الإشكالية الأساسية التي أغرقت إمبراطورية "غرينسيل" المالية المعقدة

المصدر: بلومبرغ
المصدر: بلومبرغ
تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

لدى كل شركة قصة أو حكاية خاصة بنشأتها، تمنح العملاء والمستثمرين شيئاً يسهل التعلق به، حتى عندما يكون العمل جديداً أو يصعب فهمه. فمثلاً، تأسست رائدة التكنولوجيا "هيوليت- باكارد" (Hewlett-Packard) من قبل اثنين من المبتدئين في مجال صيانة الإلكترونيات داخل مرآب لتصليح السيارات. أما شركة "إي باي" (EBay)، فنسجت خيوط حكايتها حول شخص يبحث عن طريقة أفضل لجمع موزعات حلوى "بيز" (Pez) في إطار ترويجها لفكرة إقامة المزادات عبر الإنترنت. بينما روجت "ثيرانوس" (Theranos) لتقنيتها "المزعومة" الخاصة بإجراء اختبارات الدم عبر وخز الإصبع فقط بقصة خوف مؤسستها، إليزابيث هولمز، من الحقن عندما كانت طفلة.

اقرأ أيضاً: بريطانيا تحقق مع مدققي حسابات شركة "غرينسل" وبنك "وايلاندز"

لكن قصة "غرينسيل كابيتال" (Greensill Capital)، كانت تدور حول مزرعة البطيخ، حيث أحب ليكس غرينسيل، المؤسس والرئيس التنفيذي للمقرض الذي يتخذ من لندن مقراً له، والذي أعلن أنه "يجعل التمويل أكثر عدالة"، إمتاع أي شخص على مرمى السمع بقصة والديه الذين كافحوا للحصول على لقمة العيش في السهول المحيطة بمدينة بوندابيرغ الأسترالية. بالنسبة إليهم، كان الحصاد الجيد للبطيخ وقصب السكر يعني أوقات الرخاء والخصب، بينما كان من الممكن لأعوام الجفاف إشاعة الفوضى والدمار. وقد كان التأخير في المدفوعات من جانب العملاء الذي يستمر لشهور، أحد الأمور المرهقة، ما جعل الأسرة تعاني من نقص في السيولة. لذلك، في رواية "غرينسيل"، فقد توصلت شركته إلى طريقة لمساعدة أصحاب الأعمال التجارية الصغيرة، مثل والديه، في الحصول على أموالهم بصورة أسرع.

في هذا السياق، قدّمت "غرينسيل" صيغة للإقراض يطلق عليها تمويل سلاسل التوريد، وهو جانب غامض من المعاملات المصرفية، يدفع فيه الوسيط للمورد على الفور، ولكن بخصم، ثم يقوم بتحصيل المبلغ كاملاً من المشتري بعد بضعة أشهر. وقالت الشركة إن تقنية "غرينسيل كابيتال" يمكنها تقييم مخاطر القروض بمساعدة الذكاء الاصطناعي. وبدلاً من تقديم كل هذه القروض من أموالها الخاصة، غالباً ما تبيع "غرينسيل كابيتال" سندات الدين التي رتبتها للمستثمرين الخارجيين، والذين وجدوها بدورهم وسيلة لكسب عوائد أفضل من المتوسط دون أي مخاطر تقريباً. فقد استندت القروض، بالنهاية، إلى المبيعات التي تمت بالفعل، حيث كانت "غرينسيل" تعمل على حل مشكلة في التدفق النقدي وحسب.

اقرأ أيضاً: فضيحة "غرينسل" تجر معها قطاع الخدمة المدنية البريطاني

لقد أوضحت حكاية البطيخ سبب الحاجة إلى شركة مثل "غرينسيل"، وكيف يمكن أن تحقق الربح للجميع. أسهم ذلك في جعل الشركة تبدو وكأنها شركة ناشئة في مجال التكنولوجيا المالية، تتمتع بالفكر المستقبلي والقدرة على حل المشكلات، تماماً من النوع الذي يجذب استثماراً كبيراً من مجموعة "سوفت بنك غروب" (SoftBank Group) المملوكة لرجل الأعمال الياباني ماسايوشي سون. وكان شرح ذلك أسهل بكثير مما أصبح عليه عمل "غرينسيل" في الواقع: شبكة معقدة من الديون والاستثمارات المحفوفة بالمخاطر. وفي فترة من الفترات، كانت الإمبراطورية المالية تعتبر ذات قيمة كبيرة، بحيث تم تصنيف ليكس غرينسيل من بين المليارديرات العالميين. يقول ستيفن كلافام، المحاسب القضائي في لندن: "كان مستثمرو (غرينسيل) يصدقون القصة. لقد كان ليكس غرينسيل مندوب مبيعات رائعاً".

في مارس، انهارت شركة "غرينسيل كابيتال" متجاوزةً حد الإفلاس. ومنذ ذلك الوقت، يحاول المسؤولون فك تشابك معاملات الشركة وإعادة الأموال إلى الدائنين، حيث اتضح أن شركة التكنولوجيا المالية كانت ترتب أكثر من قروض قصيرة الأجل للمساعدة في تسريع المدفوعات. لقد نفذت "غرينسيل" مثل هذه الصفقات، لكن الكثير من ديونها كانت مدعومة بتوقعات المبيعات المستقبلية بدلاً من الفواتير. فضلاً عن قيامها بمراهنات كبيرة على الشركات العاملة في الصناعات المتداعية، كما قال الموظفون السابقون إن تكنولوجيا تقييم المخاطر التي تفاخر بها "غرينسيل"، لم تكن أمراً مميزاً. الأسوأ من ذلك، أن قروض الشركة ذات المخاطر المرتفعة، تم تمويلها جزئياً من قبل المستثمرين وحتى المودعين من البنوك الذين يبحثون عن مكان آمن لادخار أموالهم.

عندما انهار كل شيء، برزت أكبر فضيحة مالية في المملكة المتحدة منذ أكثر من عقد. فقد كان الأسترالي البالغ من العمر 44 عاماً أقام علاقات مع سياسيين كبار مثل رئيس الوزراء السابق ديفيد كاميرون، بل إن الأمير تشارلز قلّده وسام قائد فرسان الإمبراطورية البريطانية في عام 2018. وبحلول شهر مايو، تلا عليه أحد النواب تعريف القاموس للاحتيال خلال جلسة استماع للجنة في البرلمان امتدت لثلاث ساعات، سائلاً إياه: "هل أنت محتال؟" وكان رد غرينسيل: "لست كذلك".

من جانبه، يصر غرينسيل على أن القروض التي رتبتها شركته كانت علنية ومدعومة بمجموعة من الأصول والضمانات وبوالص التأمين ضد الأضرار. لكن من الواضح أن الشركة تعرضت لأزمة ثقة قاتلة في خضم الوباء. فقد أثارت الجهات التنظيمية الألمانية تساؤلات بشأن ما إذا كان أحد البنوك المملوكة لشركة "غرينسيل كابيتال" في بريمن بألمانيا، يحتضن الكثير من الأموال المرتبطة بسانجيف غوبتا، وهو رائد أعمال بريطاني هندي في مجال الصلب والتعدين. ثم قررت شركة التأمين، التي توفر الحماية لمانحي القروض التي رتبتها شركة "غرينسيل كابيتال" ضد التخلف عن السداد، عدم تجديد تغطيتها للقروض، ما أدى فعلياً إلى اجتثاث شبكة أمان مهمة للمستثمرين في سنداتها. وقررت "كريدي سويس غروب" (Credit Suisse Group)، التي تدير صناديق مليئة بسندات "غرينسيل" تلك، عدم تيقنها من قيمة السندات، لدرجة أنها اضطرت إلى تجميد جميع المحافظ الأربعة التي تتضمنها، ما يجعل من المستحيل على العملاء سحب أموالهم على الفور.

وعليه، حذّر العملاق المصرفي السويسري المستثمرين من أنهم قد يتكبدون خسائر أثناء عمله على استرداد القروض، ولكن في هذه المرحلة يصعب تقييم حجم الضرر. (صرح "كريدي سويس" بأنه تمت إعادة 5.9 مليار دولار من الأموال، والتي كانت تبلغ قيمتها نحو 10 مليارات دولار عند تجميد المحافظ، حتى الآن). ومن المرجح أن يستغرق تصنيف ما حدث بالضبط في "غرينسيل كابيتال" -ومن سيدفع مقابل ذلك- سنوات.

إقرأ أيضاً: خسائر صندوق "آركيغوس" تهوي بأرباح "كريدي سويس" الفصلية 80%

من جهة أخرى، يعد جاي جاستيس، أقرب ما يكون إلى طبقة الأثرياء في ويست فيرجينيا، حيث أسس جده شركة أصبحت حجر الأساس لصناعة تعدين الفحم في الولاية. وقام والده، جيم جاستيس، بتحويل هذه الشركة إلى ثروة تقدر بمليارات الدولارات، وهو الآن حاكم الولاية. لذا فإن جاستيس الشاب -واسمه الكامل جيمس سي جاستيس الثالث- ربما لم يكن معتاداً على نوع الضغط الذي تعرّض له من مقرضه في الشتاء الماضي.

عميل مهم

يشغل جاستيس منصب الرئيس التنفيذي لشركة "بلوستون ريسورسز" (Bluestone Resources) لتعدين الفحم. ولم تكن شركته العميل الأهم لدى "غرينسيل كابيتال، بل كان ذلك غوبتا وشركته "جي إف جي أليانس" (Alliance GFG). غير أن شركة "بلوستون" كانت مقترضاً كبيراً لدى "غرينسيل". وفي هذا الإطار، تقدم الدعوى القضائية، التي رفعتها "بلوستون" ضد مقرضتها "غرينسيل" أمام إحدى المحاكم الفيدرالية في نيويورك، الوصف الأكثر تفصيلاً لكيفية عمل الإقراض الأكثر إشكالية لشركة "غرينسيل كابيتال".

إقرأ أيضاً: بريطانيا تحقق مع مدققي حسابات شركة "غرينسل" وبنك "وايلاندز"

وفقاً للدعوى القضائية، فقد اشترت عائلة جاستيس شركة "بلوستون" من القلة الروسية التي "فشلت في القيام حتى بأبسط الاستثمارات المطلوبة في عمليات التعدين". وإجمالاً، اقترضت الشركة حوالي 850 مليون دولار من خلال "غرينسيل كابيتال".

تحدث جاي جاستيس عادة مرات عدة في الأسبوع مع رولاند هارتلي-أوركهارت، نائب رئيس مجلس إدارة "غرينسيل". لكن تلك المكالمات أصبحت محمومة بشكل متزايد في يناير، حيث سعى هارتلي-أوركهارت، الخبير في أعمال البنوك الاستثمارية الأمريكية، إلى تغيير شروط الصفقات التي اعتقد جاستيس بأنها تمت تسويتها، وفقاً لشكوى "بلوستون". وكان نائب رئيس مجلس إدارة "غرينسيل" يطالب بدفع سريع لمئات الملايين من الدولارات كائتمان. وفي أوائل فبراير، اتصل هارتلي-أوركهارت بجاستيس، وطلب أمراً محبطاً: هل يستطيع جاستيس -فوراً- تحويل مبلغ ضخم إلى "كريدي سويس"؟

حتى ذلك الحين، وفقاً لملفات المحكمة، لم يكن جاستيس يعلم شيئاً عن أي علاقة بين "غرينسيل كابيتال" والبنك السويسري. ورفض هارتلي-أوركهارت، الذي استقال من "غرينسيل كابيتال"، التعليق على الدعوى القضائية، بينما قال متحدث باسم ليكس غرينسيل إن الشركة لم تطلب من "بلوستون" أبداً إرسال أموال إلى "كريدي سويس".

لكن، كان هناك ارتباط بين قروض "بلوستون" و"كريدي سويس". فبعد إقراض شركة "بلوستون"، قامت شركة "غرينسيل كابيتال" بتعبئة هذا القرض في صورة سندات تم شراؤها بعد ذلك من قبل صناديق "كريدي سويس". وفي وثائقه للمستثمرين، وصف البنك السويسري هذه الصناديق بأنها من أقل الاستثمارات التي قدمها من حيث المخاطر. وقد اجتذبت الصناديق الأموال من المستثمرين الباحثين عن بدائل لصناديق أسواق المال التي لا تحقق فوائد تقريباً.

تمويل الذمم المستقبلية

في البداية، ركزت شركة "غرينسيل كابيتال" على تمويل سلاسل التوريد الأساسية. لكن عرضاً إضافياً -يسمى تمويل الذمم المدينة المستقبلية- شكل الجزء الأكبر من صفقاتها مع أمثال "بلوستون"، والذي حقق أرباحاً ضخمة. قالت شركة التكنولوجيا المالية إن تقنيتها يمكنها حساب مبيعات الشركة المستقبلية وإقراضها على ذلك الأساس. من حيث الجوهر، كانت شركة "غرينسيل كابيتال" تخمّن مدى جودة الأعمال التجارية في المستقبل، فبدلاً من كونها مبنية على عمليات بيع تمت بالفعل، استندت القروض إلى المبيعات التي يُرجح حدوثها.

وتشبه تلك العملية الفرق بين الرهن العقاري وقرض البناء. في الحالة الأولى، يمكن للبنك من الناحية النظرية الاستيلاء على المنزل إذا تخلف المقترض عن السداد، بينما ينطوي الأخير على مخاطرة عدم بناء المنزل مطلقاً. يقول ريتشارد بروس، أستاذ محاسبة سلاسل التوريد والتمويل في جامعة "شيفيلد": "لقد كانوا يقنعون المستثمرين بأن هناك أصلاً آمناً. ما فعلته "غرينسيل" كان بمثابة تخطي الحدود إلى أبعد مما كان معقولاً".

من جانبه، قال متحدث باسم ليكس غرينسيل إن شركته طالبت بضمانات مثل المباني أو المعدات وضمانات شخصية من الإدارة عندما يأخذ المدينون قروضاً على أساس الذمم المدينة المستقبلية، وإن لديها تأميناً لتغطية أي حالات تخلف في السداد بنهاية المطاف. وبعد تقرير لصحيفة "وول ستريت جورنال" يفيد بأن عائلة الحاكم وقعت ضمانات شخصية مع "غرينسيل"، عدلت "بلوستون" دعواها القضائية في يونيو للإقرار بما كان على المحك بالنسبة إلى آل جاستيس.

بحسب غرينسيل أيضاً، فقد وثقت الشركة أعمالها بشكل واضح، وكان عملاؤها مستثمرين مؤسسيين متطورين يعرفون ما الذي ينخرطون فيه. قال ليكس غرينسيل للمشرعين البريطانيين: "تم وصف كل أصل قمنا ببيعه بشكل صحيح، وإعداد هذه المعلومات وإتاحتها لمستثمرينا ومراجعي حساباتنا والجهات التنظيمية التي تراقب أعمالنا".

كانت شركة "بلوستون" قد اقترضت 70 مليون دولار من شركة "غرينسيل كابيتال" بناءً على فواتير مبيعات، ولكنها حصلت أيضاً على 780 مليون دولار على هيئة قروض استناداً إلى مبيعات لم تتم بعد. تقول الدعوى إن غرينسيل نفسه قام برحلة إلى ويست فرجينيا في عام 2019 لإنجاح الاتفاق بين الشركتين، وسافر جاي جاستيس إلى منزل هارتلي-أوركهارت في لونغ آيلاند، نيويورك، لمناقشة نطاق العمل.

وقد تضمنت الاتفاقية المبرمة بين "غرينسيل كابيتال" و"بلوستون" قائمة بالمبيعات المتوقعة للعديد من الكيانات، وبعضهم لم يكونوا عملاء لدى "غرينسيل" بعد -وربما لم يكونوا ليصبحوا كذلك أبداً. ووفقاً للدعوى القضائية، فقد زودت "غرينسيل كابيتال" عميلتها "بلوستون" بقائمة من الشركات التي قد تكون مهتمة بفحمها المعادني الذي يوقد أفران الصهر في مصانع الصلب. وتحتوي القائمة على المبلغ المفترض الذي يمكن لكل عميل شراؤه نظرياً، والقرض الذي ستحصل عليه "بلوستون" من هذا المشتري المفترض، ومتى يتعين على شركة التعدين الوفاء بذلك الدين.

ووفقاً للدعوى، في كل مرة يحين موعد سداد شركة "بلوستون" لقروضها، تقوم شركة "غرينسيل" بتمديد الدين مقابل رسوم رمزية قوامها الفائدة المستحقة فقط، وذلك على مدى عامين مقبلين. على سبيل المثال، عندما استحقت قروض بقيمة 15 مليون دولار في يناير 2019، حولت شركة "غرينسيل" حوالي 14.5 مليون دولار إلى "بلوستون"، والتي ردت بعد ذلك 15 مليون دولار- لتدفع بذلك شركة التعدين فعلياً مبلغ 457 ألف دولار هي قيمة الفوائد المستحقة عليها. في نهاية المطاف، توقفت شركة "غرينسيل كابيتال" عن المطالبة بتحويل مثل تلك المدفوعات المستحقة منها وإليها، ولم تطلب سوى أن ترسل "بلوستون" الفائدة المستحقة.

وبينما لقبت الشركة اللندنية تلك العملية بـ"التجديد غير النقدي"، تصر "بلوستون" على الإشارة إليها بالتمويل طويل الأجل بحكم الواقع، وذلك على الرغم من أنه لم يتم تعريفها على هذا النحو مطلقاً. ولو كان هذا الادعاء حقيقياً، لجعل القروض رهاناً أكثر خطورة بالنسبة إلى المستثمرين في الصناديق التي يديرها "كريدي سويس"، والمفوضة بالاستثمار في التمويل قصير الأجل. فكلما طالت الفترة التي يتعين على المقترض سداد الديون خلالها، كلما كثرت الأمور التي يمكن أن تسوء.

وشأنها شأن العديد من الشركات الصناعية، فقد وضع الوباء "بلوستون" تحت ضغوط. وفقاً للدعوى، عندما زار جاي جاستيس منزل هارتلي-أوركهارت في سبتمبر 2020، أكد له المسؤول التنفيذي في "غرينسيل" أن شركة التعدين لن "تتحمل المسؤولية وحدها" (أي أنها لن تُجبر على السداد قبل أن تتمكن من القيام بذلك). بحلول نوفمبر، أصبحت نبرة مسؤولي الشركة في لندن أكثر إثارة للجدل. فقد أرادت شركة "غرينسيل كابيتال" استعادة أموالها في وقت مبكر من هذا الصيف. وبالفعل، أوفدت شركة "غرينسيل كابيتال" أحد مسؤوليها، في ديسمبر، إلى منتجع "غرينبراير" الفخم المكون من 710 غرف، والذي تملكه عائلة جاستيس، لإيصال رسالة مفادها أنه يجب سداد القروض، وهو طلب لم تكن "بلوستون" في وضع يسمح لها بالموافقة عليه. وبسبب الضمانات الشخصية، فإن إصرار شركة "غرينسيل كابيتال" على السداد الفوري، لم يكن يهدد بقاء شركة التعدين فحسب، بل يهدد أيضاً ثروة عائلة جاستيس برمتها.

ما الذي تغير في شركة "غرينسيل كابيتال" ليجعلها قلقة للغاية بشأن استعادة أموالها؟ لقد تعرضت الشركة لضغوط على جبهات متعددة، حيث أبلغتها إحدى الشركات التابعة لـ"طوكيو مارين" (Tokio Marine) القابضة، الشركة اليابانية التي قامت بالتأمين على سندات "غرينسيل كابيتال" ضدّ التخلف عن السداد، بأنها لن تجدد تغطيتها التأمينية.

تم فصل الموظف الذي كان قد وقع على عقد التأمين الخاص بشركة التكنولوجيا المالية في الصيف الماضي. كما بدأت شركة التأمين، التي شعرت بالقلق من حجم المخاطر التي تعرضت لها، في التحقيق في العلاقة بين الموظف السابق وشركة "غرينسيل كابيتال". ودون علم عائلة جاستيس، اتصلت شركة "غرينسيل كابيتال" في ليلة رأس السنة لعام 2020، بشركة المحاسبة "غرانت ثورنتون" (Grant Thornton) لتقييم خياراتها - بما في ذلك التحضير لتقديم ملف إفلاس محتمل.

من ناحية أخرى، واجهت شركة "غرينسيل كابيتال" مشكلة منفصلة تتفاقم في الميزانية العمومية لبنك "غرينسيل"، وهو المقرض الألماني الذي تمتلكه الشركة، والذي اجتذب الأموال من المدخرين من خلال تقديم بعض من أفضل الفوائد على الإيداع في البلاد. كان المحققون يهددون بإغلاق البنك، الأمر الذي يرجع جزئياً إلى تكدّس محفظة قروض البنك بديون غوبتا وشركته "جي إف جي". لفترة من الوقت، تم ربط أكثر من نصف القروض في حافظات بنك "غرينسيل" بغوبتا. وخلال السنوات التي أعقبت لقاء غرينسيل معه في عام 2015، قدمت الشركة اللندنية ما قيمته 5 مليارات دولار من القروض، على الرغم من سجل غوبتا غير الجدير بالثقة كمقترض. فقد شككت بنوك "غولدمان ساكس" (Goldman Sachs) و"ماكواري" (Macquarie) و"آي سي بي سي ستاندرد" (ICBC Standard Bank) في صحة المستندات التي قدّمها غوبتا، وتوقفت جميعها عن تقديم القروض لشركته التجارية في عام 2016. ومع تخلي أقدم المقرضين واسعي الشهرة عن تمويل قروض غوبتا، تدخلت شركة "غرينسيل كابيتال" لسدّ فجوة التمويل.

في عام 2019، استخدمت "جي إف جي" أموال "غرينسيل كابيتال" لتمويل صفقة شراء سلسلة من مصانع الصلب القديمة في دول مثل رومانيا ومقدونيا الشمالية وجمهورية التشيك، بلغت قيمتها 740 مليون يورو (877 مليون دولار). وعلى الرغم من ضمان القروض بمخزونات اثنتين من الشركات الأسترالية التابعة لغوبتا، فقد حوّل رجل الأعمال الهندي الأصل الأموال إلى شركته التي كانت تقوم بعملية الاستحواذ الأوروبية. (تم نشر تفاصيل الصفقة في مقال وكالة بلومبرغ الإخبارية في مارس، استناداً إلى إيداعات الشركات والمقابلات مع شخصين على دراية مباشرة بالأمر). وعندما قامت المفوضية الأوروبية بالتدقيق في الصفقة، بدا أن الكثير من الأموال كانت نقدية وليست ديوناً، ما جعلها تبدو كما لو كان غوبتا يتحمّل تمويل حصة من السعر نقداً أكبر بكثير من النسبة الفعلية التي تحمّلها. وبمجرد إحكام قبضته على شركات الصلب، استغل قطب الصناعة الأصول الجديدة للحصول على خط ائتمان إضافي بقيمة 2.2 مليار يورو من "غرينسيل كابيتال".

وكما هو الحال مع "بلوستون"، كانت قروض عديدة مقدمة إلى "جي إف جي"، مدعومة بمدفوعات مستقبلية من العملاء الذين لم يشتروا أي شيء في حقيقة الأمر بعد. كان الوصول إلى تمويل "غرينسيل" أمراً بالغ الأهمية لأعمال غوبتا التجارية، وفقاً لما جاء في بيان ليكس غرينسيل أمام محكمة في المملكة المتحدة في مارس، حيث قال إن غوبتا أخبره بأن "جي إف جي" مهددة بالإفلاس إذا توقفت "غرينسيل كابيتال" عن إقراضها. اليوم، تقول "جي إف جي" إن مجموعتها للصلب تعمل بشكل وثيق مع الدائنين لإعادة تمويل ديونها، وإنها "مسرورة بالتقدم المحرز" مع انتعاش أسواق الصلب والألمنيوم والخام.

سوفت بنك.. الداعم الرئيسي

على صعيد آخر، كان لدى شركة "غرينسيل كابيتال" داعم رئيسي عندما وسعت أعمالها، وهو ماسايوشي سون صاحب مجموعة "سوفت بنك غروب". وكثيراً ما أشاد المستثمر الياباني في رأس المال الاستثماري بغرينسيل باعتباره مجدِّداً، وأثنى عليه في اجتماع مع رئيس إندونيسيا باعتباره "رجل المال"، كما وصفه رجل الأعمال الياباني بأنه "رائد أعمال الذكاء الاصطناعي" في المواد التسويقية. وقد شعر غرينسيل بالزهو لجذبه اهتمام سون، متفاخراً بمحادثاته المتكررة مع مؤسس "سوفت بنك" أمام الموظفين.

كانت "سوفت بنك" قد استثمرت ما يقرب من 1.5 مليار دولار في الشركة اللندنية خلال عام 2019. وقالت "غرينسيل كابيتال" إنه سيتم توجيه تلك الاستثمارات إلى عمليات الاستحواذ والتكنولوجيا الجديدة. وبدلاً من ذلك، كما قال ليكس غرينسيل لاحقاً لصحيفة "فاينانشيال نيوز" في لندن، فقد استخدمت الشركة الكثير من الأموال لدعم الميزانية العمومية لبنكها الألماني. وقد منحت هذه المناورة غرينسيل، مؤسسة مالية يمكنه من خلالها ادخار أصول أقل جاذبية، مثل قروض غوبتا و"بلوستون" إلى أن يجد مستثمرين راغبين في شرائها. كما استخدمت "سوفت بنك" شركة "غرينسيل كابيتال" لتمويل بعض الشركات في محفظتها الاستثمارية.

بحسب بعض الروايات، كانت "غرينسيل كابيتال" أبعد ما تكون عن حلم مؤسسها بشركة تكنولوجيا ديناميكية ناشئة. فقد ادعى ليكس غرينسيل أن شركته بوسعها التنبؤ بالتدفقات النقدية المستقبلية بدقة ملحوظة، واكتشاف أي تغيير في الجدارة الائتمانية للمقترض بسرعة من خلال الخوارزميات المعقدة التي تستوعب المعلومات في الوقت الفعلي عن المبيعات والموردين. كما روجت البيانات الصحفية لقدرة برامج الذكاء الاصطناعي المصممة خصيصاً للشركة على تحليل الكنوز الدفينة من البيانات. وواقعياً، كان جزء كبير من قروض الشركة يعتمد بشكل أكبر على التنبؤات الأولية، مثل قائمة العملاء المحتملين التي قدمتها شركة "غرينسيل كابيتال" إلى "بلوستون". ووفقاً للعديد من الأشخاص المطلعين على أنظمة الشركة الذين تحدثوا شريطة عدم الكشف عن هويتهم، فقد استخدمت الشركة جداول بيانات بسيطة، وتم تسجيل الكثير من البيانات يدوياً في الأيام الأولى. لكن متحدثاً باسم ليكس غرينسيل، قال إن الشركة وظفت 500 شخص مصنفين على أنهم متخصصون في التكنولوجيا والبيانات -أي نحو نصف قوتها العاملة- وإن التكنولوجيا المملوكة لها كانت "أحدث ما تم التوصل إليه في هذا المجال".

ولتعزيز رصيدها التكنولوجي، قامت شركة "غرينسيل كابيتال"، في عام 2019، بشراء شركتي التكنولوجيا المالية الناشئتين "إيرند" (Earnd) و"فايناسيتي" (Finacity). وقد أتاحت الأولى للموظفين الوصول المبكر إلى رواتبهم. كما كان لديها مشروع تجريبي مع ممرضي وممرضات هيئة الخدمات الصحية الوطنية في المملكة المتحدة، والذين يمكنهم الحصول على سلفة بدون فوائد على أجورهم ببساطة عن طريق النقر على زر في أحد التطبيقات، الأمر الذي شكل دعاية جيدة لدعم الادعاء بأن "غرينسيل" كانت تجعل التمويل أكثر عدالة. بينما قامت شركة "فايناسيتي" بأعمال مكتبية غير مثيرة تتعلق بتعبئة الفواتير في أصول يمكن بيعها للمستثمرين. وقد تم شراء "إيرند" منذ ذلك الحين، وتتجه "فايناسيتي" لإبرام صفقة مشابهة.

تحقيق وتدقيق

حالياً، يقوم المحققون والمحاسبون والمدعون العامون بتدقيق الميزانية العمومية لشركة "غرينسيل كابيتال" لتحديد ما يمكن استرداده من قروض الشركة. كما حجزت السلطات على بنك "غرينسيل"، وقالت هيئة الرقابة المالية الفيدرالية الألمانية "بافين" (Bafin)، إنها لم تتمكن من العثور على دليل على المستحقات التي اشتراها البنك من "جي إف جي" المملوكة لغوبتا. أيضاً، داهم ممثلو الادعاء في بريمن مكاتب البنك ومنازل الموظفين. إلى ذلك، تواجه ما لا يقل عن 20 مدينة في ألمانيا أودعت ما مجموعه أكثر من 200 مليون يورو في بنك "غرينسيل" خسائر محتملة، بينما يجري مكتب مكافحة جرائم الاحتيال الخطيرة في بريطانيا تحقيقاً بشأن المخالفات المالية في "غرينسيل كابيتال" و"جي إف جي".

وقد حدا الانهيار بالسلطات السويسرية لمحاسبة بنك "كريدي سويس" داخلياً، حيث تحقق الجهات التنظيمية السويسرية في علاقاته بشركة "غرينسيل". من جانبها، تقول "بلوستون" إنها تجري مفاوضات مع "كريدي سويس" بشأن إعادة هيكلة ديونها، فيما تشكك شركة "طوكيو مارين" في صحة عقود التأمين التي أبرمتها مع "غرينسيل كابيتال".

لم تتم تسمية ليكس غرينسيل نفسه كهدف لأي تحقيقات حكومية في الشركة، لكن حياته تتغير. فقد احتفظ غرينسيل، في ذروة حياته المهنية، بأسطول مكون من أربع طائرات خاصة لدعم أسلوب حياته هو ومديريه التنفيذيين الذين يجوبون جميع أنحاء العالم على متن مئات الرحلات الجوية سنوياً إلى وجهات عادية وغريبة، مثل ليفربول وإيبيزا وبوغوتا وبانكوك والرياض. (كان ديفيد كاميرون قد سُمع وهو يمزح بشأن متع السفر على متن طائرات "ليكس إير" من تصنيع شركة "غلف ستريم" (Gulfstream) ذات المقاعد المكسوة بالجلد، في الطريق إلى منتجع التزلج السويسري في دافوس لحضور المنتدى الاقتصادي العالمي لعام 2019). الجدير بالذكر أن طائرات غرينسيل ممنوعة من التحليق، حيث صادرتها الجهات التنظيمية المالية في ألمانيا لحمايتها.

وقد أعادت كلية "مانشستر" لإدارة الأعمال، حيث حصل غرينسيل على درجة الماجيستير في عام 2006 تبرعاً قيمته 2.5 مليون جنيه إسترليني (3.4 مليون دولار) بهدف منح مقعد "غرينسيل" الدراسي في مجال التكنولوجيا المالية. أخيراً، هناك المزرعة، حيث أصدرت مزرعة عائلته بياناً إلى مجلة "كوينزلاند كانتري لايف" الأسبوعية المحلية لطمأنة جيرانهم إلى أن انهيار الأعمال المالية لشركة ليكس غرينسيل، لن يكون له أي تأثير على قدرتها على توفير منتجات عالية الجودة.