البلد الذي نفدت من مصارفه النقود

تحديات كبيرة أمام حكومة لبنان الجديدة برئاسة نجيب ميقاتي
تحديات كبيرة أمام حكومة لبنان الجديدة برئاسة نجيب ميقاتي المصدر: بلومبرغ
تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

أخيراً، وبعد ثلاثة عشر شهراً من التعثر في ظل حكومة تصريف أعمال، أصبح لدى لبنان حكومة.

هذا خبر سعيد جداً لبلد يعاني انهياراً اقتصادياً، وتعنتاً سياسياً، وفساداً مالياً، وتدخلات من قوى خارجية. وفوق كل ذلك انفجار المرفأ الذي ما زال غامضاً منذ العام الماضي، وأدى إلى دمار العاصمة بيروت.

لقد أدّى إعلان تشكيل الحكومة في 10 سبتمبر الجاري، إلى انتعاش كبير وفوري في قيمة الليرة اللبنانية. ففي ظل حكومة تتحمل المسؤولية، يستطيع لبنان الآن أن يحصل على مئات الملايين من الدولارات التي تعهد بها المانحون، و546 مليون دولار أمريكي دعماً من البنك الدولي، و860 مليون دولار متوقعة من مخصصات حقوق السحب الخاصة لدى صندوق النقد الدولي.

اقرأ أيضاً: بنوك لبنان: وظائف تتقلص وإقراض يهوي

غير أن ذلك لا يتعدى كونه علاجاً طارئاً ومؤقتاً، فلا شيء يبعث على الثقة في عودة نجيب ميقاتي إلى السلطة رئيساً للوزراء، أو في تشكيل حكومته الجديدة من وجوه معتادة.

لم توافق القيادات السياسية في البلاد، خصوصاً ميليشيا حزب الله الشيعية الموالية لإيران، على تشكيل حكومة، إلا لأن خيار الاستمرار في المماطلة قد استُنفد أخيراً. كان المصرف المركزي للبلاد هو الذي أجبر السياسيين في النهاية على إعادة ترتيب الكراسي. ففي 11 أغسطس الماضي أعلن حاكم "مصرف لبنان" رياض سلامة رفع الدعم عن الوقود، مما أغرق البلاد في أزمة شديدة. فبلا وقودٍ توقفت وسائل النقل واختفت الكهرباء، ومعها كثير من الضروريات الأساسية في مجتمع حديث. وفي الواقع، كان سلامة يواجه الرئيس ميشيل عون، وحلفاءه في حزب الله، وكل السياسيين بحقيقة بسيطة: البلاد مفلسة على مستوى حساباتها العامة والخاصة.

بلد مفلس

يستورد لبنان كل شيء تقريباً، ويعتمد اعتماداً كبيراً على نظامه المالي، لهذا يمرّ بهذه المسارات الخانقة. وعلى مدى عشرات السنين، أدارت مصارف البلاد عملية تبلغ حدّ الهرم العملاق أو "برنامج بونزي"، بحيث تدفع أسعار فائدة شديدة السخاء على الودائع البسيطة، ثم تحافظ على استمرار عمل الحكومة عن طريق إقراض الدولة أموالاً بلا نهاية. غير أن المظاهرات الهائلة التي بدأت في 17 أكتوبر 2019 بسبب فساد الحكومة وعدم كفاءتها، ساهمت في اندلاع أزمة اقتصادية. ومع ترنح الاقتصاد، ظهر أن النقد الأجنبي الذي زعمت البنوك أنها تحتفظ به لضمان أموال المودعين ولإقراض الحكومة، لا وجود له في الحقيقة.

وانفجرت الفقاعة، وأصبح لبنان يعاني أزمةً وجودية. ويحتاج من صندوق النقد الدولي والمجتمع الدولي إلى أن يعيد رسملة مصارفه، وإلا فلن يتعافى مطلقاً من الأزمة.

ومع انطفاء الأنوار والثلاجات وتوقف السيارات ومعاناة المستشفيات، وتعطل كل شيء عن العمل في كثير من أنحاء البلاد معظم الأوقات، كان على سادة الجمود أنفسهم أن يستجيبوا. وكان حزب الله تحديداً يشعر بأنّه مستهدَف صراحةً. ووجدت قوى إقليمية، مثل المملكة العربية السعودية، والإمارات العربية المتحدة بل وحتى سوريا، التي تعمل باستقلال عن إيران، أن من السهل عليها أن تمتلك نفوذاً في بلد عاجز تماماً وضعيف. وقد يمثل ذلك تهديداً خطيراً لحزب الله وقبضة إيران على النظام السياسي.

وقيل إن حزب الله مارس ضغوطاً هائلة على ميشيل عون وصهره الطموح جبران باسيل، بهدف قبول تشكيل حكومة يبدو أنها لن تضمّ موالينَ له بما يكفي لممارسة الفيتو، ممارسةً فعالة. وربما توصلت إيران وحزب الله بوضوح إلى استنتاج أن الأزمة تتحول إلى أزمة شديدة الخطورة عليهما، وعقدا اتفاقاً مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون للترويج للحكومة الجديدة.

والآن تعتزم الحكومة الجديدة توزيع بطاقات تموينية بالدولار الأمريكي على 500 ألف أسرة من الأسر الأشدّ فقراً. وفي هذه الأثناء سوف ترفع كل ما تبقى من دعم على الطاقة، بما يعني أن البنزين وغيره من منتجات الوقود سوف تتوافر في الأسواق مرة أخرى، ولكن بأسعار أعلى.

لا شيء تَغيَّر

ورغم ذلك، لا شيء تغير من الناحية الجوهرية، فلكي يقدّم صندوق النقد الدولي ومجتمع المانحين تمويلاً جديداً، سيكون على لبنان أن يقدّم تنازلات هامة وكبيرة في شأن المساءلة والشفافية، من بين شروط أخرى. وينبغي على أقل تقدير أن يوفر شبكة أمان لأعداد كبيرة من اللبنانيين الذين غرقوا حالياً في الفقر المدقع، حتى لا يصبحوا أكثر اعتماداً على المنح التي نادراً ما تأتيهم.

غير أن هذه التنازلات هي تحديداً ما لا يرغب الزعماء السياسيون في تقديمها، لا لأنها ستؤدي إلى فقدان جانب من نفوذهم ومزاياهم، بل لأنها تتطلب منهم الموافقة على حقائق أساسية مزعجة. مثلاً، حجم الأموال التي تُختلَس، ومن يفعل ذلك، وكيف ينبغي المشاركة في تحمل أعباء إعادة التمويل. إن مراكز القوى التقليدية، وكلها ممثلة تمثيلاً كبيراً في الائتلاف الجديد، تكره ذلك النوع من التوافق السياسي والاقتصادي الذي سوف يطلبه صندوق النقد الدولي والدول المانحة، من أجل إعادة رسملة النظام المالي المفلس من فعلياً.

سوف تمرّ فترة من الاسترخاء بسبب وصول المساعدات المقررة والقروض، وأياً كان مَن في السلطة، فسيكون عليه أن يستفيد من هذه المهلة ليتوصل في النهاية إلى تفاهم طويل الأمد مع صندوق النقد الدولي، الذي يستحيل من دونه التوصل إلى حل طويل الأمد. كما أن هذه المهلة ينبغي أن تمنح المجتمع الدولي فرصة هائلة لدفع الزعماء اللبنانيين إلى تقديم تنازلات كبيرة بشأن الشفافية والمساءلة وتحمُّل المسؤولية.

ربما حظي لبنان ببعض الراحة والهدوء، غير أن قادة البلد –والعالم من حوله– ينبغي أن لا ينسوا أن أزمته الوجودية لم تتوقف بعد.