كيف قدمت زيورخ نهجاً عالمياً للبناء الأخضر؟

الخرسانة المستخدمة في بناء توسعة متحف الفنون الرئيسي في زيورخ "كونستهاوس زيورخ"، معاد تدويرها بنسبة 98%
الخرسانة المستخدمة في بناء توسعة متحف الفنون الرئيسي في زيورخ "كونستهاوس زيورخ"، معاد تدويرها بنسبة 98% المصدر: ديفيد شيبرفيلد للعمارة
المصدر: بلومبرغ
تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

مع تشييد المزيد من المباني الجديدة حول العالم بشكل مستمر، تحاول مدينة واحدة في أوروبا جعل هذه الغابات الخرسانية أكثر خضرة ولو بقليل.

باتت زيورخ، أكبر مدن سويسرا، تتبوأ مكانة رائدة في تطوير الأبنية الصديقة للبيئة، حيث اعتمدت المدينة التدابير الخضراء قبل وقت طويل من أن تبدأ معظم الشركات في الإعلان عن استراتيجياتها البيئية.

مستمدة إلهامها من نقاش جدلي دار قبل حوالي عشرين عاماً حول كيفية تقليل كمية الحصى المستخرجة والمستخدمة في البناء، أصبحت المدينة رائدة في مجال البناء الأكثر استدامة. حيث بني فيها أول مبنى من الخرسانة المعاد تدويرها في عام 2002، وهو مدرسة، وكانت 80% من الخرسانة المستخدمة فيه هي خرسانة معاد تدويريها. في عام 2005، وضعت المدينة شرطاً على جميع المباني المملوكة للقطاع العام، باستخدام الخرسانة المعاد تدويرها.

صناعة الإسمنت حازت أخيراً على التكنولوجيا اللازمة لخفض انبعاثاتها

في عام 2013، اتخذت المدينة خطوة للأمام مع فرض استخدام الاسمنت الأخضر منخفض الانبعاثات، وحالياً، بدأت مدن أخرى تحذو حذوها لتبني الممارسات التي تتبعها زيورخ منذ أكثر من عشر سنوات.

هذه التدابير الخضراء جاءت في الوقت الأنسب، إذ تعد الخرسانة مساهماً رئيسياً في التغير المناخي، وهي المادة التي صنعها الإنسان لتصبح الأكثر شيوعاً في الاستخدام على الكوكب بأسره. ويقدَّر أن إنتاج الاسمنت، وهو المكون الرئيسي للخرسانة بجانب الرمل والحصى والمياه، مسؤول عن حوالي 6% إلى 8% من الانبعاثات عالمياً، وفي عالم يتجه بشكل متزايد نحو التصنيع والتحضر، من المتوقع زيادة حركة الإنشاء عالمياً بنسبة 35% بحلول 2030، فيما يسعى الباحثون لتقليل هذه البصمة المتزايدة عبر إعادة التدوير أو باستخدام مواد أخرى.

الضريبة البيئية للبناء

بشكل خاص، تعد انبعاثات الخرسانة مرتفعة للغاية، وذلك لأن المادة الخام الرئيسية للاسمنت هي الجير المحروق (الحجر الجيري المتكلس)، والذي يحتاج لإنتاجه درجات حرارة عالية للغاية، حوالي 1450 درجة مئوية. وتخلق عملية التكليس مادة تسمى "كلنكر" (clinker) يتم طحنها لاحقا إلى جزيئات دقيقة. وتصدر انبعاثات الكربون كنتيجة ثانوية لكل من التفاعل الكيميائي الذي يخضع له الحجر الجيري (يمثل حوالي 60% من إجمالي الانبعاثات)، وتنتج أيضاً من احتراق الوقود اللازم للعملية.

على مدى العقود الثلاثة الماضية، أصبح من الشائع استبدال بعض المواد في صنع الخرسانة، بمواد مثل "خبث المعدن"، وهو عبارة عن مادة تنتج من النفايات المتبقية جراء صهر المعادن، أو من الرماد المتطاير، أو من إعادة تدوير نفايات الهدم. وفي سويسرا، كان استخدام الصخر الزيتي المحترق كبديل أكثر انتشاراً في الاسمنت، ومن المحتمل أن يكون الاستخدام المتزايد للطين المتكلس حلاً إضافياً، نتيجة تناقص كمية "الخبث" والرماد المتطاير حول العالم، وخفضت صناعة الاسمنت السويسرية انبعاثات ثاني أكسيد الكربون الناتجة عن استخدام الوقود الأحفوري بأكثر من الثلثين منذ عام 1990.

ووفقاً للمعايير السويسرية، يجب أن تحتوي الخرسانة على 25% على الأقل من المواد المعاد تدويرها (نفايات الهدم) لكي تُصنف على أنها مواد معادة التدوير، وتعتمد نسبة محتوى الـ"كلنكر" في منتج الاسمنت منخفض الكربون على نوع الاسمنت، لكن يمكن أن تتراوح نسبة الـ"كلنكر" في الاسمنت بين أقل من 50% إلى أكثر من 70%، واستخدمت زيورخ هذه المواد الأكثر صداقة للبيئة على نطاق واسع في مباني البلدية الجديدة، وكانت 98% من الخرسانة المستخدمة في بناء توسعة متحف الفنون الرئيسي في المدينة، "كونستهاوس زيورخ"، خرسانة معاد تدويرها، بينما وصلت نسبة المواد المعاد تدويرها ضمن بناء مستشفى جديد، والعديد من المجمعات السكنية في المدينة إلى 95%.

نهجٌ يتوسع عالمياً

وفر تطبيق هذا النهج في المباني وحدها، من خلال إعادة تدوير الخرسانة، حوالي 17 ألف متر مكعب من المساحة المخصصة للمواد الخام والنفايات في المدينة، وفقاً لدراسة حالة نشرت في 2019.

تجذب هذه الاستراتيجية اهتمام مدن أخرى بشكل متزايد. وكانت زيورخ استضافت خبراء من روما وهلسنكي أرادوا التعرف على هذه المواد في عام 2019، وهو ما عكس زيادة الاهتمام بالبناء الأخضر.

تقول كارن سكرايفينر، الأستاذة في "مدرسة لوزان الاتحادية" للفنون التطبيقية، والتي تقود الأبحاث في مختبر مواد البناء: "في المدن المزدحمة وعالية الكثافة السكانية، حيث لا توجد مسافات كبيرة بين مواقع الهدم والمباني الجديدة، سيتعين علينا في أوروبا جعل إعادة التدوير أمرا روتينيا تماماً، لأن ذلك بالتأكيد هو النهج الذي يجب أن نطبقه".

وتشهد شركة "هولسيم ليمتد" (Holcim)، وهي شركة سويسرية لتصنيع الخرسانة والاسمنت، نمواً في الطلب الأمريكي أيضاً، حيث تقول الشركة إن هناك أعمالا لبناء مشاريع تتضمن الخرسانة الخضراء في الولايات المتحدة، منها سكن جامعي في "جامعة جورج تاون" في واشنطن العاصمة، ومركز علوم البيانات والحوسبة الجديد في "جامعة بوسطن"، الذي من المقرر أن يكتمل في عام 2022.

صندوق بيل غيتس يستثمر في صانع الأسمنت الأوروبي الأخضر

كذلك الأمر في أوروبا، حيث قررت برلين في عام 2019 أن المباني العامة، مثل المدارس ومراكز رعاية الأطفال أو المباني الإدارية، يجب أن تُبنى بشكل عام باستخدام الخرسانة المعاد تدويرها. وفي لندن خلال عام 2007، تم إنشاء مبنى مكاتب من 10 طوابق بمساحة 180 ألف قدم مربع (1 قدم مربع = 0.9 متر مربع) في شارع وان كولمان في المركز المالي بلندن، باستخدام كل من الدعامة والرماد المتطاير، وهو ما رفع المحتوى الإجمالي المعاد تدويره في الخرسانة الهيكلية الرئيسية للمشروع إلى حوالي 50% بالنسبة لكتلة البناء.

قوانين البناء

بالرغم من أن زيورخ تعد رائدة في مجال البناء المستدام، غير أنها لا تطبق قاعدة الخرسانة المعاد تدويرها على الأبنية غير التابعة للبلدية، بسبب عدم وجود طريقة قانونية لفرض المواد التي يجب استخدامها، ومن منظور السعر، تساوي تكاليف الخرسانة المعاد تدويرها تقريباً تكلفة الخرسانة التقليدية، لكن يمكن أن تزيد تكلفة الاسمنت الأخضر قليلاً بسبب الاستثمارات الإضافية اللازمة في البحث والتطوير في القطاع.

يقول أرمين غرايدر، رئيس قسم الهندسة في "مكتب مسح المباني" في زيورخ: "أكبر عقبة أمام الاستخدام واسع النطاق للخرسانة المعاد تدويرها هي الوعي. بعض المعماريين والمخططين والمهندسين لم يقتنعوا بعد بها، وهم يعتقدون أنها تتطلب مزيداً من الجهد في عملية البناء، لكن ليس هذا هو الحال. هي ليست مجرد مادة مستخدمة بشكل عام في البناء، وتحتاج إلى أن يفهمها الناس بشكل أفضل".

ومع ذلك، لا تزال هناك قيود على استدامة الخرسانة المعاد تدويرها، فرغم أن تفكيك ومعالجة نفايات الهدم أكثر استدامة من معالجة الحصى الخام في المحاجر، إلا أن الخرسانة المعاد تدويرها تتطلب عادة عمليات نقل لمسافات طويلة، وخلُصت دراسة في عام 2019 إلى أن استخدام الخرسانة المعاد تدويرها يكون مجدياً من منظور الطاقة، فقط إذا كان الوصول إليها متاحاً ضمن دائرة نصف قطرها 25 كيلومتراً، من موقع البناء.

وفي منطقة زيورخ الكبرى، أدى الطلب المتزايد في المدينة على الخرسانة المعاد تدويرها، إلى توفير المنتجين للمزيد من مواد البناء المعاد تدويرها، وفي ذلك دلائل على أن هناك مجالاً أمام واضعي السياسات في البيئات الحضرية لأن يدفعوا السوق نحو معدلات إعادة تدوير أعلى من خلال اتباع نموذج زيورخ ووضع شروط على البناء.

يضيف جريدر: "يوما ما قد تكون هناك شروط تفرض استخدام الخرسانة المعاد تدويرها لأغراض معينة، على نطاق أوسع" وتابع أخيراً: "سيكون ذلك ممكناً ومرغوباً فيه".