قطعة بلاستيكية صغيرة تساعد على ترشيد استخدام مياه الري

المصدر: بلومبرغ
المصدر: بلومبرغ
تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

على الجانب الغربي الجاف من ولاية أريزونا، حيث يلتقي حوض نهر كولورادو بصحراء موهافي، هناك 11 ألف فدان من البرسيم، والذرة البيضاء، والقمح، وعشب السودان، تتبع قبائل نهر كولورادو الهندية، من المقرر حصادها كلها وبيعها من أجل علف الحيوانات.

من المؤكد أن عملية الري، أمر لا بد منه حتى تنمو المحاصيل في هذه المنطقة. لكن لم يسقط سوى أقل من ربع بوصة من الأمطار حتى الآن هذا العام، بحسب جوش مور، الذي يدير المزرعة نيابة عن قبيلته.

يقول مور إن "المحمية مشيدة بشكل يجعلها تتبنى نظام الري بالغمر العتيق"، حيث تعمل شبكة قنوات تم إنشاؤها في القرن التاسع عشر بتوصيل المياه من نهر كولورادو، وهو نظام بدا وكأنه أفضل قبل دخول مستجمعات المياه في حالة جفاف مزمنة ومتفاقمة بشكل متزايد. ورغم أن القنوات توفر ما يكفي من المياه لتلبية الاحتياجات الزراعية الحالية لقبائل نهر كولورادو الهندية، فإن القبائل تخطط للقادم عند مواجهة مستقبل أكثر حراً وجفافاً.

في هذا الموسم، يمكن رؤية أنابيب بلاستيكية سوداء تتسلل أسفل مئات الصفوف من الذرة البيضاء، وهو ما يُعرف بتجربة الري بالتنقيط التي قد تحدّ جذرياً من انسحاب المزرعة من مستجمعات المياه المُنهكة.

اقرأ أيضاً:

تكاليف الأسمدة المتزايدة عالمياً تهدد بارتفاع أكبر في أسعار الغذاء

سعر القطن يرتفع لأعلى مستوى في عقد وقد يجعل الجينز أغلى

طرق قديمة

عادةً ما تعتمد معظم المحاصيل حول العالم على الأمطار وحدها في الحصول على المياه، لكن لا بد أيضاً من اللجوء إلى الري في الأماكن التي لا يكون فيها هطول الأمطار كافياً. ورغم كل الابتكارات التي شقت طريقها في عالم الزراعة في الأعوام الأخيرة، بداية من الجرارات العاملة بنظام تحديد المواقع العالمي، إلى الشتول المعدلة وراثياً، لا تزال 85% من كافة عمليات الري تعتمد على إطلاق كميات هائلة من المياه عبر سطح الحقل، وهي الطريقة ذاتها تقريباً التي تم اتباعها قبل 4000 عام في بلاد الرافدين.

تم إيقاف الري بالغمر الذي يتسم بكونه رخيصاً من حيث التكلفة، لكن من منظور الموارد الطبيعية فهو مكلف للغاية. فخلال هذا النوع من الري يتم إهدار ما يصل إلى 70% من المياه، وقد يتعذر على المحاصيل المغمورة بالمياه بلوغ كامل إمكاناتها. كما تذهب الأسمدة الزائدة بعيداً عن طريق الجريان السطحي للمياه والجداول الملوثة والمناطق الرطبة والبحيرات.

كان من المفترض أن يحل الري بالتنقيط كل هذه المشكلات. ففي فترة الثلاثينيات، لاحظ مهندس شاب يُدعى سيمشا بلاس شجرة نمت بشكل أطول بكثير من نظيراتها في الصف ذاته، وعندما نظر بتمعن في الأمر، وجد أن جذور هذه الشجرة تتغذى على تسرب ضئيل من أنبوب ري قريب. وبعد أعوام، استخدم المهندس الإسرائيلي هذا المفهوم لإنشاء نظام الري بالتنقيط البلاستيكي الذي تم بيعه تحت اسم العلامة التجارية "نتافيم" (Netafim)، وهي شركة لا تزال رائدة عالمياً في قطاعها.

والآن، أصبح هناك المئات من شركات الري بالتنقيط، لكن هذه التقنية لا تطبق سوى على أقل من 5% من الأفدنة حول العالم، وعادةً ما يكون هذا مع المحاصيل باهظة التكلفة، مثل اللوز وعنب النبيذ والطماطم، وبالتالي فإن التكلفة هي العامل المحدد في هذه العملية.

وبما أن الأنظمة مصممة حالياً، فإن دفع المياه عبر مئات الأقدام من الأنابيب يتطلب قدراً كبيراً من القوة، والتي يوفرها المزارعون من خلال المضخات، سواء الكهربائية إذا كانت لديهم طاقة كهربائية في حقولهم، أو العاملة بالديزل التي تصدر الكربون إن لم تكن لديهم طاقة كهربائية. كما إن خطوط التنقيط معرضة أيضاً للانسداد بسبب جزيئات الطمي أو الطحالب الموجودة في الماء الطبيعي، لذلك لا بد من ترشيحها، ما يزيد النفقات. وينبغي العلم أن تكلفة النظام بالكامل تبلغ 2000 دولار للفدان على الأقل، بالإضافة إلى فواتير الطاقة الكهربائية.

تقنيات بلا جدوى

أما بالنسبة إلى المحاصيل منخفضة القيمة مثل القطن أو البرسيم، فإن الري بالتنقيط لا يجدي نفعاً.

مع ذلك، فإن نظام الري بالتنقيط الذي تستخدمه "مزارع كريت" (CRIT Farms) يكلف أقل من 400 دولار من أجل تركيبه للفدان الواحد، ويتوفر الضغط المطلوب بالكامل عن طريق الجاذبية، التي تتميز بكونها مجانية ومحايدة للكربون. وبالنسبة إلى المراقبين العاديين، فإن النظام لا يبدو جيداً للغاية، لكن بالنسبة إلى مور، فإن فكرة ري المحاصيل بالتنقيط من أجل علف الحيوانات، لا تقل عن كونها فكرة ثورية، وذلك إذا افترضنا أن الأمر يجدي نفعاً بالفعل.

اقرأ المزيد: تغير المناخ يهدد نصف إنتاج السكر والقهوة بنهاية القرن

كتب بنجامين فرانكلين في إصدار 1746 من كتابه "بور ريتشاردز ألماناك" (Poor Richard’s Almanack): "عندما تجف البئر، نعرف قيمة الماء". لم يكن فرانكلين يدرك أن الوضع قد يكون أسوأ مما كان يتخيل، فالكثافة السكانية اليوم تعادل 10 أضعاف ما كانت عليه آنذاك، ومصادر المياه العذبة في انخفاض، فضلاً عن أن الزراعة أكبر مُستهلك مائي حتى الآن، إذ أنها تمثل نحو ثلاثة أرباع الاستخدام العالمي.

في الوقت ذاته، أصبحت علامات ندرة المياه تحيط بنا في كل مكان، فضلاً عن أنها تزداد خطورة بمرور الأعوام. ففي أغسطس، أعلنت الحكومة الأمريكية عن حدوث انخفاض في مياه نهر كولورادو للمرة الأولى في التاريخ، ما أدى إلى انقطاع المياه عن 40 مليون شخص يعتمدون على النهر. مع العلم أن خمسة ملايين شخص من المتضررين يحصلون على المياه من باب المجاملة من "مشروع سنترال أريزونا" (Central Arizona Project)، وهو مرفق عام يوفر مياه النهر عبر القناة من الحافة الغربية لولاية أريزونا إلى 80% من سكان الولاية.

قضى تشاك كولوم، مدير برامج نهر كولورادو في "مشروع سنترال أريزونا"، العقد الماضي في استكشاف الخيارات المتاحة لزيادة إمدادات المياه في أريزونا، مثل تقنيات معالجة مياه الصرف الصحي والأدوات التي تساعد العملاء الحضريين على كبح استخدامها.

تقنية "إن-دريب"

في مؤتمر عُقد في تل أبيب عام 2019، التقى كولوم بمسؤول تنفيذي من شركة ري ناشئة إسرائيلية تُدعى "إن-دريب" (N-Drip)، التي كانت تعمل على تطوير نظام وعد بتوفير كميات كبيرة من المياه دون تكاليف باهظة. عن ذلك، يقول كولوم: "كنت متشككاً للغاية. لقد بدا الأمر وكأنه حل يونيكورن".

لكن الزراعة تستحوذ على الغالبية العظمى من استخدام المياه العذبة في أريزونا، لذلك كان كولوم على استعداد لتجربة نظام "إن-دريب". ففي عام 2020، وفر "مشروع سنترال أريزونا" النظام إلى "مزارع كريت" من أجل استخدامه على مساحة 40 فداناً من الذرة البيضاء، ليجدوا أنه ساهم في الحد من استخدام المياه إلى النصف، فضلاً عن تحسين جودة المحاصيل نوعاً ما، وهي نتيجة مذهلة حتى وإن كانت على نطاق ضيق للغاية.

أما في عام 2021، فقد وسّع "مشروع سنترال أريزونا" نطاق البرنامج التجريبي إلى حوالي 200 فدان من الذرة البيضاء والقطن في أريزونا، وإذا سارت الأمور على ما يرام، فإنه يأمل في نشر النظام على المستوى الإقليمي بحلول عام 2023 مع الاستمرار في تغطية تكاليف المعدات للمزارعين الذين يركبونه.

شركة "إن-دريب" فكرة ابتكرها أوري شاني، وهو أستاذ فيزياء التربة في الجامعة العبرية بالقدس، والرئيس السابق لسلطة المياه في إسرائيل. فقبل سبعة أعوام، شرع شاني في ابتكار نظام ري بالتنقيط زهيد التكلفة بما يكفي ليجدي نفعاً، ليس فقط للخس والتوت، بل أيضاً لمحاصيل السلع مثل فول الصويا والذرة، التي تشكل الجزء الأكبر من الإنتاج الزراعي العالمي.

كان رد فعلي الأول، بالطبع هذه الفكرة من شأنها تغيير العالم، لكنها لن تنجح أبداً

يبلغ شاني من العمر 72 عاماً، شعره رمادي قصير، مع نظارات بإطار سلكي، ويتسم بكونه شخصاً لطيفاً. ولد في عام 1950 في كيبوتس، ويغمره القلق بشأن الحياة في بلد قاحل ملتزم بالاكتفاء الذاتي الزراعي. تحدث شاني عبر برنامج الاجتماعات الافتراضية "زووم" من مكتب "إن-دريب" في تل أبيب، قائلاً: "كان والدي مهندساً يعمل بشكل أساسي في مجال المياه. لقد نشأت وأنا أفكر في المياه والحلول الخاصة بها طوال حياتي".

بعد إنهاء خدمته العسكرية مع وحدة الكوماندوز، التحق شاني بالجامعة العبرية، وهي المؤسسة البحثية البارزة في إسرائيل، وحصل على درجة الماجستير في فيزياء التربة. وحتى يتمكن من الحصول على درجة الدكتوراه، انتقل إلى كيبوتس يوتفاتا في الصحراء الواقعة في أقصى جنوب إسرائيل، حيث تحصل المنطقة على أقل من بوصة واحدة من الأمطار سنوياً، ولا يوجد فيها سوى مياه جوفية مالحة لأغراض الري، وهي الحدود الخارجية للزراعة. بدأ عمله هناك كطالب دراسات عليا، وانتهى به الأمر بإدارة الكيبوتس.

ثم أصبح شاني في وقت لاحق بروفيسورا، وفي عام 2006 تم اختياره ليصبح أول رئيس لسلطة المياه الإسرائيلية المنشأة حديثاً. كان هذا الدور معقداً، فهو يغطي مجالات الهندسة والإدارة والسياسة والاقتصاد، فضلاً عن أنه تولى المهمة في بلد يعاني أسوأ جفاف على الإطلاق. كما إنه استثمر في إعادة تدوير المياه وتحليتها، وحتى يستطيع دفع ثمنها، رفع سعر المياه بشكل كبير ومثير للجدل.

السعر الحقيقي للمياه

يقول سيث سيغل، كبير مسؤولي الاستدامة في "إن-دريب"، إن "السبب في وجود الكثير من مشكلات المياه حول العالم هو أن قلة قليلة من الدول مستعدة لتقاضي السعر الحقيقي للمياه من المستهلكين". سيغل أيضاً مؤلف كتاب "ليكن هناك ماء"، المُصنف ضمن قائمة "نيويورك تايمز" لأكثر الكتب مبيعاً في عام 2015، والذي يسرد قصة صعود إسرائيل كدولة رائدة في المحافظة على المياه والتكنولوجيا.

في عام 2012، ترك شاني منصبه في إسرائيل بسبب فائض المياه العذبة، قائلاً إن "ما أنجزه كان استثنائياً".

باعتباره مواطناً عادياً، بدأ شاني التفكير مرة أخرى في المخاطر المتزايدة لنقص المياه حول العالم، حيث يعيش أكثر من ربع سكان العالم في دول تعاني من الشح المائي، وتقدر الأمم المتحدة أن ندرة المياه قد تؤدي إلى نزوح 700 مليون شخص بحلول نهاية العقد. ومن هذا المنطلق، قرر شاني أن أهم إسهام يمكنه تقديمه هو المساعدة في تحويل الري بالتنقيط ليصبح اتجاهاً سائداً، وهذا يعني اختراع نظام يعمل من دون مرشحات ومضخات.

لفهم التحدي الذي يواجهه شاني، لا بد أولاً من فهم ما يحدث داخل خطوط التنقيط البلاستيكية السوداء. فعلى امتداد كل خط، هناك سلسلة من الثقوب، وكل ثقب مثبت بداخله قطعة بلاستيكية بحجم علبة حلوى "تيك تاك"، وهذه القطعة تسمى الباعث. هذه التقنية تعمل من خلال تحرك الماء عبر قناة ضيقة للغاية تشبه المتاهة داخل الباعث، ويتم ضبطها بحيث تخرج في شكل قطرات إيقاعها منتظم وبطيء، فالمقاومة التي تنتجها هذه البواعث تُعد السبب وراء الحاجة إلى الكثير من الضغط لنقل الماء من أحد طرفي الحقل إلى الطرف الآخر، ضمن نظام تقليدي.

ابتكر شاني نوعاً جديداً من بواعث التنقيط، وهو نوع يقدم قدراً ضئيلاً من المقاومة، إلى حد يجعل ضغط الماء الذي توفره الجاذبية وحدها -يزداد الضغط خلال نزول الماء بمقدار يتراوح بين قدم إلى قدمين من قناة الري إلى أسفل الحقل- كافياً لدفع الماء طوال مئات الأقدام من الأنابيب والخروج إلى الأرض. في المقام الأول، جرب نسج الألياف البلاستيكية والمعدنية في مختلف الهياكل الشبكية ثلاثية الأبعاد، لكنه يقول إنه كان في نزهة ذات يوم عندما خطرت له فكرة. فبدلاً من قناة متعرجة، كان الباعث يتكون من قضيب معلق داخل أسطوانة، مع تدفق الماء من خلال الأنبوب الذي يتشكل بينهما. وعلى عكس الباعث التقليدي، لا يمكن لجسيم واحد من الحطام إعاقة تدفق الماء، فهذا من شأنه التسبب في انفجار، على حد قول شاني. وأفاد: "كنت مقتنعاً تماماً بأن الأمر سينجح. ثم طورنا كل المعادلات الرياضية".

البحث عن طرق تسويق

بمجرد تحديد المفهوم، كان شاني بحاجة إلى تسويقه، فقد تواصل مع إيران بولاك، المسؤول السابق في وزارة المالية، والذي عمل معه عن كثب كرئيس لسلطة المياه، وأخبره أنه اخترع الري بالتنقيط الذي يستند إلى الجاذبية فقط. كان بولاك متشككاً في الأمر في البداية، فقد نشأ في كيبوتس أيضاً وكان على دراية بنظام الري، فلم يكن هناك شيء يُعرف بالتنقيط لكن من دون ضغط.

يروي بولاك: "كان رد فعلي الأول، بالطبع هذه الفكرة من شأنها تغيير العالم، لكنها لن تنجح أبداً". لقد التقى بشاني في مقر "إن-دريب"، الذي كان في ذلك الوقت مجرد مكتب صغير في مركز تجاري في إحدى ضواحي تل أبيب، واصطحبه شاني لرؤية المشروع.

يقول بولاك: "كان هناك 20 متراً من الأنابيب، الموضوعة بجانب بعضها البعض بشكل يدوي، والتي تعمل على تقطير المياه على الأرض من سلة قمامة بلاستيكية صغيرة. كان المشروع في أول مرحلة يمكن تخيلها، لكن في هذه اللحظة أدركت أن الأمر قد ينجح". ومن هنا، وقع بولاك عقداً ليصبح الرئيس التنفيذي للمشروع.

في نهاية عام 2017، نصبت شركة "إن-دريب" أول تجربة ميدانية رسمية لها على خمسة أفدنة من قصب السكر في إسواتيني (سوازيلاند سابقاً)، لسحب المياه مباشرة من أحد الأنهار، ووجدوا أن النظام لا يعمل ويستخدم كميات أقل من المياه فحسب، بل إنه يعزز المحاصيل أيضاً بنسبة 30%.

ومع ظهور نتائج مشجعة، انتقلت "إن-دريب" إلى تجارب أكبر في أستراليا والولايات المتحدة، وتوسعت منذ ذلك الحين في 17 دولة، بداية من فيتنام إلى نيجيريا. إذا ثبتت رؤية شاني مصداقيتها، فإن "إن-دريب" ستكون لديها فرصة لتحديث ملايين المزارع الأخرى وتحويل استهلاك المياه العذبة عالمياً.

تمويل بـ25 مليون دولار

حتى الآن، جمعت "إن-دريب" تمويلاً بقيمة 25 مليون دولار، ونظامها يُستخدم من قبل مئات المزارعين العاملين على أرض مساحتها 4000 فدان، وفيها محاصيل تتراوح بين القطن والبطاطس وفول الصويا. لكن شاني لا يزال أمامه شوط طويل ليقطعه إذا كان ينوي تحويل 600 مليون فدان مروية بنظام الغمر إلى نظام التنقيط، كما إن الطريق من سقيفة الحدائق إلى حلول الري العالمية سيواجه عقبات كثيرة.

نظرًا لأن "إن-دريب" لا يستخدم نظام الترشيح، فإن معظم العثرات كانت لها علاقة حتى الآن بكل الأشياء غير المتوقعة التي قد يجدها المرء في المياه الموجهة إلى المزارع. ففي بداية إحدى التجارب، تواصل مزارع من كاليفورنيا مع "إن-دريب" وهو في حالة ذعر ليقول إن نظامه توقف عن العمل، وعندما وصل شاني وجد أن سمكة بحجم إصبع السبابة تسببت في انسداد أحد الأنابيب. كذلك، تسببت مجموعة من الطحالب الخضراء في أمراً مماثلاً في مزرعة في كازاخستان.

والآن، خزانات المياه التابعة لشركة "إن-دريب" أصبحت مزودة بشبكة لالتقاط كافة أنواع النباتيات والحيوانات التي تتسلل إلى النظام.

في الشمس الحارقة لولاية أريزونا، في منطقة تتمتع بمياه غنية بالمعادن بشكل خاص، أصبحت خطوط التنقيط شديدة السخونة لدرجة أن كربونات الكالسيوم تترسب في الخارج، مما تسبب في انغماس البواعث في الترسبات الكلسية وكأنها داخل غلاية شاي بريطانية. هذا الأمر أدى إلى تطوير "إن-دريب" لبروتوكولات لازمة لدفن خطوطها داخل طبقة رقيقة من التربة لإبقائها باردة ولاستخدام أجهزة تنقية الماء العسر.

إذا كانت شركة "إن-دريب" تخطط حقاً للوصول إلى 500 مليون مزارع من صغار المزارعين في العالم، وليس فقط المزارعين الكبار والمتطورين، فإن النجاح لن يعتمد على تصميم التكنولوجيا المناسبة فحسب، بل أيضاً على الاستثمار بشكل كبير في التعليم والدعم، حسبما قال ديفيد ميدمور، الأستاذ الفخري في علوم النبات بجامعة سنترال كوينزلاند الأسترالية، وخبير الري بالتنقيط.

وأضاف ميدمور: "من المهم جداً تعليم المزارعين الطرق الصحيحة للري بالتنقيط، واستخدام مقاييس بسيطة لاستخدام المياه في التربة، وكيفية عدم الإفراط في الري أو نقصانه. إنه ليس تدريباً فحسب، بل متابعة أيضاً".

الاهتمام بالمزارعين الصغار

تصر "إن-دريب" على أن المزارع الصغيرة جزء أساسي من مهمتها، حيث يقول سيغل، كبير مسؤولي الاستدامة في الشركة: "إذا استطاع مزارع غني في أستراليا زيادة الغلة بنسبة 47%، فسيكون هذا عظيماً، وسيحتفل بفتح زجاجة شمبانيا وأخذ إجازة فخمة في ذلك العام. لكن إذا زاد مزارع الكفاف الغلة، وكان لديه طعام أكثر ليتناوله وآخر لبيعه، فإن ذلك يعدل حال هذه الأسرة وهذا المجتمع".

تحقيقاً لهذه الغاية، مع تفشي وباء كوفيد-19 العام الماضي الذي أدى لتعليق المشروعات المربحة في الولايات المتحدة وأستراليا، ركزت "إن-دريب" على تصنيع معدات تشغل مساحة فدان واحد مصممة لهؤلاء المستخدمين. يصل نظام الرأي هذا مع رابط يقود إلى مقطع فيديو على موقع اليوتيوب ورسومات تخطيطية بسيطة من شأنها مساعدة المزارع خلال عملية تركيب النظام.

في الوقت ذاته، طورت الشركة جهاز استشعار خاصاً للتربة، يسمى "إن-دريب كونكت" (N-Drip Connect)، وهو يعمل على مراقبة ظروف النباتات والتربة ويرسل تنبيهات في الوقت الفعلي إلى المزارعين عبر تطبيق للهواتف الذكية بشأن وقت الري وعملية التسميد. ثم يبعث جهاز الاستشعار المعلومات إلى الفريق الزراعي للشركة أيضاً حتى يتمكن من متابعة الأوضاع الميدانية.

كذلك، تواجه "إن-دريب" تحدياً آخر على المستوى الاقتصادي، حيث يمكن تركيب النظام بجزء بسيط من تكلفة نظام التنقيط المضغوط التقليدي دون أي تكاليف للطاقة الجارية، لكن الماء مجاني أو مدعوم بشكل كبير بالنسبة إلى معظم المزارعين حول العالم. ورغم أن البعض، مثل مزارعي القطن الأستراليين، ربما يرغبون في الاستثمار لتوفير حماية عاجلة لمورد سريع التضاؤل، فإن العديد من صغار المزارعين في العالم لن يتمكنوا من تغطية أي نفقات إضافية حتى لو كانت بسيطة.

يعترف بولاك: "سوق صغار المستثمرين سوق ضخم، وبإمكانه الاستفادة أكثر من نظامنا، لكن يصعب بشدة التعامل معه إذا لم يكن لديك شريك كبير وذو وضع جيد". وتسعى "إن-دريب" إلى توفير نظامها لهؤلاء المزارعين بشكل أساسي من خلال المنظمات غير الربحية والوكالات الحكومية والشركات الكبيرة التي تلتزم بتعهدات الاستدامة. ويقول المديرون التنفيذيون للشركة، إن الفرصة يمكن قياسها على المدى القريب بمئات الآلاف من الأفدنة من الأراضي الزراعية.

تعتبر شركة "بيبسيكو" (PepsiCo)، أحد الأمثلة المبكرة على هذا النوع من الشراكة. فهي تتعاقد مباشرة مع 40 ألف مزارع للحصول على مكونات مثل الذرة والشوفان والبطاطس، وقد حددت هدفاً لتحسين كفاءة استخدام المياه في الزراعة بنسبة 15% بحلول عام 2025. كذلك، جربت "بيبسيكو" التقنية الخاصة بشركة "إن-دريب" مع مجموعة مزارعين في الهند وفيتنام والولايات المتحدة، وشهدت تحسن المحاصيل في ظل انخفاض مدخلات الأسمدة وانخفاض استهلاك المياه بنسبة 50% في مواجهة الري بالغمر.

الصورة الكبيرة

يؤكد بيتر غليك، الرئيس الفخري والمؤسس المشارك لمعهد المحيط الهادئ، وهو مؤسسة بحثية غير ربحية تركز على قضايا المياه العذبة، أنه عندما يتعلق الأمر بمستقبل الري، فمن المهم ألا نُهمل الصورة الكبيرة.

مما لا شك فيه أن تحويل حقول القطن أو البرسيم إلى الري بالتنقيط، يعتبر خطوة في الاتجاه الصحيح، لكن السؤال الأكبر الذي يلوح في الأفق، هو: هل ينبغي لنا حقاً زراعة هذه المحاصيل في المناخات القاحلة؟

عن ذلك، يقول غليك: "نحن بحاجة إلى إجراء محادثة حقيقية حول ما يبدو منطقياً للنمو في الغرب الذي يعاني من الشح المائي، فضلاً عن محادثة أخرى بشأن تنمية المحاصيل التي نختارها بشكل أكثر كفاءة ودقة. ربما تساعد هذه التكنولوجيا في الإجابة عن السؤال الثاني، لكنها لن تساعد في التوصل إلى إجابة السؤال الأول الذي يعتبر سياسياً بشكل أكثر".

يلاحظ غليك أن أحد أوجه الاعتراض يأتي من حيث المبدأ على استخدام مياه الشرب الثمينة لزراعة محاصيل لعلف الحيوانات، ووجه الاعتراض الآخر هو إخبار المزارعين بضرورة التوقف عن الزراعة.

بالعودة إلى "مزارع كريب"، أعرب مور عن سعادته بالمساهمة في الأبحاث التي يراها حيوية بالنسبة لمستقبل الزراعة في المنطقة، فضلاً عن أنه يخطط لاستخدام نظام الري الخاص بـ"إن-دريب" على المزيد من الأراضي خلال العام المقبل. ورغم أن محميات القبائل لم يتم تخفيض حصتها من المياه، إلا أن مور يدرك أن الجميع سيواجه هذا الخفض يوماً ما.

يقول مور: "نحن بحاجة إلى أن نبدأ بالعيش كما لو أننا تأثرنا بهذه الانقطاعات لكسب بعض الوقت. وحتى نتمكن من النجاة كشعب، وكعمل تجاري، نحتاج إلى النظر في تكنولوجيات مثل هذه".