معرفة الألمان عن تاريخ التضخم بنيت على رواية خاطئة

نشر باحثون دراسة تبين أن السردية الألمانية التي تربط بين ارتفاع التضخم بشكل جامح وصعود "الرايخ الثالث" إلى السلطة غير حقيقية وزائفة بشكل واضح
نشر باحثون دراسة تبين أن السردية الألمانية التي تربط بين ارتفاع التضخم بشكل جامح وصعود "الرايخ الثالث" إلى السلطة غير حقيقية وزائفة بشكل واضح المصدر: بلومبرغ
Andreas Kluth
Andreas Kluth

Columnist at Bloomberg Opinion. Previously editor-in-chief of Handelsblatt Global; 20 years at The Economist. Author of "Hannibal and Me."

تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

يُعرف عن الألمان أنَّهم قلقون بشكل عام، ويخافون من ارتفاع التضخم بشكل خاص. على أيِّ حال؛ أدى جموح معدل التضخم في عهد "جمهورية فايمار" إلى صعود أدولف هتلر والنازيين إلى السلطة، فهل هذا صحيح؟

في داخل ألمانيا وخارجها، تروى هذه الذاكرة الجماعية عدَّة مرات، وتستخدم كتفسير سيكولوجي لثقافة البلاد المتشدِّدة في السياسة النقدية، ولهجوم المحافظين الألمان منذ أمد طويل على البنك المركزي الأوروبي بسبب سياسته النقدية التوسعية. والآن، يصعد التضخم مجدداً في ألمانيا إلى نحو 3% للعام الحالي، بما يزيد كثيراً على معدل التضخم في منطقة اليورو، وعن مستهدف البنك المركزي الأوروبي البالغ 2%. لم يبلغ الألمان حدَّ الهيستريا بعد، غير أنَّنا يمكن أن نتوقَّع أن نسمع عن شبح "فايمار" مرة أخرى قبل مرور وقت طويل.

بسبب مشاكل الإمدادات... ارتفاع التضخم المستورد بألمانيا لأعلى مستوى في 40 عاماً

يعمل كلٌّ من إنتر لوكاس هافرت، ونيلز ريدكار، وتوبياس روميل كباحثين لدى "جامعة زيوريخ"، و"مدرسة هيرتي للحوكمة في برلين"، و"الجامعة الفنية في ميونيخ" على الترتيب. وقد نشر هؤلاء الباحثون دراسة تبيّن أنَّ السردية الألمانية التي تربط بين ارتفاع التضخم بشكل جامح، وصعود "الرايخ الثالث" إلى السلطة غير حقيقية وزائفة بشكل واضح.

شهد عصر "جمهورية فايمار" تضخماً جامحاً، وساهم فعلاً في انتشار شعور عام بالفوضى قوَّض دعائم الجمهورية الوليدة. غير أنَّ ذلك الشعور بلغ ذروته في عام 1923، وهي السنة التي قام خلالها هتلر بمحاولة انقلاب فاشلة، وسُجن على أثرها؛ وقد سبقت استيلاءه على السلطة بعشر سنوات كاملة. وعلى النقيض من ذلك؛ كانت الأزمة الاقتصادية والنقدية التي ساهمت مباشرة في استيلاء النازي على السلطة هي أزمة أوائل ثلاثينيات القرن العشرين، وخاصة ظاهرة الانكماش، أو الانخفاض العام في مستوى الأسعار، التي تسبَّبت في بطالة واسعة.

مع نهاية عهد ميركل .. البنوك الألمانية تتطلع لما وراء العقد الضائع

ومع ذلك؛ لا "يتذكَّر" الألمان التاريخ بهذه الكيفية. فقد أجرى هافرت، و ريدكار، و روميل بحوثاً مسحية طلبوا من المشاركين فيها تقدير معدل التضخم في عامي 1923 و1932. ووجدوا أنَّ معظم المشاركين يعتقدون أنَّ الأسعار كانت ترتفع كذلك في عام 1932. ولم يعرف أي واحد منهم أنَّ الأسعار انخفضت في تلك السنة. وكانت المفاجأة الكبرى أنَّ احتمالات الإجابة الخاطئة كانت تزيد كلما ارتفع مستوى تعليم مَن يجيبون على السؤال.

يستنتج واضعو الدراسة أنَّ الألمان حالياً "يجملون التاريخ الاقتصادي لجمهورية فايمار في شكل أزمة واحدة كبيرة". وفي هذه الرواية الحديثة، بطريقة أو بأخرى، أزاح مشهد التضخم الأول جانباً صدمة الانكماش اللاحقة، والأكثر ارتباطاً بالأزمة. لماذا؟

الاستقلال

يبدو أنَّ الإجابة هي أنَّ نسخة الرواية الشعبية اليوم ترجع أصولها لما بعد الحدث بفترة طويلة، أي إلى السياسات العاصفة في ألمانيا الغربية في فترة ما بعد الحرب. في خمسينيات القرن العشرين، انخرط الحلفاء الغربيون الذين كانوا يراقبون البلاد، والسياسيون من أمثال المستشار كونراد أديناور، والمصرفيون، وقادة النقابات، في شجارات ساخنة على مواصفات البنك المركزي الجديد لألمانيا.

شارك أديناور مع كثيرين تصوراً تقليدياً، وأرادوا أن يتبع البنك المركزي توجيهات السياسة. لكنَّ المصرفيين أرادوا استقلالاً كاملاً لأنفسهم. وقد وثَّق سايمون مي، وهو اقتصادي لدى البنك المركزي الأوروبي، أنَّ المصرفيين واظبوا على إعادة سرد أزمات حكومة "فايمار" حتى تتناسب مع أهدافهم، وببساطة قاموا بمحو حقيقة أنَّ البنك المركزي كان في ذلك الوقت مستقلاً، خلال فترتي التضخم الشديد والانكماش.

في عام 1957 انتصر المصرفيون، ووُلد البنك المركزي الألماني "بوندس بنك"، كان البنك مستقلاً تماماً، وأحادي التفكير، ويتبنى خط السياسة المتشددة، وبسرعة رسَّخ البنك هيبته في أوروبا، واكتسب احتراماً وإجلالاً في الداخل. وسخر أحد رجال الدولة الفرنسيين ذات مرة قائلاً: "ليس كل ألماني مؤمن بالله، لكن جميعهم يؤمنون بالـ(بوندس بنك)".

يوجد سببان على الأقل لكي يهتم الألمان وغير الألمان على السواء بهذه القصة التاريخية: الأول؛ يكمن في أنَّ الحقيقة دائماً أفضل من الأسطورة. والثاني؛ يرى أنَّ الأسطورة كانت لأعوام كثيرة أداة قوة سياسية يستخدمها المحافظون الألمان في مواجهة البنك المركزي الأوروبي، الذي يبعد مقرّه مسافة صغيرة عن مقرِّ "بوندس بنك" الذي تأسَّس على غراره.

لا أقصد هنا أنْ نستهين بمخاطر التضخم، فالارتفاع المنفلت للأسعار يضرُّ بالاقتصاد ضرراً شديداً كما تعلم ذلك جيداً كل البنوك المركزية الحديثة. ومع ذلك؛ فالفارق البسيط هو أنَّ مخاطر الانكماش كبيرة بالقدر نفسه أو تزيد، وتنبغي مقاومتها بالشراسة نفسها. لو كان قادة البنك المركزي – المستقل– في "جمهورية فايمار" أدركوا ذلك، لربما اختلفت حركة التاريخ اختلافاً تاماً.