدِّم ضمانات إضافية.

لكن "آركيغوس" لم تتعهد إلا بقيمة 34 مليون دولار إضافية. وبعد ذلك فوراً، أبلغت "آركيغوس" بنك "كريدي سويس" بأن لديها 6.6 مليار دولار في صورة نقدية تحت يدها سوف تستخدمها إذا ظهرت أي مشكلة.

التهرب من الضمانات

فريق خاص من كبار المدراء اجتمع في "كريدي سويس" في 8 مارس لفحص صندوق "آركيغوس". لكن اللقاء لم ينته إلى شيء يذكر.

ومع ذلك استطاع صندوق "آركيغوس" أن يحصل على مبلغ بإجمالي 2.4 مليار دولار من "كريدي سويس" في الفترة بين 11 و19 مارس الماضي، رغم تجاهله مطالب البنك بالتشدد في قواعد حساب الضمانات.

مدير المخاطر الذي أهمل تحذيرات مرؤوسيه وضع جدولاً زمنياً باسترداد ثلاث الضمانات مع "آركيغوس" في الفترة بين 19 وحتى 23 مارس، لكن "آركيغوس" تراجعت عن الالتزام في كل مرة في اللحظة الأخيرة.

خلال هذه الفترة، بدأت حصص "آركيغوس" كبيرة الحجم في شركات محلِّقة وناجحة مثل "فياكوم سي بي اس" تتهاوى إلى الحضيض بصورة مفاجئة.

في صباح يوم 25 مارس، طلب "كريدي سويس" من "آركيغوس" سداد ما يزيد على 2.8 مليار دولار لتغطية صفقتي شراء بالهامش (استرداد قيمة شراء أسهم بالاقتراض من البنك).

ردت "آركيغوس" بأنها لا تملك المبالغ المطلوبة – وأن احتياطياتها النقدية استُنزفت تماماً في سداد مستحقات سماسرة آخرين في وقتٍ سابق من الأسبوع.

انكشاف ضخم

خلال مؤتمر هاتفي في مساء نفس اليوم، أخبرت "آركيغوس" كل الصيارفة الذين يتعاملون معها أن حسابها مكشوف بإجمالي نحو 120 مليار دولار، وليس لديها إلا 9 إلى 10 مليارات دولار في صورة أسهم.

وطالبت المجموعة بأن تعطيها وقتاً لبيع محافظها. ناقش الصيارفة فكرة تصفية مشتركة لصندوق التحوط التي أيدها بنك "كريدي سويس". لكن كل بنك اتخذ مساراً مختلفا.

وأعلن صندوق "آركيغوس" إفلاسه في اليوم التالي، وسوف يستغرق "كريدي سويس" ما يقرب من شهر من أجل تسوية حسابه المكشوف.

موجة استقالات

عدد من قيادات "كريدي سويس" غادروه منذ الانهيار، بينهم رئيس إدارة المخاطر سابقاً، لارا وارنر، ورئيس قطاع ضمان وتغطية الاكتتاب، برايان تشين، وبول جالييتو، الذي كان يدير التداول ومبيعات الأسهم.

أما تيدجان تيام، الذي كان رئيساً تنفيذياً للبنك خلال الأعوام التي عزز فيها علاقته مع "آركيغوس"، فقد ترك البنك قبل ذلك في فضيحة تجسس "كريدي سويس" على كبار الموظفين. ويجتهد البنك حالياً للإسراع في إعادة بناء قسم إدارة المخاطر.

خسارة فادحة

خسر بنك "كريدي سويس" أموالاً أكثر بكثير من البنوك الأخرى التي تعرضت لمخاطر صندوق "آركيغوس"، وتتجاوز هذه الضربة في حجمها أي خسارة كان يتوقعها البنك السويسري.

رغم أن أحد محللي البنك أثنى على "آركيغوس" لأن "تدفقات إيراداتها الحالية والمتوقعة" كانت "هائلة"، لم يكن الأمر كذلك من الناحية الفعلية.

يقول التقرير إن "كريدي سويس" تلقى إيرادات قيمتها 54 مليون دولار فقط من صندوق "آركيغوس" خلال الفترة من 2017 وحتى 2020.

ذلك النوع من الحسابات الخاطئة كان معتاداً في "كريدي سويس". فعندما انهار صندوق تحوط آخر كان مدعوماً من البنك – صندوق مالاشايت كابيتال مانجمنت – بلغت خسائر "كريدي سويس" نحو 214 مليون دولار، وحقق 6.9 مليون دولار فقط من الإيرادات على مدى 6 سنوات من التعاون بينهما.

لذلك، ربما يكون "كريدي سويس" قد استرشد في إجراء تعاملاته مع "آركيغوس" على أفكار ودراسة بشأن التداول أو الرسوم، لكن لا يبدو أن هذه التعاملات كانت مربحة ومجدية بما يكفي لتقدم تفسيراً أساسياً عن: لماذا كان البنك متساهلاً ومبدداً إلى هذه الدرجة. وقد ينتهي الأمر إلى مجرد ثقافة البنك أو عدم كفاءته أو خفض تكاليف.

يقول "بول وفايس" في تقريرهما إن: "ملاحظاتنا الأساسية تدور حول نقطة محورية: لا يبدو أن أحداً في كريدي سويس – سواء المتعاملون أو مدراء المخاطر أو كبار التنفيذيين أو محللو مخاطر الائتمان أو كبار المسئولين عن إدارة المخاطر – قدر تقديراً وافياً حجم الأخطار الكبيرة التي يتعرض لها البنك بسبب استثمار آركيغوس".

وأضاف التقرير: "هذه الأخطار لم تكن خافية على أحد، بل كانت واضحة تماماً للعيان على الأقل منذ سبتمبر 2020. ونتج عن ذلك نشاط سمح لأركيغوس بأن تدخل في مخاطر تتجاوز حجمها دون حماية كريدي سويس من تكبد خسائر باهظة".

إهمال المخاطر المحتملة

كان المال قطعاً هو الحافز في سعي "كريدي سويس" وراء الاستثمار في "آركيغوس".

"عند مستوى القيادات، كان البنك يستطيع الاطلاع على المعلومات التي تكشف أن مخاطر النشاط في آركيغوس كانت في تصاعد مستمر. وكانت هذه المعلومات تدرج في التقارير الدورية التي توزع على البنك"، كما يوضح "بول وفايس" في تقريره. "غير أن البنك إما أنه تجاهل هذه الأخطار أو كان يفتقد إلى الكفاءة في تقدير ضخامتها، وفي كلتا الحالتين، لم يكن خفض مخاطر الاستثمار في "آركيغوس" أولوية من الأولويات. وبدلاً من ذلك، كان النشاط يتركز على زيادة إيرادات أركيغوس من تعاونها مع "كريدي سويس"، حتى على حساب زيادة الأخطار التي يتعرض لها البنك بما يتجاوز الحدود المطبقة".

ماضٍ مليء بالمخالفات

هذا الإهمال يشمل كذلك تجاهل خلفية السيد "هوانغ" اللافتة للأنظار.

كان "هوانغ" أحد الخريجين من صندوق التحوط "تايجر مانجمنت" القديم التابع لجوليان روبرتسون، وقد دعمه روبرتسون فعلاً عندما بدأ إطلاق صندوقه الخاص تحت اسم "تايجر إيشا".

بعد ذلك، أقر "هوانغ" بأنه مذنب في اتهامات تتعلق بجرائم الاتصالات في الولايات المتحدة في 2012 خلال تحقيقات أجريت للكشف عن جريمة اتجار بالمعلومات الداخلية في التداول.

وتحمل "هوانغ" وشركته وآخرون معاً غرامات قيمتها 60 مليون دولار لتسوية العديد من القضايا المدنية والجنائية.

وفي عام 2014، عاقبت الجهات الرقابية في هونغ كونغ "هوانغ" بمنعه من التداول في سوق الأوراق المالية بسبب تجاوزات تتعلق بالاتجار بالمعلومات الداخلية.

أعاد صندوق "تايجر إيشا" الأموال لعملائه، ثم قام "هوانغ" بإعادة تسمية شركته إلى "آركيغوس"، التي نشأت كشركة عائلية لإدارة أموال شخصية دون أن تضم إليها مستثمرين من خارج العائلة.

المال أولاً

"كريدي سويس" وبنوك أخرى – من بينها نومورا هولدينجز ومورغان ستانلي ثم أخيراً مجموعة غولدمان ساكس – كانت مستعدة وسعيدة بالتغافل عن ماضي السيد "هوانغ" حتى تستطيع اللعب في عالمه.

يقول التقرير إن اثنين من قيادات بنك "كريدي سويس" أخبروا الشركة في عام 2012 أن "هوانغ" قال لهم في لقاء على الإفطار إنه "سوف يقوم بتسوية قضيته مع لجنة الأوراق المالية بالولايات المتحدة وسوف يتقبل حظراً على النشاط، وإنه سوف يستمر في مواجهة المساءلة القانونية في هونغ كونغ".

وأضاف المسئول الكبير أن "هوانغ" سوف يستمر في إدارة ثروته الخاص البالغة 600 مليون دولار، وأن عائداته من إدارة هذه الثروة ارتفعت بنسبة 20% خلال العام، وأن الخلاصة أن "هوانغ" مازال يعتقد بأن هناك فرص استثمار هائلة في الأسهم الآسيوية.

أضاف المسئول أن "هوانغ يأمل أن يكون استثماراً هاماً بالنسبة لكريدي سويس في السنوات القادمة".

يقول التقرير: "لا توجد دلائل على اتخاذ أي خطوات إضافية ... لدراسة وفحص المخاطر الائتمانية المحتملة والناشئة سواء عن الجريمة التي تطلبت التسوية، أو الإقرار بالذنب في تحقيقات أو حظر التعاملات في السوق".

اقتضى الأمر ثلاثة أعوام حتى يجري "كريدي سويس" دراسة عن المخاطر القانونية والمتعلقة بالسمعة التي يمثلها "هوانغ".

الشخص المسئول عن دراسة "آركيغوس" أمضى شهوراً يتجنب المطالبة بإجراء هذه الدراسة، ولم يُجرها إلا بعد أن تم تحذيره، تحذيراً واهناً، بأنه إن لم يفعل فإن حساب "هوانغ" قد يتم إغلاقه أو أن قسم الانضباط لدى "كريدي سويس" قد يرسل إلى موظف البنك "لفت نظر".

بعد كتابة التقرير، أعطى "كريدي سويس" الضوء الأخضر لـ "هوانغ"، فرغم تاريخ الرجل وخلفيته، لاحظ البنك أن "آركيغوس أجرت تغييرات مؤسسية كبيرة.. تهدف إلى جعل الصندوق "الأفضل بين أقرانه" من حيث بنيته الأساسية وانضباطه بالإضافة طبعاً إلى أدائه".

تقييمات متضاربة

المراجعات اللاحقة والتقارير التي أعدها "كريدي سويس" على "آركيغوس" كانت بالمثل مليئة بالتقييمات المتناقضة.

فقد وصفت هذه التقييمات "آركيغوس" بأن لديها "قاعدة رأسمالية صلبة"، و"فريق إدارة يتمتع بالخبرة" و"أداء قوي" و"الاستخدام الملائم للقروض أو الرافعة المالية".

لكنها أيضاً تشير إلى جوانب ضعف خطيرة مثل "الاعتماد على إدارة الرجل الواحد"، "الأداء غير المستقر والمتقلب"، "ضعف إجراءات وممارسات إدارة المخاطر"، و"إدارة عمليات عادية أو باهتة، ومخاطر احتيال".

لا يوجد في تقرير "بول وفايس" ما يشير إلى أن جوانب الضعف تلك دفعت "كريدي سويس" إلى إعادة تقييم علاقته مع "آركيغوس".

في عام 2018، بعد دراسة أخرى لمخاطر السمعة المرتبطة بشركة "آركيغوس"، المسئولون في بنك "كريدي سويس" المعنيون بمراقبة الالتزام بقواعد النشاط في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة قدموا توصية بإنهاء علاقة البنك مع شركة صناديق التحوط. غير أنهم واجهوا "صداً وردعاً من جهة البنك" فتراجعوا.

صندوق عالي المخاطر

كان التعامل مع "آركيغوس" يجري عبر فرع "الخدمات المميزة" لدى "كريدي سويس" الذي يشرف على صناديق التحوط وشركات إدارة الثروات الخاصة (أو المحافظ العائلية).

الخدمات الرئيسية التي يقدمها هذا الفرع تشمل التمويل الذي يُمكِّن الصناديق من السيطرة على كميات كبيرة من الأوراق المالية تتجاوز قدرتها إذا اعتمدت على أموالها الخاصة.

وباعتبار أنه يقرض الصندوق، يكون البنك متعرضاً لاحتمالات الخسارة إذا أخفق الصندوق في تحقيق عائد على الاستثمارات.

أحد الإجراءات الاحترازية الرئيسية هو أن يقدم الصندوق (العميل) ضمانة تكفي لتغطية الخسائر المحتملة.

بمرور الوقت، استثمر "هوانغ" بكثافة شديدة في سوق الأوراق المالية بالولايات المتحدة وأسهم التكنولوجيا، رغم أن خبرته كانت مستمدة من عمله في الأسواق الآسيوية.

لا يبدو أبداً أن "كريدي سويس" أعاد دراسة القيمة التي يمثلها الرجل للشركة، أو أن خبراته قد تغيرت بعد تحوله إلى التركيز على مناطق وقطاعات جديدة.

مع ذلك، في عام 2018 أُدرج صندوق "آركيغوس" على قائمة المراقبة الداخلية للصناديق عالية المخاطر، وظل مدرجاً عليها حتى انهياره أوائل العام الحالي.

خفض التكاليف

كان "كريدي سويس" صبوراً في تعامله مع "آركيغوس" رغم التقلبات الشديدة والمخاطر العالية.

في النصف الأول من عام 2018 مثلاً أعلن الصندوق تحقيق أرباح بمعدل سنوي 41%، غير أنه أنهى العام خاسراً بنسبة 36%.

من الصعب تحديد إلى أي مدى يتحمل البنك المسئولية عن ذلك. فقد كانت إدارة البنك منغمسة في موجة من خفض التكاليف، وأسندت أدواراً هامة في الفريق الذي يتابع ويشرف على "آركيغوس" إلى موظفين ضعاف الخبرة.

ويلاحظ تقرير "بول وفايس" أن ذلك ترتب عليه :"تدهور عام في مستوى الخبرة المطلوبة".

وكشف التقرير أن نحو 40% من الأعضاء المنتدبين المسئولين عن إدارة المخاطر غادروا البنك منذ عام 2019 وحتى إفلاس صندوق "آركيغوس".

ومع ذلك واصل "كريدي سويس" زيادة عدد العملاء على قائمة فرع "الخدمات المميزة".

وكان من نتائج ذلك أن "فريق العمل الصغير نسبياً الذي يعمل في فرع الخدمات المميزة كان يصارع من أجل إنجاز أعمال أكبر بموارد وخبرات أقل".

تجاوز حدود المخاطرة

وضع "كريدي سويس" حدوداً لحجم تعرضه للمخاطرة في "آركيغوس"، تستند إلى تحليل لما قد يحدث إذا وقعت أزمة في أسواق الأسهم.

مع ذلك، سمح البنك في مناسبات عديدة ومتكررة بتجاوز تلك الحدود وزيادة التعرض للمخاطرة.

في مايو 2019، طلب صندوق "آركيغوس" شروطاً أفضل في التمويل، زاعماً أن بنوك الاستثمار المناظرة كانت أكثر تنافسية من "كريدي سويس". واستجاب البنك لهذه المطالب.

الإغلاق بسبب كوفيد-19 تسبب في منع المتعاملين ومدراء المخاطر من الاتصال والتفاعل الشخصي فيما بينهم، وربما تراجعت فاعلية الإشراف والرقابة نتيجة لذلك. في أوائل 2020، توفي مدير المخاطر الذي يتابع صندوق "آركيغوس" في حادث تزلج غريب. ولحق به بارشو شاه، وهو عضو منتدب في قسم المبيعات والتسويق الذي أسند من قبل صفقات إلى صندوق آركيغوس – وربما يكون خالف قواعد استقلالية قراره في ممارسة دوره الجديد.

رغم قضائه 20 عاماً يعمل في "كريدي سويس"، لم يكتسب "شاه" أي خبرة هناك أو في أي شركة أخرى في مجال إدارة المخاطر.

ويقول تقرير "بول وفايس" إن الرجل "أُجبر على التعلم أثناء القيام بالعمل، أساساً من موظفين أدنى منه في الدرجة".

ومثل آخرين في "كريدي سويس"، لم يُذكر اسم "شاه" تحديداُ في تقرير "بول وفايس" ولم يوجه اتهام إلى أي شخص في البنك بارتكاب أي مخالفات.

عرقلة فريق إدارة المخاطر

بنفس الطريقة تمت إعاقة وعرقلة فريق إدارة المخاطر الأساسي الذي يشرف على كل أنشطة صناديق التحوط التي يقوم بها "كريدي سويس". أحد الأشخاص وصف الوحدة بأن أفرادها مكلَّفون بإطفاء "النيران بأن يبللوا أنفسهم"، وقال إنهم غالباً كانوا يلعبون "لعبة اللحاق" في عملهم الإشرافي - ليس لأنهم "كانوا يتهربون من مسئولياتهم، ولكن لأنهم كانوا يفتقدون إلى الموارد اللازمة لإتمام عملهم في الوقت المناسب".

بعد إفلاس صندوق "مالاشايت" في 2020 وتكبد "كريدي سويس" خسائر ضخمة، أمر مجلس إدارة البنك بكتابة تقرير عن الأخطاء التي وقعت.

واكتشف البنك أن موظفيه لم يولوا اهتماماً كافياً "لإشارات الإنذار الأولى إلى احتمالات التعثر" وأن جهاز مراقبة المخاطر في البنك ليس كفؤاً بما يكفي.

نفس المشكلات استمرت حتى أزمة "آركيغوس"، وعلى الرغم من التحقيق في أزمة "ملاشايت".

نقص الكفاءات الوظيفية

تجاوزت "آركيغوس" بانتظام حدود المخاطرة في 2020 واستمرت في هذه التجاوزات حتى انهارت. وجهود البنك في وضع ضمانات أكثر فاعلية وتشدداً في أغسطس الماضي لم تحقق هدفها أبداً.

وفي سبتمبر، قال أحد محللي المخاطر لرئيسه إنه قلقٌ من أن فرع الخدمات المميزة لا يراقب محفظة "آركيغوس" مراقبة ملائمة.

وقال إن فريق نيويورك المسئول عن ذلك لم "يكن به عاملون لديهم الكفاءة المناسبة للاعتماد عليهم".

وأضاف المحلل: "إن جميع الأشخاص الذين أثق في أن لديهم قوة ومكانة لمواجهة وصد أي شخص يغطي على نشاط لا يحقق عائداً على كومة من الأموال قد ذهبوا. فماذا يمكنني أن أفعل؟، إن الفريق يديره مندوب مبيعات".

لجنة خاصة من كبار المسئولين في "كريدي سويس" تشكلت لدراسة مخاطر "آركيغوس" في سبتمبر الماضي، لم تحدد مدى زمنياً لإجراء تغييرات كان يمكن أن تكبح جماح صندوق التحوط وأن تؤدي إلى تحسين المراقبة والإشراف.

ولم تطلب اللجنة حتى عقد اجتماعات للمتابعة في مسألة مدى تعرض البنك لمخاطر الاستثمار في "آركيغوس".

أحد العاملين المقربين وصف هذه المناقشات بأنها "مدرسية" ليس لها أي أهمية في مسألة عاجلة.

"الهامش الديناميكي"

"الهامش" هو لغة وول ستريت للتعبير عن الأموال التي يجب أن يتعهد بها الأطراف الأخرى مقابل الحصول على دعم من البنوك مثل "كريدي سويس".

حاول البنك أن يستخدم نظاماً "للهامش الديناميكي" الذي كان ينبغي أن يتضمن إشرافاً ورقابة أكثر دقة وخشونة على تعاملات "آركيغوس"، بما في ذلك أن يقدم الصندوق تعهدات وضمانات أكبر حجماً بكثير.

مهندسو البرمجيات الذين كانوا يضعون نماذج لضوابط الهامش الديناميكي ويطبقونها على "آركيغوس" قبل انهيارها بشهرٍ واحد اكتشفوا أن حساب الضمان الخاص بـ "آركيغوس" في حاجة ظاهرة إلى تغطية بقيمة 3 مليارات دولار.

لكن "كريدي سويس" لم يُخضع "آركيغوس" أبداً لضوابط هذه النماذج. وبدلاً من ذلك واصل تقديم الدعم المالي والمزيد من حرية الحركة لصندوق التحوط.

مدير المخاطر الرئيسي الذي يشرف على حساب "آركيغوس" قال إن إجبار الصندوق على الخضوع لضوابط "الهامش الديناميكي" لن يؤدي إلا إلى إرباكه. وأضاف أن "آركيغوس لن ترغب في التعامل مع أكثر من مبادرة في وقت واحد" دون أن يوضح لماذا لم يكن ضرورياً إجراء دراسة دقيقة وشاملة على الصندوق.

سيلٌ من التحذيرات

علامات تحذيرية أخرى بدأت في الظهور. رغم أن "آركيغوس" صرحت ذات مرة بأن محفظتها يمكن تسييلها في أيام قليلة، أخبرت "كريدي سويس" بأنها قد تستغرق ما يقرب من أسبوعين إلى شهر كامل حتى تفعل ذلك.

ومع ذلك، فحتى عندما قام مديرو "كريدي سويس" بتخفيض تقييم الجدارة الائتمانية لـ "آركيغوس"، فإنهم أحياناً كانوا يقدمون التوصيات بزيادة حدود المخاطرة مع الصندوق.

هذا السلوك المتناقض وعديم الكفاءة استمر تقريباً حتى اللحظة التي انهار فيها "آركيغوس".

توماس جوتستاين، الذي خلف تايام في منصب الرئيس التنفيذي لـ "كريدي سويس"، ولارا وارنر، رئيس إدارة المخاطر والانضباط، لم يكونا على دراية بمدى عمق تعرض البنك لمخاطر الاستثمار في صندوق "آركيغوس" حتى وقت قصير قبل تصفية الصندوق – ولم يكن أي منهما يعرف أن الصندوق كان أحد عملاء البنك الكبار، وفقا لما ورد في تقرير لجريدة وول ستريت جورنال.

خرق واضح للقواعد

ويظل الأمر المثير للدهشة أن مخاطر صندوق "آركيغوس" كانت واضحة على شاشات جميع المراقبين لكنها كلها رُفضت أو تم تجاهلها.

ودرست لجان عديدة ومختلفة أوضاع الصندوق ولكن دون أي إدراك أو تقدير لخطورة الموقف.

كما أن الخروقات المستمرة والمتواصلة لبروتوكولات "كريدي سويس" نفسه لم تجد طريقها أبداً إلى مجلس الإدارة لمناقشتها.

حتى في أوائل شهر مارس، عندما بلغت قيمة استثمارات الصندوق رقماً هائلاً سجل 21 مليار دولار لم يدق أحد جرس الإنذار.

(انتهت التحقيقات إلى أن "هذا لم يكن موقفاً تورط فيه الصندوق وموظفو إدارة المخاطر في تصرفات احتيال غير قانونية أو تصرفوا بسوء نية").

الخسائر تضرب "وول ستريت"

ثم لماذا يحدث ذلك باستمرار في "وول ستريت"؟ كانت مشكلة صندوق "لونج تيرم كابيتال مانجمنت" هي نفس المشكلة – ضمانات تافهة على مواقف استثمارية هائلة. نظم ووسائل حماية رؤوس الأموال تم تعزيزها بعد الأزمة المالية في عام 2008، التي تسبب فيها قيام البنوك بمراكمة قروض رديئة عالية المخاطر دون إدراك لحجم الأخطار التي كانت تتعرض لها.

أصبح القطاع المصرفي أكثر عنفاً إزاء العودة للاستحواذ على الحوافز والتعويضات والمكافآت الأخرى بعد الانهيارات المالية، كما حدث في "كريدي سويس". لكن شيئاً من ذلك لم يمنع كارثة "آركيغوس".

تعرض "كريدي سويس" للضربة الأكبر، لكن مؤسسات أخرى شاركته الآلام. خسر بنك "نومورا" نحو 2.9 مليار دولار بسبب إفلاس "آركيغوس"، وخسر "مورغان ستانلي" ملياراً، كما خسرت مجموعة "يو بي إس" نحو 774 مليون دولار.

تهديد النظام المالي

ليس صعباً أن ندرك كيف أن مثل هذه المواقف قد تُصبح شديدة الخطورة على النظام المالي بأكمله.

إن خسائر بهذا الحجم تعكس أيضاً أن الغموض لا زال يلف تعاملات وول ستريت، وإلى أي مدى تصبح مدمرة إذا أخفقت أو ضلت الطريق.

إن المشكلة في أن بنوك الاستثمار أصبحت بمثابة احتكار للقلة هي أن أخطاراً كبيرة يمكن أن تتركز في حفنة صغيرة من اللاعبين الكبار على المستوى القومي. إن الجهات الرقابية والمصرفيين لديهم الكثير ليفعلوه لمعالجة هذه القضايا.

من السهل أن نقول إن بنوك الاستثمار ينبغي أن تُجبَر على إلزام صناديق التحوط على الاحتفاظ بكمية معينة من النقود السائلة بنسبة ثابتة من إجمالي محافظ استثماراتها.

لكن في واقع الأمر، من الصعب أن نتصور نظاماً واحداً يناسب الجميع يمكن أن يغطي كل أنواع الصناديق.

وهناك حقيقة أنه ليس جميع البنوك التي تعاملت مع "آركيغوس" أصيبت بضرر كبير. فكانت خسائر "غولدمان ساكس"، "ويلز فارجو"، و"دويتشه بنك" في الحدود الدنيا.

غموض أدى لكارثة

مخاطر "آركيغوس" انتشرت ككرة الثلج، مثلما حدث مع "لونج تيرم كابيتال مانجمنت"، حيث كان لديها مراكز استثمارية مركزة ومتوازية مع بنوك استثمار مختلفة.

ولم يكن واضحاً كيف كان كل بنك يقيِّم تلك المراكز الاستثمارية ولا حجم المعلومات التي أفصحت عنها "آركيغوس" لهذه البنوك، وهي حالة الغموض التي انتهت إلى الكارثة.

إن درساً رئيسياً من هذه الواقعة هو أن بنك الاستثمار ينبغي أن يعرف إذا كان ما يعرفه عن موقف عميله الاستثماري في سهم معين كافياً للتقييم أم مجرد قمة جبل الجليد.

صناديق التحوط

إن نشاط تمويل صناديق التحوط يحقق أرباحاً هائلة إذا تم بصورة صحيحة. لكنه يتسم كذلك بحدة المنافسة ما يضع ضغوطاً على اللاعب الخلفي مثل "كريدي سويس" ويدفعه للتضحية باشتراطات الأمان في هذا الاندفاع المتهور نحو النمو. لديك عميل ثمين، كان دائماً يحقق لك أرباحاً، لذا فإنك تفعل كل ما بوسعك حتى ترضيه.

لهذا السبب ربما لن تكون الإصلاحات الفنية التي تشمل اشتراطات الضمانات وحجم المحافظ الاستثمارية أبداً واقية من الخسائر.

بالنسبة لـ "كريدي سويس" كانت الإصلاحات كذلك بسيطة ومتعلقة بالبشر أكثر. كان "آركيغوس" غارقاً في المشاكل مع السلطات منذ فترة طويلة قبل انهياره العام الحالي، وكان ينبغي بالبداهة توخي الحذر عند التعامل مع الصندوق.

المدراء المهرة يعرفون أن الحديث عن الأخطاء أو المخاطر المحتملة لا معنى له بدون الحديث عن المساءلة وتحديد التكليفات المرتبطة بالزمن والمتابعة.

صفقة مغرية

إن لدى الرأسمالية حلاً للشركات التي يتكرر أن تضل طريقها مثل "كريدي سويس": هو الاستحواذ.

لم تكن "آركيغوس" الكارثة الوحيدة التي يتعرض لها البنك، فقد شارك عملاؤه أيضاً باستثمارات في صناديق أدارها البنك مع شركة "غرينسل كابيتال"، وهي إحدى شركات تمويل سلاسل العرض التي انهارت حديثاً، كما أن "كريدي سويس" كانت لديه قصص رعب أخرى في سنوات سابقة.

ولابد أن "كريدي سويس" هدف جذاب بالنسبة لمنافسه من البلدة المجاورة "يو بي إس"، الذي تقيمه البورصة بنحو 61 مليار دولار، بمعنى أن قيمته تزيد على ضعف قيمة "كريدي سويس".

سوف يؤدي دمج البنكين إلى تكوين "كيان قومي سويسري عملاق" لديه قائمة ضخمة من العملاء الأثرياء وسوف يسمح بتخفيض النفقات على نحو بناء.

تستطيع أن ترى الصفقة المغرية. سوف يحافظ "كريدي" سويس على مكانته داخل مؤسسة سويسرية صديقة، تحميه من استحواذ عدائي من قبل مشترٍ في وول ستريت. كما أن "يو بي إس" سوف يكتسب حجماً يساعده على المنافسة مع عمالقة الولايات المتحدة التي حققت ازدهاراً أكبر كثيراً من بنوك استثمار أوروبا منذ الأزمة المالية. لكن سويسرا يجب أن تكون حذرة. فالجهات الرقابية بها سوف تضطر إلى مراقبة شركة أكثر تعقيداً وضخامة، كما أن دافعي الضرائب السويسريين سوف تسقط عليهم أعباء أكبر كثيراً إذا وقعت أزمة عميقة أخرى.

قد يستمر بنك "كريدي سويس" مستقلاً وقائماً، ولو حدث ذلك، ربما لن يكون ذلك لأنه يستحق، وإنما لأن منافساً آخر لا يجرؤ أن يأخذ على عاتقه الاستحواذ عليه.