كيف ساعد بوتين في تنظيم معرض فني يكاد يكون "مستحيلاً" في باريس؟

رائعة الفنان الفرنسي بول سيزان التي رُسمت بين عامي  1892 و1894
رائعة الفنان الفرنسي بول سيزان التي رُسمت بين عامي 1892 و1894 المصدر: جمعية المؤلفين والفنانين التشكيليين في باريس، 2021
المصدر: بلومبرغ
تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

في عام 2016، سافر رئيس مجلس إدارة مجموعة "مويت هينيسي لويس فيتون" (إل في إم إتش)، الملياردير برنارد أرنو بصحبة مستشاره، جان بول كلافيري، إلى موسكو، لتقديم الشكر للرئيس الروسي فلاديمير بوتين على إعارة أعمال فنية لمتحف أرنو في باريس الذي يحمل اسم "مؤسسة لويس فيتون".

عن ذلك، قال كلافيري، من داخل مكتبه الذي يعج بالكتب في مقر "إل في إم إتش" في باريس:

إنها هدية لفرنسا. ليس فقط لفرنسا، بل لأوروبا وللعالم أجمع

هذه الأعمال المُعارة لم تكن مجرد أعمال فنية عادية سمح لها بوتين بمغادرة البلاد. بل كانت باقة وفيرة من روائع الفنون الاستثنائية لرسامين مثل مونيه، وماتيس، وبيكاسو، وغوغان، وسيزان، وآخرين، بلغ مجموعها 130 عملاً فنياً، تم جمعها كلها من قبل الثري الصناعيّ، سيرجيه شوكين، خلال مطلع القرن العشرين.

لكن كلافيري وأرنو لم يذهبا حينها لشكر بوتين وحسب، حيث حملا له طلباً آخر.

يتذكر كلافيري قولهم له: "سيادة الرئيس، شكراً لك على مجموعة شوكين الموجودة حالياً في باريس. لكن هناك مجموعة أخرى بحوزتكم. إذا اتخذت قرارك الآن، إذا وافقت، فسنقيم معرضاً آخر لها".

من اللوحات الكلاسيكية إلى المُشفرة.. كيف أنقذ الأثرياء سوق الفن في زمن الجائحة؟

المجموعة الفنية التي كان يعنيها الرجلان هي مجموعة أعمال جمعها كل من إيفان موروزوف وشقيقه ميخائيل، وهما كانا من تجّار الأقمشة الأثرياء في روسيا، وقد اقتنيا، مثل شوكين، المئات من الأعمال الفنية التي تعود للمدرستين الانطباعية والحديثة في مطلع القرن العشرين. ومثلما حدث لمجموعة شوكين، فقد تم تأميم معظم الأعمال الفنية التابعة للأخوين موروزوف بعد ثورة عام 1917، ثم تم ضمها في مجموعات "متحف الإرميتاج" الحكومي في سانت بطرسبرغ، ومتحف "بوشكين" الحكومي للفنون الجميلة في موسكو، ومتحف "غاليري تريتياكوف" للفنون التشكيلية في موسكو.

وفقاً لما قاله كلافيري، فقد فكر بوتين في الطلب لفترة وجيزة، ثم قال "جان بول؟ نعم". وقد شعر مستشار أرنو بسعادة غامرة، واتصل مباشرة بنظرائه في المتاحف الروسية، وأضاف: "قلت لهم، قرر رئيسكم السماح لنا بإحضار مجموعة موروزوف إلى باريس، لذا علينا أن نبدأ العمل عليها الآن".

حالياً، وبعد مرور أربع سنوات ووباء واحد، سيتم إتاحة المجموعة أخيراً للجمهور بدءاً من 22 سبتمبر حتى 22 فبراير من عام 2022.

مجموعة فنية للمطلَّقين "ماكلو" قد تباع بأكثر من 600 مليون دولار

ماذا كلّف الأمر

كان لا بد من إنجاز الكثير في هذا الوقت. ونظراً لكون العديد من الأعمال الفنية في حالة سيئة، حيث كانت قد عانت عقوداً من الإهمال في عهد ستالين، فقد تمثلت الطريقة الوحيدة التي يمكن بها نقل مجموعة شوكين خارج روسيا عبر إنشاء مختبر للحفظ والترميم أولاً في متحف "بوشكين"، والذي دفعت لإنشائه "إل في إم إتش" مبلغاً لم يتم الكشف عنه.

بالمثل، حظيت أعمال مجموعة موروزوف بالعناية ذاتها. يقول كلافيري: "بدون هذا التعاون وبرنامج الترميم الضخم، كان من المستحيل تنظيم المعرض"، وذلك بالنظر لكون الأعمال هشة للغاية بحيث لا يمكن شحنها خارج البلاد. كما تحملت "إل في إم إتش" أيضاً تكلفة تصنيع زجاج آمن بالجودة التي تتطلبها المتاحف، بحيث يكون نقياً بما يكفي لرؤية اللوحات ولكنه آمن بما يكفي ليحميها أيضاً، وليتناسب كذلك مع إطارات لوحات الأعمال الفنية.

حتى عندما يتعرض كلافيري للضغط، فإنه يرفض مناقشة تكلفة كل هذه الجهود: "أنا لا أتحدث عن الأرقام أبداً. إننا نقضي حياتنا في هذه الشركة نتحدث عن الأسهم والأرباح. عندما اشترينا "تيفاني"، كان الجميع يعلم كم دفعنا. لذلك الآن دعونا نحلم فقط، بدون أي أرقام، في ميدان الفن".

مع ذلك، فهو على استعداد للإقرار بأن: "من الواضح أن الأمر كلّف الكثير بسبب التأمين والشحن والترميم". (مما لا شك فيه أن التكلفة وصلت إلى ملايين اليوروهات).

لكن كلافيري يلخص الأمر: "بالنسبة لنا، المهم هو أعداد الحضور. لقد كان لدينا 1.3 مليون زائر لمجموعة شوكين، وهذا عدد هائل. وبرغم الوباء، فإننا نأمل بتحقيق نفس المستوى مع معرض مجموعة موروزوف. سنرى".

جولة في قاعة الأحجار الكريمة ضمن متحف التاريخ الطبيعي في نيويورك

بالنظر لحجم وشمولية وجودة الأعمال الـ200 المعروضة، لا ينبغي أن يقلق كلافيري كثيراً بشأن عدد الحضور.

تنتشر أعمال مجموعة موروزوف في كل طابق من المبنى الذي صممه فرانك جيري للمؤسسة، حيث تم ترتيب صالات العرض بحسب مواضيع معينة. بدءاً من الطابق السفلي بالمتحف، حيث توجد غرفة مخصصة للرسومات التي يملكها الأخوين موروزوف لعائلاتهم وأصدقائهم. ومن بين الصور لوحة مذهلة رسمها الفنان فالنتين سيروف لنجل ميخائيل موروزوف، ويدعى ميكا، يعود تاريخها إلى عام 1901، وهي عادة ما يتم عرضها في "غاليري تريتياكوف".

كذلك يضم الطابق ذاته غرفة مخصصة لثلاثية زيتية ضخمة كان إيفان موروزوف قد أوكلها لعهدة بيير بونرد في عام 1911، بعنوان "البحر الأبيض المتوسط"، وقد قام بتثبيتها بعد ذلك كمشهد خلاب يطل على درج قصره في موسكو، عبر ثلاث لوحات طولية. يبلغ ارتفاع اللوحات المُبهجة ذات الألوان الساطعة أكثر من 13 قدم (1 قدم = 0.30 متر)، وتصور حديقة في سان تروبيه. وفي كثير من النواحي، يمكن اعتبارها نموذجاً للوحات التي جمعها إيفان من حيث الألوان الزاهية "نيون إلى حد ما"، والمواضيع المرحة والممتعة.

مساحة واسعة

تعد الغرفة التالية، المخصصة للمناظر الطبيعية، بمثابة استمرار للموضوع ذاته. فمن بين أكثر من 20 لوحة، يوجد لوحتين زيتيتين كبيرتين جداً للفنان مونيه (يزيد عرض كل منهما على 6 أقدام) كانتا قد رسمتا في مونتغرون، إحدى ضواحي باريس، خلال عام 1876. وتتمتع اللوحتان بجودة عالية تكاد تكون غير معقولة من حيث أجواء التصوير ولمعان ضربات الفرشاة ذات الطبقات الكثيفة.

يزداد المعرض روعة مع الصعود بالطوابق، حيث توجد غرفة للوحات المناظر الطبيعية الخلابة من إبداع سيزان، بينما خصصت أخرى لغوغان تقريباً. ثم هناك لوحة تنتمي لعالم آخر من إبداع بيكاسو تعود لعام 1905، بعنوان "فتاة أكروبات مع كُرة"، وهي تتشابه من حيث الأسلوب مع لوحته "فتى يقود حصاناً"، إحدى درر مجموعة الفن الحديث "موما" في نيويورك. وقد رسم الفنان الإسباني اللوحتان بشكل متزامن تقريباً خلال الفترة بين عامي 1905 و1906.

كما خصصت أمينة المعرض، آن بالداساري، بحكمة بالغة، مكاناً لأفضل لوحات المجموعة مع مساحة واسعة لتأملها بلا مشتتات.

على سبيل المثال، وُضعت لوحة فان غوخ "فناء السجن" من عام 1890 في غرفة خاصة بها تشبه المعبد. وتستند اللوحة التي رسمها الفنان أثناء وجوده في مصحة للأمراض النفسية في "سانت ريمي دي بروفانس" إلى رسم لبعض نزلاء سجن "نيوجيت" سيئ السمعة في إنجلترا.

ارتباط النتائج الطبيعية بين سجن فان غوخ الذاتي والسجناء الإنجليز يكاد يكون واضحاً في هذه اللوحة للغاية، لكن رهاب الأماكن المغلقة الذي تضج به الصورة، فضلاً عن ضربات الفرشاة الحركية المميزة لفان غوخ، يشكلان تبايناً ملحوظاً مع أعمال المناظر الطبيعية المشمسة التي اشتهر بها الفنان الانطباعي الهولندي، ولا سيما رائعته "ليلة متلألئة بالنجوم".

عندما ينتهي المعرض الذي يستمر على مدى خمسة أشهر، ستعود الأعمال الفنية إلى متاحفها في روسيا.

كما قال كلافيري: "يبدو مثل هذا المشروع مستحيلاً في البداية". ويضيف أن هذه الصعوبة ستتضاعف لتحقيق رؤية مثل هذه المجموعة كاملة مرة أخرى بمجرد انتهائه.

لذلك، اعتبره مساعد أرنو "معرضاً تاريخياً. ليس فقط لتاريخ الفن، ولكن أيضاً بالنسبة للعامة".