الجائحة وأزمة المناخ تظهران ثمن التقاعس عن العمل

المصدر: غيتي إيمجز
المصدر: بلومبرغ
تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

نُشر أول كتاب مستقبلي تقني حقق أفضل المبيعات في فرنسا عام 1795، وترجم سريعاً إلى اللغة الإنجليزية ولغات أخرى، وهو لم يتصور فقط فترات حياة أطول، وزيادة إنتاجية الزراعة، واستخداماً أكثر كفاءة للموارد، وإنما أيضاً مواطنين أكثر حكمة وحوكمة أفضل. وبهدف إضفاء تأثير مؤثر على هذا التوقع الأخير، كتب مؤلف كتاب "الرسم التخطيطي لصورة تاريخية لتقدم العقل البشري"، الماركيز دي كوندورسيه، بينما كان مختبئاً من "الراديكاليين اليعاقبة" الذين سيطروا على الثورة الفرنسية منذ منتصف عام 1793 حتى منتصف 1794. الجدير بالذكر أن كوندورسيه هو عالم رياضيات، تحوّل إلى إداري علمي، وصعد لفترة وجيزة إلى السلطة السياسية في المراحل الوسطى من الثورة، إلا أنه مات على الفور بعد فترة ليست طويلة من إنهاء كتابه. وقد قال رجل الدين الإنجليزي توماس روبرت مالثوس ساخراً: "لقد كان مثالاً فريداً على ارتباط الرجل بمبادئه، والتي كانت تتناقض بشكل صارخ مع تجربته الحياتية في كل يوم".

إقرأ أيضاً: الجوع يهدد بحصد أرواح أكثر من ضحايا كوفيد-19

كتب مالثوس هذا في الطبعة الأولى لعام 1798 من كتابه الشهير "مقال عن مبدأ السكان"، والذي ذكر فيه اسم كوندورسيه في العنوان الفرعي وشرع في دحض تفاؤل الفرنسي الراحل، حيث قال مالثوس: "إن عدد السكان، عندما لا يتم كبح جماحه، يزداد وفق متوالية هندسية، في حين يزيد مورد الرزق وفق متوالية حسابية فقط. وبالتالي فإن التعرف البسيط إلى الأرقام، سيُظهر ضخامة القوة الأولى مقارنة بالقوة الثانية". (مثال: 2، 4، 8، 16، 32، إلخ، مقابل 1، 2، 3، 4، 5، إلخ) والنتيجة الحتمية هي "البؤس والرذيلة".

وهكذا بدأت إحدى النقاشات العظيمة للحداثة، والتي استمرت حتى يومنا هذا في شكل متغير، ولكن يمكن التعرف إليه. وبغض النظر عن موته المفاجئ، كان كوندورسيه هو الفائز الواضح حتى الآن. "مَن الذي يأخذ على عاتقه أن يتنبأ إلى أين يقودنا في يوم من الأيام فن تحويل العناصر إلى استخدام الإنسان؟" سأل والأمل يحذوه. وقد اتضح أن بعض المجالات المثيرة للاهتمام ستفعل ذلك.

في الواقع، نما عدد السكان بشكل كبير، وكذلك الإمدادات الغذائية، ولكن بطريقة متقطعة وغير منتظمة، حيث ارتفع متوسط ​​العمر المتوقع العالمي من حوالي 30 عاماً في عام 1800 إلى ما يقرب من 73 عاماً في عام 2019. وعلى الرغم من أن استهلاك الموارد الطبيعية قد ارتفع بشكل مذهل خلال الثورة الصناعية ولا يزال يرتفع في العالم النامي، فقد شهدت البلدان الغنية في العقود الأخيرة انخفاضاً ثابتاً في استخدام الفرد للطاقة. كما تحققت تنبؤات عدة لكوندورسيه حول التغيير السياسي والاجتماعي أيضاً، مع انتشار الديمقراطية، وتلاشي العبودية والاستعمار، واكتساب المرأة مكانة أكثر مساواة. وكان هناك الكثير من البؤس والرذيلة على طول الطريق، ولكن بشكل عام، انتصر الأمل والبراعة على اليأس والرياضيات البسيطة.

"إن توقع أن تكتشف الأجيال القادمة كل شيء يقلل من احتمالات وجود أجيال قادمة"

هنا تظهر القصص أسرع مما نتوقع هذا العام. ومن بين جملة أمور أخرى، تبرز محاولات بناء بطاريات وأنظمة الري ذات الآثار البيئية الأقل، وتحسين البنية التحتية الحضرية والريفية لدينا، وصنع أحذية رياضية للأشخاص الذين يحتاجون إلى بدائل الأحذية التقليدية ذات الشرائط. كما تتضمن بعض هذه الجهود اختراقات تكنولوجية، بينما يدور البعض الآخر حول اختراق الحواجز السياسية. وفي حين أن بعضها هو قفزات نوعية، إلا أن البعض الآخر هو مجرد تعديلات بسيطة مخادعة. وكل ذلك يتطلب حشد بعض الإرادة المتأخرة لمواجهة التحديات الكبيرة والصغيرة.

فضلاً عن ذلك، أصبحت حكايات الابتكار والإبداع بالطبع عنصراً أساسياً في وسائل الإعلام التجارية في العقود الأخيرة. كما ساعدت التطورات في الحوسبة، والاتصالات، والطب، وإنتاج الطاقة، وغيرها من المجالات أيضاً في إنشاء جيل جديد من المستقبليين التقنيين الذين قد يشبهون كثيراً كوندورسيه، وإن كان ذلك في كثير من الأحيان مع إرفاق عرض ترويجي.

التحديات باقية

مع ذلك، بطريقة أو بأخرى، لم نتغلب على كل التحديات التي تواجه البشرية. فقد أظهرت جائحة عالمية مميتة -وتشوش متوسط ​​العمر المتوقع في الولايات المتحدة حتى قبل وصولها- أننا مازلنا بعيدين عن "نهاية الأمراض المعدية والوراثية" التي تنبأ بها كوندورسيه. كما توقف صعود الحكم الديمقراطي لفترة من الوقت الآن، حيث أظهر مؤشر الديمقراطية في وحدة المعلومات الاقتصادية انخفاضاً في كل منطقة من مناطق العالم في عام 2020. أما الإنترنت، وهو تقدم في مجال الاتصالات كان من المؤكد أنه سيثير إعجاب كوندورسيه، الذي أعطى أهمية كبيرة لصعود المطبعة (مثل المطبعة المبكرة، في الواقع) أنها ناشرة للخطأ والفتنة وكذلك المعرفة. علاوةً على ذلك، فإن الاحتباس الحراري، وهو الأزمة الحديثة التي تتماشى مع مخاوف مالثوس بشأن تفوق البشرية على قدرة الأرض على الحفاظ عليها، يلوح في الأفق بشكل أكبر كتهديد للازدهار وحتى الحياة والكوكب.

علاوةً على ذلك، كانت إجابة مالثوس الخاصة لمثل هذه المخاوف قدريّة قاتمة: لا تساعد الفقراء، لأنهم سينجبون المزيد من الأطفال ويزيدون البؤس. كما مال أحفاده المثقفين عبر القرون إلى أن يكونوا أكثر نشاطاً، مع مقترحات تتراوح من الفظيعة (قطع نسل المجتمع المنحط) إلى المعقول تماماً (التنظيم وفرض الضرائب على التلوث).

ووسط تصاعد المخاوف المالثوسية قبل نصف قرن، برز التركيز على السيطرة على النمو السكاني والنشاط الاقتصادي؛ حيث كانت المجاعة الجماعية وشيكة، وفق تحذير عالم الأحياء بول إيرليش في كتابه "القنبلة السكانية" في عام 1968، في حين استخدم نادي روما في كتابه لعام 1972 "حدود النمو" نماذج حاسوبية تم تطويرها في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا للتنبؤ بالانهيار المجتمعي نتيجة المجاعة ونضوب الموارد و/أو التلوث في وقت ما في القرن الحادي والعشرين. كما يبدو أن أزمة النفط اللاحقة تؤكد أن البشرية كانت تقف في مواجهة جدار الموارد.

في الحقيقة، سرعان ما انتهى نقص النفط، وعلى الرغم من أن عدد سكان العالم استمر في الزيادة بمعدل يقارب المعدل الذي توقعه الكتابان، فقد أصبحت المجاعات أكثر ندرة. ولم يتوقع كتاب "حدود النمو" مشكلات كبيرة حتى وقت طويل من هذا القرن، وبالتالي لم يتناقض تماماً مع الأحداث (حتى الآن). إلا أن إيرليش توقع "زيادة كبيرة في معدل الوفيات العالمي" في السبعينيات والثمانينيات. وبدلاً من ذلك انخفض بنسبة 30%، وهو ما أبقى النمو السكاني متماشياً مع توقعاته حتى مع انخفاض معدلات المواليد. كذلك خسر رهاناً مشهوراً مع الخبير الاقتصادي جوليان سيمون حول ما إذا كانت أسعار المعادن ستستمر في الارتفاع في الثمانينيات.

الرد على التنبؤات

ما من شكٍ في أن هذه التنبؤات المشوهة ولّدت شيئاً من المبالغة في رد الفعل، حيث أصبح سايمون وحلفاؤه المثقفين وورثته يرفضون بشكل متزايد المخاوف البيئية، ويقتنعون بأن قوى السوق ستحل كل شيء. كذلك أصبح من المرجح أن يتجاهل بقيتنا التحذيرات من الموت الوشيك.

إلا أن الثورة الخضراء في الإنتاجية الزراعية التي عطلت توقعات إيرليش لم تكن حتمية مدفوعة بالسوق، بل دُفعت لتصبح حقيقة واقعة من قبل علماء الزراعة، والمؤسسات الخيرية الأمريكية، والحكومات في جميع أنحاء العالم. كما أنها لم تأت من دون تكاليف؛ حيث أدى الازدهار الزراعي في العالم النامي إلى فقدان الكثير من الغابات التي كانت تستخدم لتخزين الكربون. وقد أدى الاستخدام المكثف للأسمدة والمبيدات الحشرية على مستوى العالم إلى آثار جانبية ليست عظيمة.

بمعنى آخر، فإن التقدم معقد. وكانت هذه في الواقع نقطة رئيسية في كتاب كوندورسيه، والذي يتكون من وصف لتسعة عصور ماضية من التنمية البشرية، تليها حقبة عاشرة تمتد إلى المستقبل، حيث قال إن القضاء على المعتقدات الخاطئة هو الذي مكّن البشرية من المضي قدماً، ومن المؤكد أنه لا يزال هناك العديد والعديد من الأخطاء التي يجب تصحيحها. وقد كان هذا على وجه التحديد هو الركيزة لآماله في المستقبل –حيث با يزال لدى البشرية مجال كبير للتحسين.

الجدير بالذكر أن كوندورسيه كان شخصية شبه لامعة مع زملائه البارزين، حيث كان فولتير مرشداً، وكان بنجامين فرانكلين وتوماس جيفرسون صديقين له، وكان ماركيز دي لافاييت شاهداً في حفل زفافه. كذلك كانت كتاباته قبل الثورة الفرنسية تميل نحو الكثافة، ومليئة بالمعادلات، واكتسبت مكانة بارزة، حيث احتضن علماء الاجتماع حماسه لتطبيق التفكير الرياضي والإحصائي على أسئلة السلوك البشري، إن لم يكن بالضرورة تقنياته.

كما استقطب كتابه المكتوب على عجل جمهوراً أوسع من القراء، وجذب المزيد من الانتقادات. ”كوندورسيه! لقد كنت سطحياً في التشريع كما كنت غامضاً في الهندسة"، هذا ما قاله الرئيس الأمريكي جون آدامز في هوامش نسخته.

استمرارية النمو

فضلاً عن ذلك، فإن التحليل التاريخي في الكتاب مشكوك فيه، وبعض اللغة والمواقف قديمة، والجدل ليس واضحاً دائماً. ومن الممكن أن يكون النجاح الملحوظ للكتاب في التنبؤ بمسار القرنين الماضيين يتعلق بالتوقيت المناسب أكثر من كونه يتعلق بالحقيقة الأبدية، حيث كتب الخبير الاقتصادي روبرت جوردون قبل بضع سنوات: "لم يكن هناك نمو فعلياً قبل عام 1750، وبالتالي لا يوجد ضمان لاستمرار النمو إلى أجل غير مسمى".

مع ذلك، فإن كتاب كوندورسيه يستحق على الأقل القدر ذاته من الاهتمام الذي يستحقه رد مالثوس الأكثر شهرة. فقد مزج كتاب كوندورسيه بين الإيمان في التقدم التكنولوجي وإدراك أن الاضطراب الكبير غالباً ما يصاحب الابتكارات، وتفضيل الأسواق الحرة مع مناشدات لحوكمة أقوى. وهو لم يحظَ لا بالرضا ولا الاستسلام، بل كان نوعاً من النشاط العاجل المأمول.

هناك شيء واحد وضعته بداية كوفيد-19 المفاجئة والمتغيرة للعالم في منظوره الصحيح: نحن بحاجة حقاً إلى التعامل مع بعض المشكلات التي ظل الأشخاص المطلعون يثيرون القلق بشأنها منذ عقود، حيث إن توقع أن تكتشف الأجيال القادمة كل شيء يقلل من احتمالات وجود أجيال قادمة. وقد أوضحت الجائحة أيضاً أن الإجراءات الفردية لا تكفي لمواجهة جميع التهديدات التي نواجهها؛ ونحن في هذا معاً.

هذا ولا يمكن أن نتوقع من الابتكارات من النوع الموصوف في هذه القصص أن تصلح جميع المشكلات التي يعاني منها الكوكب والجنس البشري؛ وعلى عكس القدريّة القاتمة، فهي البداية.