النيران تلتهم مزرعة قرب محمية بيئية في ولاية ساو باولو، البرازيل، يوم 24 أغسطس المصدر: بلومبرغ

البلد الذي ينتج فطور العالم يقف عاجزاً أمام الحرائق والجفاف والصقيع

المصدر: بلومبرغ
تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

لا توجد دولة على وجه الأرض تسهم في وضع وجبات الإفطار على طاولات المطابخ أكثر من البرازيل، إذ تنتج المزارع التي تنتشر في السهول الشاسعة والهضاب المرتفعة فوق ساحل المحيط الأطلسي أربعة أخماس صادرات العالم من عصير البرتقال، ونصف صادراته من السكّر، وثلث صادرات البن، وثلث فول الصويا وحبوب الذرة المستخدمة لتغذية الدواجن البياضة والماشية الأخرى.

انقر هنا للاطلاع على أسعار السلع الزراعية العالمية

لذلك، اهتزت الأسواق العالمية إثر تلقي المنطقة ضربتين متتاليتين، عززهما تغيّر المناخ، عندما تعرّضت المحاصيل للاحتراق والتجمد خلال العام الجاري. تُعَدّ تلك أسوأ موجة جفاف تشهدها المنطقة خلال قرن من الزمن. وينسحب الأمر ذاته على ما تبعها من موجة صقيع غير مسبوقة قادمة من القارة القطبية الجنوبية، التي كست الأرض بثوب ناصع من الجليد الكثيف مراراً وتكراراً.

اقرأ أيضاً: تسارع وتيرة شراء الصين للحبوب من أكبر الدول المنتجة

أدى ذلك إلى ارتفاع سعر قهوة "أرابيكا" (Arabica) بنسبة 30% على مدى ستة أيام في أواخر شهر يوليو، كما قفز عصير البرتقال بنسبة 20% في ثلاثة أسابيع، فيما سجّل السكّر أعلى مستوى له خلال أربع سنوات في أغسطس.

تسهم ارتفاعات الأسعار في زيادة معدلات التضخم العالمية لأسعار الغذاء بشكل مفاجئ. فقد قفز مؤشر للأمم المتحدة بنسبة 33% خلال الأشهر الاثني عشر الماضية، الأمر الذي يعمّق الأزمات المالية تحت وطأة الوباء، ويجبر الملايين من الأسر ذات الدخل المنخفض على تقليص مشتريات البقالة في جميع أنحاء العالم، بل أكثر من ذلك أن الأحداث المناخية الأخيرة تعدّ بمثابة تحذير ينذر بخطورة ما سيحدث في المستقبل، إذ يتوقع العلماء أن يؤدي ارتفاع درجات الحرارة العالمية وانخفاض رطوبة التربة بشكل متزايد إلى إلحاق الدمار بالأراضي الزراعية في البرازيل، وفي كثير من أنحاء العالم.

اقرأ أيضاً: الشرق الأوسط أقل مناطق العالم المعرضة لجفاف أراضيها الزراعية

ارتفاع أسعار الغذاء لأعلى مستوى منذ 60 عاماً يؤرق حكومات العالم

يقول مارسيلو سيلوتشي، عالم الأرصاد الجوية في مركز مراقبة الكوارث الطبيعية والإنذار المبكر بالبرازيل: "يعدّ الأمر بمثابة حلقة مفرغة. لا توجد أمطار لأنه لا توجد رطوبة، ولا توجد رطوبة بسبب عدم وجود أمطار". ويضيف أن إزالة غابات الأمازون، التي قطعها أصحاب المزارع لتربية الماشية وزراعة المحاصيل، تلعب دوراً كبيراً في التغيرات المناخية. ووفقاً لحسابات سيلوتشي، لم تشهد البرازيل موسماً طبيعياً للأمطار منذ عام 2010.

قال عالم الأرصاد الجوية: "لقد كان عاماً غريباً للغاية. فيضانات في ألمانيا والصين، وهناك مشكلة جفاف خطيرة للغاية في البرازيل".

على الصعيد الدولي، تعاني دول أخرى مثل الأرجنتين وتشيلي وكندا ومدغشقر والمكسيك وروسيا من الجفاف أيضاً. كما انقسمت الولايات المتحدة إلى نصفين هذا الصيف، إذ دمّرت موجات الحرارة القياسية وحرائق الغابات والجفاف الشديد غربها، لدرجة أن مياه البحيرات والأنهار الكبرى بدأت تجف، ما يشكل ضغطاً على شبكات الطاقة الكهرومائية، تماماً كما هي الحال في البرازيل، فيما غرق شرق الولايات المتحدة في العواصف الاستوائية والفيضانات القاتلة التي سجّلت مستويات قياسية.

يقول سيلوتشي: "إن العالم يتجه نحو مسار خطير للغاية".

اقرأ أيضاً: مستثمرون بقوة 29 تريليون دولار يطالبون بأهداف مناخية تستند إلى العلم

وفقاً لدراسة حديثة نُشرت في مجلة الاقتصاد البيئي والإدارة، ستؤدي كل هذه الأمور إلى انخفاض المحاصيل بنسبة 10% على مدى العقود الثلاثة المقبلة، وهي فترة من المتوقع نمو الكثافة السكانية العالمية خلالها بمعدل يزيد على الخُمس.

في هذا الإطار، يعطي الدمار الذي لحق بالبرازيل لمحة عن ذلك المستقبل. وبين الجفاف والصقيع تضررت المحاصيل على رقعة زراعية تبلغ مساحتها نحو 1.5 مليون كيلومتر مربع من الأراضي، بما يعادل حجم بيرو. لكن خسائر القهوة كانت الأكثر إثارة للذهول، إذ دُمّر ما يقدر بنحو 1.3 مليار رطل من الحبوب، وهو ما يكفي لإعداد كل فنجان قهوة يشربه الأمريكيون على مدار أربعة أشهر.

أدى ذلك إلى انطلاق سباق محموم بين أكبر بائعي القهوة بالتجزئة في العالم، مثل "ستاربكس" و"نستله"، لتأمين الإمدادات.

يقول جاك سكوفيل، إخصائي التداول في "برايس فيوتشرز غروب" (Price Futures Group) لخدمات سمسرة السلع في شيكاغو: "إن تلك الشركات تتدافع بشدة". وتعليقاً على ذلك قالت "ستاربكس" في بيان لها إنها تشتري إمدادتها دائماً قبل أشهر مقدماً. وأخبر مارك شنايدر، الرئيس التنفيذي لشركة "نستله"، المستثمرين خلال مؤتمر عبر الهاتف عُقد في يوليو، أن الشركة حَمَتْ مواردها المالية من خلال شراء عقود التحوط التي تمتد حتى أوائل العام المقبل.

مع ذلك، حذّر سكوفيل من أن الإبقاء على استقرار الأسعار بنجاح لا يعني الحصول على ما يكفي من القهوة على المدى الطويل. وتوقع أن يؤثر حصاد البرازيل الهزيل في السوق لسنوات، كما أنه يلاحظ توجه المشترين، الذين عادة ما يحصلون على كل حبوبهم من القهوة من البرازيل وفيتنام، فجأة إلى مكان آخر في محاولة لتعويض النقص.

هذا هو الوضع الذي وجد بدر عُلبي، صاحب محمصة للبن في إسطنبول، نفسه فيه بالضبط. إنه يبحث عن موردين جدد في كولومبيا والهند وأفريقيا للاستبدال بالحاويات المئة من حبوب القهوة التي يحصل عليها من البرازيل كل عام. هو يعلم أنه لن يكون من السهل إقناع العملاء بأن هذه القهوة جيدة، ففي تركيا، وفقاً لعُلبي، "القهوة البرازيلية هي الأفضل".

في أوستن، تكساس، تخطط شركة "غريتر غودز كوفي" (Greater Goods Coffee)، وهي محمصة متخصصة، لرفع الأسعار قريباً لتعويض التكلفة المرتفعة التي كان عليها أن تدفعها مقابل حبوب القهوة، ما وصفته سارة جيبسون، كبيرة متخصصي التحميص، بأنه بمثابة تحذير للعملاء. وقالت إنه سيتعين عليهم قبول ارتفاع التكاليف للمساعدة في جعل الزراعة أكثر استدامة في عصر تغير المناخ، بحيث يشكل ذلك غاية ينبغي الاستماتة في الدفاع عنها.

حالياً، تتوقع البرازيل تقلّص محصولها من البن بأكثر من 25% هذا العام. لقد كانت بداية هذا الدمار الشامل في قرية كاكوندي، وهي قرية صغيرة اقتطعت من غابات الأخشاب الصلبة المورقة في شمال غرب ولاية ساو باولو.

تشكل القهوة 80% من إجمالى الاقتصاد في كاكوندي. قف على قمة أعلى المرتفعات وستجد مزارع البن ممتدة على مرمى البصر. إحداها عبارة عن قطعة أرض صغيرة مرتبة مملوكة لمصرفيّ سابق يبلغ من العمر 70 عاماً، ويُدعى أنطونيو ريبيرو غولارت.

لقد خسر غولارت كل شيء عندما ضرب الصقيع القرية الصغيرة. تحوّلت أوراق كل شجرة في مزرعته -أي ما مجموعه نحو 11 ألف شجرة- من اللون الأخضر النابض بالحياة إلى البني الباهت في غضون 24 ساعة. بعد شهر، بدا أن الرجل السبعيني لا يزال في حالة صدمة، إذ ظل يحرّك يديه ببطء عبر الأغصان الميتة وهو يتحدث. كانت الأوراق تتشقق ثم تنهار إلى قطع صغيرة، فيما يقول في هدوء: "لقد كانت مذهلة للغاية قبل الصقيع".

كانت عائلة غولارت قد حازت هذه الأرض منذ أكثر من قرن، ثم ورثها هو عن والده واستقر فيها بعد أن أمضى نحو ثلاثة عقود في مصرف "بانكو براديسكو" (Banco Bradesco). وكان غولارت أحد موظفي الإدارة المتوسطة في البنك البرازيلي، إذ كُلف إدارة فرع في وسط مدينة ساو باولو عندما تقاعد قبل عشر سنوات.

كما تعهد غولارت، في عام 2019، بجزء من محصول هذا العام لمورّد باعه آلة تقشير جديدة، لكن ذلك أصبح مستحيلاً الآن. لن يكون حصاد في هذا العام أو في العام القادم، حتى حصاد عام 2023 يكاد يكون معدوماً. قال غولارت إنه سيتصل بالمورد ويعيد التفاوض على الشروط. وبعد ذلك، مثل الآلاف من المزارعين من حوله، سيقطع جميع أغصان الأشجار على أمل أن تنبت جذوعها براعم جديدة. إذا لم يحدث ذلك، كما يخشى، فسوف يقطعها من جذوعها ويبدأ من الصفر.

يقول المصرفي المتقاعد: "لا يوجد حل آخر".

ربما أحب غولارت الطريقة التي كانت تبدو عليها أشجاره قبل أن تجتاح الرياح القطبية مزرعته، لكن الحقيقة هي أن الحصاد في كاكوندي كان ضعيفاً بالفعل. لقد كان الجفاف، الذي دخل شهره السابع الآن، قاسياً للغاية بحيث لا يمكن إنتاج محصول جيد. كما انخفضت رطوبة التربة إلى 20% فقط. وفي الوضع المثالي، سيكون هذا الرقم أقرب إلى 60%، كما يقول أديمار بيريرا، رئيس جمعية مزارعي البن المحليين.

يقف بيريرا على قمة جرف ويشير إلى جميع العلامات التي تدلّ على الطقس الجاف للغاية، ومن بينها المروج المشذبة التي تحوّلت إلى سجاد بنّي اللون، وكذلك الشق الذي خلفه حريق هائل مؤخراً في جبل بعيد، وانخفاض منسوب الخزان الكهرومائي أسفل الوادي للغاية، إلى درجة أن المراسي الصغيرة التي بُنيَت مباشرة على حافة المياه شاخصة الآن على بعد ربع ميل.

يقول بيريرا: "لم نشهد ذلك من قبل".

عندما تحصر النقص المتراكم في هطول الأمطار على مدى العقد الماضي عبر عديد من الأحواض في البرازيل، فإنه يكافئ عاماً بأكمله من هطول الأمطار تقريباً، وفقاً لمشغل النظام الكهربائي الوطني "أو إن إس" (ONS). كما تأتي الرياح الموسمية التي يعتمد عليها المزارعون في وقت متأخر أكثر وأكثر كل عام. وتتوقع الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ التابعة للأمم المتحدة أن يزداد هذا الاتجاه سوءاً في السنوات القادمة، مع مواسم جفاف أطول تمتد من وسط البرازيل حتى منطقة غابات الأمازون.

كان ذلك على جانب الحافة الخارجية للغابة المطيرة، في بلدة تسمى نوفا موتوم، عندما أبصر كليفرسون بيرتاموني الدخان وهو يتصاعد من حقول الذرة الخاصة به في أحد أيام شهر يوليو.

كدّس بيرتاموني المزارعين بشكل محموم في شاحنتين للمياه وأرسلهم لإخماد الحريق. مع ذلك، استمرت الحرائق. وتوسل بيرتاموني للحصول على المساعدة، فهرع جيرانه بأكثر من 13 شاحنة أخرى. بحلول الوقت الذي انطفأت فيه النيران أخيراً، بعد نحو ست ساعات، كان قد جرى تدمير ما يقرب من 250 فداناً.

بالنسبة إلى بيرتاموني، البالغ من العمر 43 عاماً، كان الأمر مختلفاً عن أي حريق واجهه في حياته المهنية التي بدأت عندما كان صبياً صغيراً يتبع والديه في حقول فول الصويا والذرة. وقال إن الأرض جافة جداً الآن، لدرجة أن شرارة بسيطة من الحصّادة كانت كافية لإشعال النيران. وأضاف: "لقد انتشر الحريق بسرعة".

وجد بيرتاموني نفسه فجأة يعاني من عجز بلغ 16 ألف كيس من الذرة أقل مما وعد بتسليمه إلى المؤسسات التجارية في ساو باولو. وقد نصّ العقد المبرم معها على أنه ملزم دفع أكثر من 120 ألف دولار لتعويض الفارق. لكن ذلك لن ينجح، فهو لا يمتلك هذا القدر من المال. لذلك، أبرم بيرتاموني صفقة أخرى، سيسلّم بموجبها أكثر من 20 ألف كيس من حصاد العام المقبل بدلاً من دفع المال.

يشعر بيرتاموني بالارتياح، وإن كان حاداً بعض الشيء، إذ يعتقد أن كل شيء يجب أن يكون على ما يرام ما دامت الأمطار تهطل ويمكنه السيطرة على الحرائق.