داخل أكبر محطة لاحتجاز الكربون من الهواء في العالم

(يمين الصورة): "أوركا" أكبر منشأة لاحتجاز الكربون من الهواء في العالم، تقع بالقرب من محطة "هيليشيدي" للطاقة الحرارية في آيسلندا
(يمين الصورة): "أوركا" أكبر منشأة لاحتجاز الكربون من الهواء في العالم، تقع بالقرب من محطة "هيليشيدي" للطاقة الحرارية في آيسلندا المصدر: بلومبرغ
المصدر: بلومبرغ
تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

وسط التضاريس القاحلة في آيسلندا، تبرز محطة "أوركا" (Orca) التي تشبه في هيئتها الحاويات، وتجاور أعمدة البخار المُنبعثة من محطة "هيليشيدي" للطاقة الحرارية الجوفية. وتتمثَّل مهمة المحطة الجديدة في عكس بعض الأضرار التي تلحقها انبعاثات ثاني أكسيد الكربون بكوكب الأرض.

أولاً، ستقوم "أوركا"، التي شيَّدتها شركة "كلايم وركس" (Climeworks) السويسرية الناشئة، بامتصاص ثاني أكسيد الكربون من الهواء. ثم تقوم شركة "كاربفيكس" (Carbfix) الأيسلندية الناشئة بضخِّه في أعماق الأرض، وتحويله إلى صخور إلى الأبد. ومن بين المنشآت الست عشرة التي قامت "كلايم وركس" ببنائها في جميع أنحاء أوروبا، تعدُّ "أوركا" الوحيدة التي تتخلَّص من ثاني أكسيد الكربون بشكل دائم بدلاً من إعادة تدويره.

تعرف على وايومنغ.. أكبر مواقع اختبار تقنية احتجاز الكربون

هل تنجح تقنية احتجاز الكربون في مكافحة التغير المناخي؟


تمتص المحطة الواقعة في آيسلندا أربعة آلاف طن من ثاني أكسيد الكربون سنوياً، مما يجعلها أكبر منشأة لاحتجاز ثاني أكسيد الكربون من الهواء مباشرةً في العالم. غير أنَّ ذلك يعوِّض عن الانبعاثات السنوية لحوالي 250 من سكان الولايات المتحدة فقط. كما أنَّ هذا الكم بعيد جداً عن الهدف الأصلي لشركة "كلايم وركس"، والمتمثِّل في احتجاز 1% من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون السنوية العالمية, بواقع أكثر من 300 مليون طن بحلول عام 2025. كما تستهدف الشركة السويسرية الناشئة حالياً احتجاز 500 ألف طن بحلول نهاية العقد.

يقول جان ورزباكر، أحد مؤسسي "كلايم وركس"، إنَّ الشركة ما تزال تأمل في تحقيق هدفها البالغ 300 مليون طن في يوم ما، ويضيف: "لكن الجدول الزمني تغيَّر، لأنَّ بناء صناعة كاملة يستغرق وقتاً أطول مما توقَّعنا في بداية الأمر". مضيفاً أنَّ "الطلب على إزالة الكربون عبر "أوركا" مرتفع للغاية بالفعل، لدرجة جعلتنا نقرر توسيع نطاق هذه المحطة، وبناء أخرى أكبر بحوالي 10 أضعاف مساحتها في غضون ثلاث سنوات تقريباً".

انبعاثات السيارات المتوقفة... أزمة تواجه المدن في سعيها لهواء أنظف

هيئة الأمم المتحدة لتغير المناخ تعتبر إزالة الكربون "ضرورة مُلحة" لإنقاذ الكوكب

في هذا السياق، تتدفَّق الاستثمارات على تقنيات احتجاز الكربون، إذ تبحث الشركات والحكومات عن طرق للتعامل مع ظاهرة الاحتباس الحراري التي تتسبَّب بالفعل في أحداث مناخية مدمِّرة. مع ذلك، يجادل النشطاء بأنَّ التركيز المفرط على تقنيات إزالة الكربون يمكن أن يصرف الانتباه عن العمل على التقليل الفوري للانبعاثات.

في غضون ذلك؛ يمثِّل خفض تكلفة الخدمات، التحدي الرئيسي أمام شركة "كلايم وركس"، إذ يمكن أن يدفع الأفراد الراغبين في شراء تعويضات الكربون للشركة السويسرية ما يصل إلى ألف و200 دولار لقاء امتصاص كل طن من ثاني أكسيد الكربون. أما بالنسبة للمتعاملين بالجملة، مثل عمليات الشراء الكبيرة التي يقوم بها بيل غيتس، فإنَّ التكلفة تقترب فيها من 600 دولار للطن.

بحسب ورزباكر، تستهدف "كلايم وركس" خفض هذه التكلفة لتصل إلى ما بين 200 و300 دولار للطن بحلول عام 2030، و100 إلى 200 دولار بحلول منتصف العقد المقبل، وذلك مع توسع نطاق عملياتها. ومع بلوغ أسعار الكربون الأوروبية 62 يورو (73 دولاراً) للطن، ورهان الكثيرين على أنَّه سيتجاوز 100 دولار قريباً، وبذلك، فإنَّ الحد الأدنى للسعر المستهدف من قبل شركة "كلايم وركس" سيجعل الاستعانة بخدمات الشركة يبدو أرخص من دفع الغرامة بالنسبة للملوثين.

ومن ثم، تعتبر أهداف الشركة السويسرية الناشئة معقولة مقارنة بمليارات الدولارات التي تُدفع سنوياً لدعم صناعة السيارات الكهربائية، مما يجعل سعر طن من ثاني أكسيد الكربون الذي تمَّ تجنُّب إطلاقه يبلغ نحو 500 دولار، كما يقول كريستوف جيبالد، المؤسس المشارك الآخر لشركة "كلايم وركس": "لو أتيح ذلك السعر لدينا، لاستطعنا التوسع بشكل أسرع بكثير".

البناء والتمويل

تتراوح تكلفة تشييد محطة "أوركا" بين 10 ملايين إلى 15 مليون دولار، بما في ذلك البناء، وتطوير الموقع والتخزين، وفقاً لورزباكر. وقال المؤسس المشارك في "كلايم وركس": "ربما تكون تكلفة احتجاز طن الكربون هي الأقل الأهمية في خضم ما نتعلمه، وهو ما سيساعدنا على تحقيق التوسع بصورة أسرع، وبالتالي خفض الأسعار في نهاية الأمر".

تحظى "كلايم وركس" بدعم مجموعة من المستثمرين من القطاع الخاص، بالإضافة إلى "بنك كانتون زيورخ" السويسري. كما تحظى بتمويل ديونها من صندوق الابتكار المناخي التابع لشركة "مايكروسوفت". و في حين لم تحقق الشركة الأوروبية الناشئة أرباحاً بعد، إلا أنَّ الجزء الأكبر من عائدات "كلايم وركس" يأتي من عملائها من الشركات، بما في ذلك "مايكروسوفت"، و"سترايب"، و"شوبيفاي"، و"سويس ري". فضلاً عن قيام ثمانية آلاف عميل فردي بالتسجيل للاستفادة من خدماتها. وفي هذا السياق، يتوقَّع ورزباكر أن يشكِّل المشتركون الأفراد نصف عائدات "كلايم وركس" في نهاية المطاف.

تكنولوجيا جديدة

إجمالاً، تنقسم تقنيات احتجاز الكربون وتخزينه، التي يشار إليها اختصاراً بـ(CCS)، إلى فئتين، إذ يعدُّ احتجاز الانبعاثات من مداخن المصانع، أو محطات توليد الطاقة قبل تسربها إلى الغلاف الجوي أرخص بشكل كبير. و وفقاً لـ"بلومبرغ لتمويل مصادر الطاقة الجديدة"، يمكن أن تصل تكلفة احتجاز الكربون إلى 40 دولاراً للطن في ظل التكنولوجيا الحالية. وذلك لأنَّ تركيز ثاني أكسيد الكربون في تلك الغازات يمكن أن يصل إلى 10% بدلاً من نسبة تركيزه في الهواء البالغة 0.04%.

لكنَّ "كلايم وركس" تتخذ الطريق الأصعب في مهمتها، من خلال تنقية الهواء نفسه، مما يعني أنَّ هناك حدَّاً لمدى قدرتها على خفض أسعار خدماتها، وذلك بسبب كون العملية تستهلك الكثير من الطاقة.

خلال المرحلة الأولى، تسحب محطة "أوركا" كميات كبيرة من الهواء باستخدام مراوح ضخمة بطريقة تجعل الهواء معرَّضاً للاحتكاك مع المواد الكيميائية التي بوسعها إزالة ثاني أكسيد الكربون منه بشكل انتقائي، في حين يتمُّ إطلاق النيتروجين والأكسجين والغازات الأخرى في الغلاف الجوي مجدَّداً. ثم بعد ذلك، يتمُّ تسخين المواد الكيميائية الغنية بالكربون إلى حوالي 100 درجة مئوية، لتحويل ثاني أكسيد الكربون إلى غاز نقي.

في المرحلة الثانية، تمزج "كاربفيكس" الغاز بالماء، و حقنه في أعماق الصخور البازلتية. ومن ثم يتبلور ثاني أكسيد الكربون المذاب، ويتحول إلى معدن في غضون عامين تقريباً، مما يؤدي إلى تخزينه بعيداً عن الغلاف الجوي بشكل دائم. وتجدر الإشارة إلى أنَّ الطاقة اللازمة للقيام بكل هذه الخطوات تأتي من محطة "هيليشيدي" للطاقة الحرارية الجوفية.

التلوث الناجم من الوقود الأحفوري يقلل العمر الافتراضي للإنسان 5 أعوام

غير أنَّ تكرار هذا المزيج من العوامل المختلفة خلال العملية في مكان آخر، لن يكون أمراً سهلاً، وهذه العوامل هي الصخور البازلتية، والطاقة الرخيصة الخالية من الكربون. ومن الممكن تخزين ثاني أكسيد الكربون في التكوينات الجيولوجية الأخرى إذ لا يتحول إلى صخور، على غرار ما يحدث للنفط والغاز. لكن استخدام الطاقة الخالية من الكربون أمر أساسي، وإلا فإنَّ العملية يمكن أن تنتج ثاني أكسيد الكربون أكثر مما تقوم بتخزينه.

يقول وارزباكر، إنَّ موقع المحطة التالية الأكبر سيتمُّ تأكيده في غضون بضعة أشهر، مضيفاً أنَّ آيسلندا ما تزال تمثِّل "موقعاً جذَّاباً للغاية" إلى جانب كلٍّ من عُمان، والنرويج.

من جانبها، ترى "كاربفيكس" فرصة لمواصلة توسيع تعاونها مع "كلايم وركس"، فقد قالت إيدا سيف بيند أرادوتير، الرئيسة التنفيذية لشركة "كارفيكس": "لن نحقق أهدافنا المناخية بدون تطبيق تقنيات احتجاز الكربون وتخزينه على نطاق واسع"، مشيرةً إلى أنَّ آيسلندا وحدها يمكنها تخزين أكثر من 100 ضعف القدر المطلوب عالمياً للوفاء بأهداف اتفاقية باريس للمناخ.

من جهة أخرى، تعد اللجنة الحكومية الدولية المعنية بتغيّر المناخ، المدعومة من الأمم المتحدة، تقنيات احتجاز ثاني أكسيد الكربون، وتخزينه كتقنية حاسمة للمساعدة في تحقيق أهداف المناخ. وفي معظم السيناريوهات، سيتعيّن على العالم احتجاز ودفن مليارات الأطنان من ثاني أكسيد الكربون سنوياً للحفاظ على الاحترار العالمي عند أقل من 1.5 درجة مئوية، وذلك مقارنة مع الفترة السابقة للحقبة الصناعية، فضلاً عن تقليل الانبعاثات بشكل كبير.

وقد تأسست "كلايم وركس" تقريباً في الوقت نفسه مع تأسيس شركتين ناشئتين لاحتجاز الكربون من الهواء مباشرةً. غير أنَّ شركة "غلوبال ثيرموستات" الواقع مقرها في الولايات المتحدة، التي تستخدم تقنية مشابهة لشركة "كلايم وركس"، تخلَّت عن مشروع مع شركة "إكسون موبيل كورب" لبناء محطة بوسعها احتجاز أربعة آلاف طن سنوياً، وهو الحجم الذي حقَّقته "أوركا" حالياً. في حين تمتلك الشركة الأخرى، وهي "كربون إنجنيرنج"، ومقرّها كندا، أنموذجاً أولياً عاملاً باستطاعته احتجاز حوالي 300 طن سنوياً. كما تعمل الشركة الكندية حالياً مع شركة "أوكسيدنتال بتروليوم" لبناء محطة يمكنها احتجاز مليون طن من ثاني أكسيد الكربون مباشرةً من الهواء سنوياً.

يُذكر أنَّ شركات النفط والغاز، التي تستخدم تقنية احتجاز الكربون وتخزينه لاستخراج المزيد من النفط من الحقول القديمة، تتمتَّع بالخبرة اللازمة لتوسيع نطاق تلك التقنيات بسرعة. ويعدُّ ذلك أحد الأسباب التي جعلت شركات احتجاز الكربون من الهواء تتعاون معها بصورة مباشرة، لكنَّ "كلايم وركس" قاومت هذه الرغبة.

ويعتبر جيبالد أنَّه من المهم أن تظلَّ الشركة مستقلة عن المصالح الإستراتيجية لشركات النفط والغاز، على الرغم من أنَّها منفتحة على الشراكات، طالما لا يتم المساس بهذا الاستقلال.

وأضاف ورزباكر: "في الواقع، أعتقد أنَّها ميزة كبيرة لصالحنا، والعديد من العملاء يثنون علينا لهذا السبب، ويختارون التعامل معنا؛ لأنَّنا لا نمتلك مثل تلك الشراكات".