هل بلغت فيسبوك لحظة شركات التبغ الكبرى؟

تحذير: وسائل التواصل الاجتماعي تؤذيك وتؤذي آخرين يحيطون بك
تحذير: وسائل التواصل الاجتماعي تؤذيك وتؤذي آخرين يحيطون بك المصدر: بلومبرغ
المصدر: بلومبرغ
تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

لطالما تفاخر المديرون التنفيذيون في "فيسبوك" بالأمان الذي توفره منصاتهم، وذلك على الرغم من استثمارهم في طرق تجعل المراهقين متعلقين بهذه المنصات، وإخفائهم ما يعرفونه عن العوارض الجانبية الناجمة عن ذلك. هل يبدو لكم الأمر مألوفاً؟ يقول النقّاد إن شركات التبغ الكبرى سبق واعتمدت النهج نفسه، ما يزيد من مشاعر الغضب تجاه عملاق التواصل الاجتماعي.

لطالما خففت شركة "فيسبوك" من وقع البحوث الخاصة التي أجرتها حول الطرق التي يمكن من خلالها لموقع مشاركة الصور "إنستغرام" أن يلحق الضرر بالصحة النفسية للمستخدمين الشباب، بحسب تقرير نشرته صحيفة "وول ستريت جورنال". إذ أجاب نحو ثلث الفتيات المراهقات اللواتي تمّ استطلاعهن لـ"فيسبوك"، أنهنّ يشعرن بإحساس أسوأ تجاه أجسادهن بعد تصفح "إنستغرام"، بحسب الوثائق التي اطلعت عليها الصحيفة. ولكن على الرغم من معرفة شركة "فيسبوك" بذلك، استمرت في تخصيص الموارد من أجل الوصول إلى العدد الأكبر من المستخدمين الصغار، بما يشمل إنشاء نسخة من "إنستغرام" مخصصة للأطفال.

اقرأ أيضاً:"إنستغرام".. ليس للأطفال

هل يصح أن يربط فارس "مارلبورو" راحلته على باب شركة لأدوية الربو؟

دفعت هذه المعلومات ببعض المشرّعين إلى مقارنة ما تقوم به شركة "فيسبوك"، بالحملة التي قادتها شركات التبغ الكبرى لعقود من الزمن، بهدف تضليل الرأي العام حيال المخاطر السرطانية والإدمانية الناتجة عن السجائر. وقال النائب الجمهوري عن أوهايو، بيل جونسون، إن "المديرين التنفيذيين (لشركات التبغ) كانوا يدركون أنها تحتوي على مواد كيميائية مسببة للإدمان، مع ذلك لم يتخذوا أي خطوات لمنع وصول هذا المنتج إلى أيدي الأطفال". وأضاف: "كانوا يعرفون أنهم في حال جعلوا الأطفال مدمنين منذ الصغر، سيكسبون زبائن مدى الحياة. والأمر مماثل هنا. فالأطفال والشباب مدمنون على هذه المنصات، ويمكنكم أن تطلعوا على تقرير تلو الآخر حول الضرر الناجم عن ذلك".

قلق من "إنستغرام الصغار"

تثير الآثار طويلة المدى لوسائل التواصل الاجتماعي، القلق حيال خطة "فيسبوك" لبناء نسخة من "إنستغرام" خاصة بالأطفال. فهذه الخدمة التي يطلق عليها أحياناً تسمية "إنستغرام الصغار" أو (Instagram Youth) في أروقة الشركة الداخلية، تهدف إلى تمهيد الطريق أمام الأطفال ما قبل سنّ المراهقة للدخول إلى عالم التواصل الاجتماعي إلى حين بلوغهم الـ13 من العمر، ويصير يحق لهم أن ينضموا إلى الموقع الأساسي. يبرر "فيسبوك" هذه الخطوة بأن الأطفال يكذبون في ما خصّ أعمارهم من أجل الانضمام إلى "إنستغرام"، وبالتالي فإن إنشاء منتج موجّه للصغار، خاضع لمراقبة الأهل، سوف يشكل بديلاً أكثر أماناً.

كان أكثر من ثلاثين نائباً عاماً في الولايات قد حثّوا الرئيس التنفيذي لـ"فيسبوك"، مارك زوكربرغ، على التخلي عن المشروع بحجة أن "إنستغرام الصغار" قد يسهم في التسبب بمشكلات مثل الاكتئاب والوحدة والقلق. وكان ذلك أيضاً رأي عدد من المشرّعين الأمريكيين والناشطين الداعمين للخصوصية وصحة الأطفال.

من جانبه، حذّر جوش غولين، المدير التنفيذي لمنظمة "فيربلاي" (Fairplay) غير الربحية الهادفة للحدّ من التسويق المستهدف للأطفال، من أنه "في حال تمسكت "فيسبوك" بـ"إنستغرام الصغار"، فسوف يظهر ذلك أنهم لا يمتثلون إلى أي جهة".

من أجل فهم تأثير "إنستغرام" على الصحة النفسية للأطفال، أجرت شركة "فيسبوك" استطلاعاً شمل عشرات الآلاف من المستخدمين وقامت بالتنقيب في بياناتها الخاصة في خلال السنوات الثلاث الماضية، بحسب "وول ستريت جورنال" التي استندت إلى بحوث أجريت في داخل "فيسبوك" وتمكنت الصحيفة من الاطلاع عليها. وقد وجدت الدراسة أن المستخدمين شعروا بضغوط من أجل تقديم أنفسهم بصورة مثالية على "انستغرام" ما قادهم في مرات كثيرة لمقارنة أنفسهم بشكل سلبي مع الآخرين. وحذّر باحثون في داخل الشركة من أن تصميم "انستغرام" وجّه الشباب نحو محتوى يرجح أن يكون مؤذياً.

محاولة التضليل

خلال جلسة استماع في الكونغرس عقدت في مارس 2021، لم يكن زوكربرغ صريحاً حيال الأدلة المتعلقة بتأثير وسائل التواصل الاجتماعي على الصحة النفسية، وأكد أن التواصل عبر الإنترنت يساعد على التخفيف من الوحدة. ولدى سؤاله ما إذا أجرت "فيسبوك" دراسات داخلية حول تأثير منصاتها على الأطفال، أجاب أنه أمر "يحاولون دراسته"، مضيفاً "أعتقد بأن الإجابة هي نعم".

تتسم البحوث حول وسائل التواصل الاجتماعي والصحة النفسية بنوع من الغموض. إذ تظهر بعض الدراسات وجود علاقة ما بين الاستخدام الكثيف لوسائل التواصل الاجتماعي والاكتئاب لدى الأطفال وتراجع الثقة بالنفس والميول الانتحارية. إلا أن باحثين أكاديميين آخرين يرون أن هذه العلاقة بين وسائل التواصل الاجتماعي وتدهور الصحة النفسية ضعيفة، وربما تلعب عوامل أخرى دوراً في ذلك. إلا أن الباحثين من الجانبين يتفقون أن "فيسبوك" هي الجهة الأفضل لإجراء بحوث ذات جودة عالية في هذا المجال، لأنها تعلم بالضبط ما يقوم به المستخدمون على "إنستغرام"، ولكم من الوقت.

وفي 14 سبتمبر، كتبت رئيسة السياسات العامة في "إنستغرام"، كارينا نيوتن، تدوينة أشارت فيها إلى أن البحوث التي قامت بها الشركة غير حاسمة أيضاً. وقالت إن "وسائل التواصل الاجتماعي ليست جيدة بشكل كلّي، أو سيئة بشكل كلّي. كثيرون يجدونها مفيدة في يوم ما، ثمّ إشكالية في يوم آخر". كما أوضحت أن "إنستغرام" تبحث عن وسائل لإبعاد المستخدمين الأكثر هشاشة عن بعض أنواع المنشورات، ودفعهم نحو محتوى يلهمهم ويرفع معنوياتهم. وقد رفض متحدث باسم "فيسبوك" طلب الإدلاء بتعليق غير ما جاء في التدوينة.

التشكيك في البحوث

اعتمدت شركات التبغ الكبرى طوال عقود، إستراتيجية التشكيك في البحوث في مجال الصحة العامة. فقد حدّد إعلان استحوذ على صفحة كاملة في إحدى الصحف في يناير عام 1954، الإستراتيجية التي اعتمدها قطاع التبغ في تواصله مع الرأي العام طوال السنوات الخمسين التي تلت: التدخين ليس سبباً مثبتاً لسرطان الرئة، ولا بدّ من إجراء المزيد من البحوث حول تأثير السجائر على الصحة.

على الرغم من أن شركات التبغ شككت في البيانات العلمية وشوهتها، إلا أن بحوثها الخاصة كانت مدركة لوجود هذه المخاطر. كما أن هذه الشركات كانت تعلم أيضاً أن النيكوتين يسبب الإدمان، وعلى الرغم من ذلك أصرّت على نفي هذا التأثير من أجل تجنّب القيود الناظمة وتحمّل المسؤولية القانونية أمام المدخنين. وفي النهاية، أسهم كاشف فساد كان يعمل مديراً تنفيذياً لدى شركة "براون وويليامسون للتبغ" (Brown & Williamson Tobacco) في كشف الأسرار الذي يخفيها هذا القطاع.

تستخدم "فيسبوك" ‘ستراتيجية تقوم على جعل منصاتها أكثر تسبباً بالإدمان، تماماً كما فعلت شركات التبغ بالمواد المضافة إلى السجائر، بحسب ما قاله المدير السابق لشؤون تحقيق الدخل في "فيسبوك"، تيم كيندال، في شهادة أمام الكونغرس في العام الماضي. ولا يعتمد موقع "فيسبوك" على الاعجابات والتحديثات فقط من أجل زيادة تعلّق المستخدمين به، بل أيضاً على نشر المعلومات الخاطئة ونظريات المؤامرة، بهدف توليد ردة فعل قوية. وقال كيندال: "هذه الخدمات تثير اشمئزازنا".

محاسبة شركات التبغ

استغرقت الحكومة سنوات قبل أن تتمكن من محاسبة شركات التبغ الكبرى. ففي عام 1998، توصل تحالف من الولايات إلى اتفاق تسوية بقيمة 246 مليار دولار مع قطاع التبغ، ألزم الشركات بتسديد دفعات سنوية للولايات والحدّ من انتشار إعلانات السجائر. وفي العام التالي، رفعت وزارة العدل الأميركية دعوى قضائية ضد شركات التبغ، حيث اتهمتها بالتورط في مؤامرة ابتزازية تهدف إلى خداع العامة. وفي عام 2006، بعد محاكمة استمرت تسعة أشهر، وافق قاض فدرالي في واشنطن على الاتهام، حيث قال إن الشركات "سوقت وباعت منتجها القاتل بحماسة وخداع، مع التركيز فقط على نجاحها المالي، بغض النظر عن المأساة البشرية والتكلفة الاجتماعية الناجمة عن هذا النجاح". وقد سنّت ولايات عديدة قوانين تحظّر التدخين في المطاعم والحانات وأماكن العمل.

كان تقرير صادر عن مركز مكافحة الأمراض والوقاية منها، أظهر أن نسبة الطلاب الثانويين الذين يدخنون كثيراً انخفضت إلى 2.6% في عام 2017، بعد أن كانت قد بلغت 16.7% في عام 1997. مع ذلك، لا تزال الولايات المتحدة تضمّ 34 مليون مدخّن راشد.

الوعي الاجتماعي

رأت آشا رانغابا، أستاذة وسائل التواصل الاجتماعي وحرب المعلومات في معهد جاكسون للشؤون العامة في جامعة "ييل"، أن إصلاح وسائل التواصل الاجتماعي يتطلب تحولاً في الوعي الاجتماعي. وقالت رانغابا: "فكرة أن المعلومات يمكن أن تسبب الأذى، ليست أمراً يمكن أن نستوعبه نحن الأمريكيون".

في الكابيتول هيل، يعمل النائب جونسون على مشروع قانون يكلّف معاهد الصحة الوطنية بدراسة مخاطر الصحة النفسية الناجمة عن وسائل التواصل الاجتماعي، وما إذ كان يتوجّب وضع ملصق تحذيري على المنصات التكنولوجية. وقد كشف عضوا مجلس الشيوخ، ريتشارد بلومينثال الديمقراطي عن كونيتيكت، ومارشا بلاكبرو الجمهورية عن عن تنيسي، أنهما على اتصال مع كاشف فساد يعمل في "فيسبوك". وقالا: "سوف نستخدم كل الموارد المتاحة لدينا من أجل التحقيق في ما كان يعرفه (فيسبوك)، والتاريخ الذي كان يعرفه فيه".

وكان المسؤولون التنفيذيون في "فيسبوك" قد دافعوا مؤخراً عن الإجراءات التي يتخذونها، إلا أنهم لم يكشفوا بعد عن المزيد من الدراسات الداخلية. وكان نيك كليغ، نائب رئيس "فيسبوك" للشؤون الدولية والتواصل، قد تعهّد بأن تستمر الشركة في الاستثمار في البحوث حول الشؤون المعقدة، و"تحسين منتجاتنا وخدماتنا نتيجة لذلك".

من جهته، يعتزم بلومينثال، رئيس اللجنة الفرعية في مجلس الشيوخ لشؤون حماية المستهلك وسلامة المنتجات وأمن البيانات، عقد جلسات استماع حول معرفة "فيسبوك" بالتأثيرات الجانبية المؤذية لمنصاتها. وقال: "نحن عند نقطة تحوّل، لأن التشبيه بما فعلته شركات التبغ الكبرى مناسب جداً". وقال: "هم لم يسبّبوا الأذى فحسب، بل كانوا يدركون ذلك وأخفوه، وهذا ما يجعل الأمر مريعاً أكثر، لأن الناس باتوا مدمنين، والأذى بات مضاعفاً".