ماذا بوسع البندقية أن تفعل لمستقبل السياحة؟

مدينة البندقية، جوهرة السياحة الإيطالية
مدينة البندقية، جوهرة السياحة الإيطالية المصدر: غيتي إيمجز
Lionel Laurent
Lionel Laurent

Bloomberg Opinion. Writing my own views on Flag of European UnionFlag of FranceMoney-mouth face(Brussels/Paris/London) here: https://bloom.bg/2H8eH0P Hate-love-mail here: llaurent2 at bloomberg dot net

تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

شاهد سكان المدن لمحة بسيطة عن الحياة الطبيعية دون الأخطار المرتبطة بالسياحة الكثيفة، عندما أدت قرارات الإغلاق بسبب "كوفيد" إلى إخلاء المدن حول العالم، بدءاً من باريس، ووصولاً إلى سيدني. والآن، بينما يعود صوت السفن السياحية ومحركات الطائرات إلى الأجواء من جديد، ينبغي علينا أن نسعى ونحاول لتكون العودة للأوضاع الطبيعية، أكثر اتزاناً من ذي قبل.

تقدم إيطاليا إضاءة سريعة حول هذه العودة المتوازنة، وذلك من خلال قرار شجاع اتخذه رئيس الوزراء، ماريو دراغي، يحظر من خلاله حركة البواخر السياحية العملاقة إلى المياه وسط مدينة البندقية. وفي حين قد يبدو القرار، الذي دخل حيز التنفيذ أوائل أغسطس الحالي، لا يحتاج إلى مبررات، في ضوء الأضرار التي تتسببها هذه الهياكل الضخمة العائمة، والتي تحمل آلاف البشر. لكنه قرار تضمن مقايضات لتحمل الأعباء الاقتصادية فيما بعد الجائحة، وينبغي أن يكون هذا القرار البداية فقط، لإطلاق صناعة سياحية تطالب بالتنظيم، جنبا إلى جنب مع التجديد طويل المدى.

كيف يمكن أن تشكل عودة السياح خبراً سيئاً للسكان المحليين؟

على مدى سنوات عديدة، كانت هناك الكثير من الشكاوى حول التكاليف البيئية والمجتمعية جراء زيادة أعداد السيّاح، وذلك في مدن من أمستردام، وبرشلونة، وحتى المالديف. وفي الوقت ذاته، فإن أحداً لم يفعل شيئاً قد يوقف معه التدفقات النقدية التي تأتي من السياحة.

تمثل الإيرادات السياحية في إيطاليا نحو 6% من إجمالي الناتج المحلي. وتعتبر مدينة البندقية أحد جواهر السياحية في البلاد، حيث جذبت المدينة ملايين السيّاح في سنوات ما قبل الجائحة، وحوّلت معها حياة 50 ألف نسمة، هم سكان المدينة التاريخية للبندقية، إلى صناعة السياحة. وقد مرت سنوات من الشكاوى التي رفعها السكان حول دمار البنية التحتية للمدينة، والزحام الشديد، وارتفاع مستوى المياه، وقد نتج عن هذه الشكاوى الكثير من الوعود والأفكار، لكن بدون أي أفعال حقيقية.

سياحة تحمي التراث

وبعد عام من انتشار الجائحة، التي تحوّل أثنائها ميدان "سان ماركو" الشهير إلى ساحة فارغة، وأغلق فيها مقهى "فلوريان" الذي يبلغ عمره نحو 300 عام أبوابه مؤقتاً. وفي ظل ذلك، كان من المناسب أن تعود مدينة البندقية إلى نمطها القديم. حيث تتعرض إيطاليا مثل جيرانها من دول جنوب أوروبا، لضغوط لتعويض ما ضاع منها من الوقت، خلال أسوأ عام مر على صناعة السياحة العالمية في تاريخها. حيث انخفض خلال عام 2020، عدد السيّاح بنحو مليار سائح على مستوى العالم. وفي زمن تتخذ فيه الحكومات في أنحاء العالم، إجراءات غير مسبوقة لحماية الصحة العامة، والوفاء بتعهدات طموحة لحماية المناخ، وتطلق برامج وخطط إنفاق مفتوحة، فإنه من المنطقي أن يتم رفع سقف مرحلة ما بعد "كوفيد" في هذا القطاع أيضا، ومن أساليب ذلك كان التعهد الذي أعلنته دول مجموعة العشرين، بتحقيق انتعاش مستدام يحمي التراث الثقافي.

إن ما يكشف عنه حظر السفن السياحية الكبيرة في البندقية، هو أهمية التنظيم، بعيداً عن كبح دوافع السفر نفسه، وهو أمر قديم بقدم الحضارة نفسها. يعتبر منع السفن الكبيرة جزءاً من حل اللغز، حيث إنها تنقل نسبة صغيرة فقط من الزائرين، ولكن منعها يعتبر بداية جيدة. فالسفن السياحية الكبيرة ضارة بالبيئة، حيث يستخدم معظمها وقوداً نفطياً ثقيلاً، دون فلاتر لتنقية العوادم، وفقاً لاتحاد الحفاظ على الطبيعة والتنوع البيولوجي. كما أن البواخر تتسبب بتضاعف البصمة لكل زائر بـ3 مرات. حتى أن بعض السائحين الذين باتوا يترجلون اليوم من السفن عند ميناء "مونفالكون" الصناعي الذي يبعد نحو ساعتين بالسيارة عن مقهى فلوريان العريق، يقرون بأن هذا القرار هو أكثر "احتراماً".

جولة في أبرز معالم معرض بينالي البندقية الشهير للعمارة 2021

إذا أردنا استعادة الحركة السياحية إلى سابق عهدها، ولكن بدون تدمير الكوكب، ينبغي أن يزيد ما بحوزتنا من أدوات سياسية لفعل ذلك. على سبيل المثال، وضعت جزر البليار -التي تقع قرب سواحل إسبانيا- قواعد تنظيمية في الماضي تستهدف تصرفات محدد، مثل قفز البريطانيين عبر شرفات المنازل وهم تحت تأثير الكحول، والمضاربة في تأجير العقارات ضمن منصة "إير بي إن بي". أما مملكة بوتان، والتي فتحت أبوابها للسياحة الأجنبية فقط منذ عام 1970، اعتمدت دائما على الترويج للسياحة "مرتفعة القيمة، وقليلة الحجم". كذلك فإن بعض المقاصد السياحية ستحتاج إلى استقبال أعداد محددة، حيث لا يوجد سبيل أمامها للتوسع جغرافيا لتلبية الطلب، دون التسبب بأضرار بيئية عنيفة.

كما سيكون ضرورياً فرض ضرائب أعلى على حركة السفر نفسها: حيث إن على المسافرين الدائمين أن يدفعوا التكاليف، لا فقط أن يفوزوا بالمكافآت.

تتطلب هذه القرارات شجاعة وإصراراً، وأموالاً. وقد قدمت إيطاليا وعوداً بتعويض من سيتعرضون للخسائر بسبب تغيير مسار البواخر السياحية، بالإضافة إلى تخصيص نحو 157 مليون يورو (نحو 186 مليون دولار) للاستثمار في تطوير مراسي بديلة.

السكّان المحليين

لا ينبغي النظر إلى هذه الإجراءات كما لو كانت إعلان حرب على السيّاح، وإنما هي استثمارات ضرورية للحفاظ على السلام.

من جهته، فإن الجغرافي الفرنسي، ريمي نافو، يوصي بإعادة تنظيم السياحة بالمدن البارزة مثل باريس، مع إيلاء المزيد من الاعتبار للسكان المحليين، فربما يمكن إعطائهم الأولوية في زيارة المتاحف، والمقاصد السياحية. كذلك قد ترغب كثير من الدول بتقديم عروض أكثر، للسياحة المحلية، خاصة إذا استمرت جاذبية قضاء الإجازات بدون سفر خارجي. ويوصي الجغرافي الفرنسي بمنع زيارة أو دخول بعض المناطق بشكل تام على كوكب الأرض، مثل المنطقة القطبية الجنوبية، وذلك في حال كانت هذه المناطق أضعف من أن تتحمل أي نوع من السياحة.

وعلى مدى أطول، سيكون على صناعة السياحة أن تعيد ابتكار نفسها، للتوافق مع زيادة أوقات الفراغ لدى الناس، ووجود قيود أكثر على حركة السفر. وفي مستقبل سيشهد ارتفاع درجات الحرارة، ربما سيكون من الضروري إعادة ابتكار بعض المقاصد السياحية، مثل تلك المطلة على البحر المتوسط لتعاد هيكلتها وتطويرها بالكامل. ووفقاً لشركة "فولتر للاستشارات"، قد يكون ذلك عن طريق زيادة الأنشطة المسائية، وفرض قيود على الوصول للشواطئ، واعتماد البواخر السياحية الأصغر حجماً.

كذلك فإن تاريخ السياحة كما يرويه إريك زولو، أستاذ التاريخ الأوروبي في "جامعة نيو إنغلاند"، يقدم لنا بعض الإضاءات على قيم من الماضي قد تستحق إحياءها. ومنها كان حسن ضيافة السكان المحليين، التي كان يعتمد عليها الرومان، والذوق الرفيع الذي كان الأرستقراطيون يبحثون عنه في الجولات في مدن أوروبا الكبرى. كذلك، هناك الفوائد الصحية التي كان يبحث عنها هواة المنتجعات الصحية في القرن التاسع عشر، ويبدو أن جميع هذه القيم تمثل أسساً أكثر قوة للسياحة من عصا "السيلفي".

هذه الأمور بالتأكيد سوف تستغرق أعواماً، ويبدو أن إيطاليا ستمثل اختباراً لكيفية إدارة هذه القوى التنظيمية. وبخلاف مدينة البندقية، تقدم إيطاليا مثالاً آخر في جزيرة بروسيدا الصغيرة، التي اختيرت عاصمة ثقافية للبلاد لعام 2022. وحتى الآن، كانت شواطئ الجزيرة أقل المواقع زيارة على ساحل خليج نابولي، من قبل السائحين. ومن يستطيع زيارة أياً من المقصدين، عليه أن يدرك كونه محظوظاً أولاً، وأن يكون أكثر وعياً بالتكلفة التي يخلفها وراءه ثانياً.