صغار المصرفيين يهيمنون على أموال "وول ستريت".. ولو بشكل مؤقت

المصدر: بلومبرغ
المصدر: بلومبرغ
تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

في البداية كان الرؤساء التنفيذيون في بنك "غولدمان ساكس غروب" يراقبون عند بُعد، بارتباك، رفعَ الشركات المنافسة الواحدة تلو الأخرى أجورَ صغار المصرفيين بنسبة كبيرة.

خلال رحلتهم لتثبيت أقدامهم في هذا المجال، يعمل هؤلاء الصيارفة الذين التحقوا تواً بسوق العمل في وظائف ينجزون فيها أكثر من 100 ساعة عمل أسبوعياً.

لكن سياسة رفع الأجور استمرت بالانتشار، بشكل جعل مديري "غولدمان" يشعرون بالاضطراب، حتى إن أحد كبار المسؤولين في البنك قال متذمراً إن الشركات المالية المنافسة تستخدم هذه الحيلة لكسب المصرفيين الجدد، لأنها تفتقد هيبة التميز الذي يتمتع به بنك الاستثمار الرائد في "وول ستريت".

وسواء كانت حيلة من المنافسين أو لا، فقد ارتفعت رواتب الخريجين الجدد في تخصص الأعمال المصرفية بسرعة كبيرة، في غضون أشهر قليلة فقط، لتبلغ وتتجاوز 100 ألف دولار سنوياً، راتباً أساسياً تضاف إليه لاحقاً مكافآت كبيرة. وما كان أمام بنك "غولدمان ساكس" إلا مجاراة السوق في نهاية الأمر، معترفاً بأن اسمه وحده لا يضمن انضمام أفضل المرشحين لشغل الوظائف به، إذ يُرحّب بهم بشكل فاتر.

عدم مساواة

في العالم الحقيقي خارج هذه الدائرة، يُعتبر راتب خريج جديد يتكون من ستة أرقام مثالاً آخر على انعدام المساواة الصارخة بين القطاعات، ونموذجاً للطريقة التي أصبح بها قطاع المال يهيمن على الاقتصاد. فقد وضعت الزيادة الجديدة صغار المصرفيين على أول الطريق، لتبلغ أجورهم خمسة أضعاف الأجر أو أكثر عن المتوسط الذي يحصل عليه خريجو الجامعات الشباب عادة.

وبهذه الزيادة الكبيرة في الأجور منذ بداية الالتحاق بالعمل، قد تتسبب البنوك في تفاقم فجوة الأجور بين العاملين فيها والعاملين في القطاعات الاقتصادية الأخرى، وهي فجوة قد تستمر لأعوام قادمة.

قد لا تتجاوز هذه الزيادات قيمة الخسائر الناتجة عن أخطاء تقريب الكسور في ميزانيات الشركات الكبرى بالقطاع، غير أن ما يثير الدهشة هو أن نرى رؤساء شركات "وول ستريت"، الذين لا يملّون التفاوض في أعمالهم، يخسرون امتيازات أمام المصرفيين الجدد الذين باتوا يشعرون فجأة أنهم في وضع مُسيطر بالسوق، وذلك بسبب حاجة البنوك الماسة إلى المواهب.

تزيد الأعمال لدى هذه الشركات وتتراكم باستمرار، وتتراكم معها الأرباح. يأتي ذلك وسط تزايد الثقة بانتعاش الاقتصاد وعودة العملاء الذين وقفوا سابقاً صفقات استحواذ أو صفقات أخرى بسبب الجائحة، والذين باتوا يتزاحمون الآن لجذب انتباه المصرفيين.

"بريكست" رفع صادرات بريطانيا من المصرفيين فقط

"غولدمان ساكس" يرفع رواتب موظفيه الجدد إلى 110 آلاف دولار سنوياً

البداية من "غولدمان ساكس"

والغريب أيضاً في قصة حروب مزايدة الأجور هو أنها بدأت في بنك "غولدمان ساكس" بالذات. كانت مجموعة من ثلاثة عشر محللاً مالياً لا يزالون خلال عامهم الأول من عملهم في قسم الترويج وتغطية الاكتتابات بالبنك قد صممت عرضاً على برنامج "باور بوينت" يروي تفاصيل العمل الشاق في وول ستريت، وما يتخلله من قضاء الأسابيع بلا نوم، وقضاء المتطلبات اللامنتهية.

وقد تسرب هذا العرض خلال شهر مارس، وسرعان ما اشتعل كالنار في الهشيم في القطاع، إلى حدٍّ أجبر جميع البنوك تقريباً على الاستجابة. رد الفعل هذا من الشركات لم يُكن يمكن تخيله على الإطلاق خلال حقبة الثمانينيات، لنقُل مثلاً في حقبة مايكل ميلكن، الرئيس الحادّ المراس لبنك الاستثمار "دريكسل بورنهام"، وهو المكان الذي بدأ فيه نشاط بنوك الاستثمار الحديثة.

يقول جون ماك، الرئيس التنفيذي السابق لدى "مورغان ستانلي": "كان مايكل ميلكن سيطلب منهم الاستقالة، لكن ماك في نفس الوقت يعترف بأن اليوم ليس كالأمس". ويضيف: "من الجيد أن يتحدثوا عن وضعهم، يجب أن يمثلوا أنفسهم".

لكن، هل ستؤدي هذه الزيادات الجديدة في الأجور إلى مرحلة جديدة ألطف وأكثر سلاسة للعاملين الجدد؟ هل يُعقل أن تتحول هذه الصناعة التي تقوم على مبدأ الفوز مهما كلّف الأمر، لتوفر فجأة لموظفيها توازناً معقولاً بين الحياة والعمل؟ ذلك يعتمد على شعورك تجاه أهمية عطلة نهاية الأسبوع المؤلفة من يومين.

لطالما وعد رؤساء العمل في القطاع بتخفيف أعباء العمل، أو على الأقل بمنح إجازة أيام السبت مع الأحد لموظفيهم، لكنهم سرعان ما كانوا يتراجعون مع أول موجة طارئة من الصفقات. فمهما كان الأمر، أثبت هذا النظام الطاحن أن بإمكانه تحويل خريجي التاريخ إلى صانعي صفقات بمليارات الدولارات.

يقول لويد بلانكفين، الرئيس التنفيذي السابق لبنك "غولدمان ساكس": "كان يمكن أن أدفع أموالاً حتى أحصل على التدريب خلال وظيفتي الأولى.. من الجيد أنني لم أضطر إلى فعل ذلك". انضم بلانكفين إلى قوة العمل في منتصف السبعينيات، وكما يقول: "لم تكن موازنة العمل والحياة تتصدر قائمة اهتماماتي حينها".

ما زال كثير من الأشخاص الذي يشغلون المناصب العليا في النظام المصرفي يعتقد أن تحقيق الثراء من العمل في الشركات الكبرى، وتلقي أموال ضخمة، هو تعويض عادل مقابل ساعات العمل الجنونية والتضحية بوقت العائلة.

عند بداية عمله في ستينيات القرن الماضي لدى "غولدمان ساكس"، كان جون ماك يتقاضى 8 آلاف و500 دولار (قيمتها حالياً نحو 66 ألف دولار) بالإضافة إلى ما نسبته 10% حوافز. يقول ماك: "هناك شعور هائل من المودة والألفة ينشأ من العمل مع زملائك على المشاريع خلال عطل نهاية الأسبوع لإنجاز العمل. قد يتذمر البعض ويشتكون، ولكنهم يحبون تجربة الألفة هذه". ويضيف: "لم تكن الأوضاع جيدة دائماً، لكنها برهنت على كفاءتها".

هل تؤمنون بالرأسمالية؟.. إذن لا تعملوا في عطلات نهاية الأسبوع

انتشر عرض الـ"باور بوينت" الذي تسرب من "غولدمان" إلى جميع البنوك الأخرى، لأنه كان ملامساً لواقع الأمور في أي شركة كانت تمارس نشاط البنوك الاستثمارية في أثناء فترة الجائحة. كانت الحياة العملية أغرب من أي وقت مضى، فيما كان العاملون بالصناعة مشغولين أكثر من أي وقت مضى أيضاً.

في البداية لم تكن الشركات تعرف كيفية التعامل مع الأمر، ثم ظهرت بعد ذلك عبارات تعاطف، تبعتها هدايا ثمينة مجانية كدراجات "بيلوتون"، ثم منح مكافآت مالية صرفت لمرة واحدة، لينتهي الأمر بزيادات شاملة في الأجور.

عندما رفع "غولدمان" الرواتب مؤخراً في أغسطس، سعى إلى أن يكون في صدارة هذه المنافسة عبر تقديم راتب سنوي يبلغ 110 آلاف دولار، وهو رقم أراد البنك أن يقدم عبره أكثر من كونه هدفاً نهائياً للأجر. يتبع البنك منهج الأجور والحوافز المقدمة حسب الأداء، ولا يحدد الرقم الفعلي إلا بعد إضافة المكافآت والحوافز الأخرى.

وبفعل ذلك، بات "غولدمان" يقدم أعلى أجر في القطاع. لكن ذلك لم يستمر أسبوعاً بالكاد حتى احتلّت شركة "إيفركور" للاستشارات المركز الأول في الأجور، بمنحها مرتبات تبدأ من 120 ألف دولار سنوياً.

وفي مؤشر عن رحلة البنوك الصعبة ضمن هذه المنافسة، رفعت شركتان على الأقل بعد ذلك، هما "غوغينهايم بارتنرز" (Guggenheim)، و"بنك أوف أميركا"، الأجور الأساسية لمرتين متتاليتين، منذ بدَأ هوس المزايدة.

ظروف العمل

يقول آدم كوتريل، الذي كان يعمل في المستويات المبتدئة لدى بنك "غولدمان"، حتى العام الماضي، إنه ليس مستغرباً من كون البنوك لجأت إلى حلول زيادة الرواتب، بدلاً من تحسين ظروف العمل. ويضيف: "محاولة إحداث تغيير في حياة المصرفيين الجدد أثبتت أنها صعبة حقاً". وعن تجربته يقول إنه كان ليستطيع تحمّل ساعات العمل الجنونية، يرتدي سماعات الرأس لسماع موسيقى قوية وصارخة لساعات طويلة، ويأخذ غفوات قصيرة في الحمام. ويستطرد: "كان لذلك آثار سلبية كثيرة".

غادر كوتريل "غولدمان" لاحقاً، ثم عمل في وظيفة بقطاع المال أيضاً، حتى قرر ترك المجال بسبب التوتر العالي، وهو الآن يعمل مدوناً إلكترونياً.

من الطبيعي أن يكون المال هو الحافز الرئيسي الذي تستطيع شركات "وول ستريت" تقديمه إلى المواهب (فهذا هو جوهر القطاع بالأساس)، لكن المكانة الباهرة والحياة المهنية الطويلة لطالما كانت جزءاً من المعادلة أيضاً. واليوم، بات خريجو الجامعات الطموحون الذين كان يتوجهون سابقاً نحو القطاع المصرفي بشكل فوري يتطلعون إلى العمل في وادي السيليكون أيضاً، أو ربما إلى ما هو أفضل، أن يصبحوا رواد أعمال ويؤسسوا شركاتهم الخاصة.

يقول جيمي دون، وهو مصرفي قديم لدى شركة "بيبر ساندلر": "لم يعُد يُنظر إلى (وول ستريت) الآن بنفس الرؤية الساحرة التي كانت تسود منذ 25 أو 30 عاماً"، مضيفاً: "يريد الجميع الآن أن يكون هو المبتكر، والمبدع، والرئيس. وعندما يشاهد هؤلاء إعلاناً مثلاً عن إتمام شابين لصفقة ساحقة لعملهما في أحد المجالات، فإن معظمهم يقول لنفسه: هل أريد أن أقوم بذلك؟ أم أن أعمل محللاً مالياً لثلاث سنوات؟".

قد يتغير ذلك..

بلانكفين، الذي أدار بنك "غولدمان ساكس" لمدة 12 عاماً، عاش خلالها ازدهار القطاع المصرفي، ثم أزمة مالية، ثم التعافي منها بعد ذلك، لديه كلمة تحذيرية، ويقول إنه لا ينبغي على المنضمين الجدد من المصرفيين إلى سوق العمل أن يفترضوا أنهم سيستطيعون دائماً إملاء شروطهم.

يضيف بلانكفين: "المواهب هي سوق، مثل كل شيء آخر، والأسواق لها دورات.. أتمنى أن يستطيع من يجري توظيفهم حالياً في هذه السوق الرائجة للمواهب أن يكونوا مدركين لذلك.. بغضّ النظر عن المهنة التي يتجه إليها الشباب، سيظل العمل الشاق والساعات الطويلة أموراً ضرورية للتعلم".

من الحتمي تقريباً أن السوق ستعيد دورتها، وستبدأ الوظائف بفقدان أمانها، وعند حدوث ذلك سيكون قدامى القطاع في المناصب العليا سعداء بأن يتعلم الأغرار الجدد درسهم.