العالم يصبح أغنى عندما تنهض الدول الفقيرة

تباين الأراء حول مع أعداد الفقراء حول العالم.
تباين الأراء حول مع أعداد الفقراء حول العالم. المصور: Paula Bronstein/ Getty Images Europ
Noah Smith
Noah Smith

Noah Smith is a Bloomberg Opinion columnist. He was an assistant professor of finance at Stony Brook University, and he blogs at Noahpinion.

تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

أطلق بيل غيتس (Bill Gates) الشريك المؤسس لشركة مايكروسوفت وصاحب اليد البيضاء، في فبراير 2019، جدالًا على درجة كبيرة من الأهمية حول الفقر العالمي بعدما نشر على حسابه عبر موقع تويتر مخططًا من موقع "أور وورلد إن داتا" (Our World in Data) يظهر فيه هبوط عدد الأشخاص الذين يعيشون بأقل من 1.90 دولار أمريكي في اليوم (مع مراعاة معدلات التضخم المالي وفرق العملات بين الدول) بشكل ملحوظ.

بدا ذلك المخطط كهذا تقريبًا:


عبر الباحث في علم الإنسان "جيسون هيكل" (Jason Hickel) عن اعتراضه على منشور "غيتس" في مقالة بصحيفة "الغارديان" مشككًا في دقة المخطط ومحتجًا على ادّعاء مؤسس مايكروسوفت، وعلى إثر ذلك، دافع جو هاسيل وماكس روزر الباحثان في "أور وورلد إن داتا" (Our World in Data) عن منهجيتهما البحثية في قياس مستوى الفقر، ما رد عليه هيكل بانتقادهما أكثر في مناظرة وثقها ديلان ماثيوز (Dylan Matthews) من موقع "فوكس" (Vox) الإخباري.

يمكن فهم رغبة بعض الناس في بريطانيا والولايات المتحدة في جعل الأمر يبدو وكأن العالم يتجه نحو مزيد من البؤس، فهذه الدول الغنية لها مشكلاتها الاقتصادية الخاصة مثل عدم المساواة وقلة الحركة وكساد الأجور، ولابد أن من يتفقون مع هيكل يشعرون أيضًا بالذنب جراء الغزو الاستعماري الذي ارتكبته هذه البلدان خلال القرون الماضية، إلا أن وجهة النظر هذه خاطئة، وهيكل مخطئ، بينما غيتس وهاسيل وروزر على صواب، فالفقر العالمي يتناقص بالفعل على نحو ملحوظ وغير مسبوق.

اعتمد هيكل في اعتراضه على عدة آراء يتمثل أحدها بانخفاض حد الفقر التي استخدمه موقع "أور وورلد إن داتا" بواقع 1.90 دولار أمريكي وفقًا للسعر العالمي للدولار لعام 2011، مقترحًا بدلًا من ذلك استخدام حد يساوي 7.40 دولار أمريكي في اليوم كمقياس للفقر المدقع، بيد أننا إذا ما استخدمنا هذا الحد الأعلى قليلًا وجدنا أن عدد الفقراء في العالم ارتفع بانتظام في الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي ولم يبدأ بالهبوط إلا في أواخر العقد الأول من هذا القرن بشكل تدريجي بطيء. ومن هذا المنظور، يرى هيكل أن الفقر العالمي ارتفع ولم يهبط.

لكن حجته ناقصة على المستويين الاقتصادي والأخلاقي، فعلى الرغم من أهمية مراعاة حدود الفقر الأعلى، فإن حدود الفقر المنخفضة أكثر أهمية، فالشخص الذي يعيش بأقل من 1.90 دولار أمريكي يوميًا يعاني من خطر الموت جوعًا ولا يستطيع الحصول على الرعاية الطبية التي تنقذ حياته أو المتطلبات الأساسية للصحة العامة أو التعليم الأساسي.

تفنيد لرأي مخالف

ولو افترضنا أن دخل ذلك الشخص ارتفع ليصبح 7.39 دولار أمريكي يوميًا، فهذه الزيادة ستغير حياته كليًا وإن كان لا يزال فقيرًا، لأنه أصبح بعيدًا عن الخطر المحتم والصراع اليومي المضني للبقاء على قيد الحياة.

غير أن الطريقة التي حسب بها هيكل الظاهرة تجعل الأمر يبدو وكأن هذه الزيادة في الدخل لا تمثل تراجعًا في مستوى الفقر، لأن 7.39 دولار أمريكي في اليوم لا تزال أقل من العتبة التي اختارها هيكل بواقع 7.40 دولار أمريكي، وفي هذا نوع من الفشل التحليلي لأنه لا يعير اهتمامًا لأحد المبادئ الأساسية للاقتصاد، ألا وهو انحسار المنفعة الحدية للاستهلاك، التي تعني أنه كلما قل ما يملكه الشخص من نقود، كانت لكل زيادة صغيرة في نقوده أهميتها.

وعليه، يعني تجاهل هيكل لاستخدام عتبات الفقر المنخفضة جدًا تجاهله أهم التطورات في مستويات المعيشة التي تبعد الناس عن العوز الشديد.

أما السبب الثاني لاعتراض هيكل فهو أن مخطط الفقر يقيس الماضي على نحو غير دقيق، ذلك أن الأرقام المتعلقة بالفقر في "أور وورلد إن داتا" بين الفترة من 1820 إلى 1980 أخذت من بحث نشره فرانسوا بورغينيون وكريستيان موريسون المختصان في علم الاقتصاد، في حين أخذت البيانات الخاصة بالفترة بين 1981 ويومنا هذا من قاعدة بيانات "بوفكال نت" (PovcalNet) التابعة للبنك الدولي.

ولهذا أشار هيكل إلى أن الجمع بين مصدرين مختلفين من مصادر البيانات معًا ليس مناسبًا للمقارنة بين الماضي القريب والماضي البعيد، معتقدًا أن الدخل الحقيقي للأشخاص الذين كانوا يعيشون في مجتمعات ما قبل عصر الصناعة كان أعلى بكثير من تقدير المؤرخين لأنه كان باستطاعتهم الاستفادة من الأراضي المشتركة وغيرها من المصادر الطبيعية التي تغفلها مقاييس نشاط السوق.

وبصرف النظر عما إذا كان ذلك صحيحًا أم لا، فإن المؤرخين الاقتصاديين وفقًا لروزر وهاسل يحاولون مراعاة مصادر الإنتاج التي لا علاقة لها بالسوق، ما يضر بوجهة نظر هيكل بدلاً من أن يثبت صوابها، حتى وإن كان محقًا.

الفقر والاستعمار

إن ما يشرحه مخطط "أور وورلد إن داتا" ببساطة هو أن العدد الإجمالي للأشخاص الذين يعيشون في فقر ارتفع بانتظام منذ 1820 حتى 1980 ليبدأ بعدها بالهبوط، وعليه، لو كان هيكل محقًا، فهذا يعني أن الاستعمار أدى إلى إفقار العالم أكثر مما يظهره المخطط، ولو كان ذلك صحيحًا فلا بد أن يجذب اهتمامنا أكثر الانخفاض في معدل الفقر منذ عام 1981، وفقًا لبيانات "أور وورلد إن داتا" التي لم يعترض هيكل عليها، نظرًا لما يمثله من انعكاس كبير في الوضع الذي كان يعيشه العالم فيما مضى.

ويعد الخلل الأكبر فيما عرضه هيكل هو تجاهله جميع البيانات الأخرى التي تؤكد هبوط معدلات الفقر، فلم يغرد غيتس بمخطط واحد بل بستة مخططات يظهر اثنان منهما ارتفاعًا ملحوظًا في معدلات محو الأمية وفي عدد سنوات التعلم في وقت يظهر فيه مخطط آخر انخفاضًا حادًا في عدد وفيات الأجنة.

وتظهر مخططات أخرى لم ينشرها غيتس انخفاضًا في معدلات الجوع ونقص التغذية، فلو زادت معدلات الفقر العالمي بالفعل لما كانت هذه التطورات ممكنة.

في الواقع، شهدت المناطق الفقيرة في العالم خلال السنوات الخمس والعشرين الفائتة تطورات كبيرة في حياة الأشخاص الذين يعيشون فيها، وأكبر مثال على ذلك هو الصين بالطبع، إلا أن الهند وبنغلادش وإندونيسيا وغيرها من الدول النامية المكتظة بالسكان مرت أيضًا بنمو ثابت على مدى السنوات الأخيرة.

ولا شك أن الجدال لن ينتهي حول ما إذا كان المسؤول عن هذه المعجزة هو تحرير الأسواق أم السياسات الصناعية المدروسة، ذلك أن بعض الدول الفقيرة استخدمت الخيار الأول بينما ذهب غيرها مع الثاني، في حين مزج البعض (مثل الصين) بين الاثنين.

يبدو أمر واحد جليًا كالشمس، وهو أن انتهاء الاستعمار سمح للدول الفقيرة بتدارك أوضاعها بعد أن تحررت من عبء إنتاج الموارد وزرع المحاصيل لخدمة أسيادها المستعمرين، واستطاعت العديد من هذه الدول تحسين قدرها وتجربة السياسات الاقتصادية حتى وجدت المزيج المناسب لها، ما يدل على أن النجاح الذي تبع إنهاء الاستعمار أمر يدعو إلى الرضا، حتى بالنسبة لهيكل.