ثقافة الكحول على طاولة الاجتماعات توقد حملة "#أنا أيضاً" في "علي بابا" و"ديدي"

المصدر: بلومبرغ
المصدر: بلومبرغ
تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

انضمَّت إيرين إلى الشركة الصينية لسيارات الأجرة تحت الطلب "ديدي غلوبال" (Didi Global) في عام 2020، بعد أن شدَّتها فرصة العمل في واحدة من أكثر شركات التكنولوجيا إثارة في الصين والعالم. وفي شهر يوليو من ذلك العام؛ كُلِّفت بواحدة من أولى مهماها في بلدة صغيرة، إذ كان عليها الاجتماع مع أحد الزبائن، وقد انتهى اللقاء بمأدبة طعام، والكثير من زجاجات النبيذ، بالإضافة إلى المشروب الكحولي الصيني "بايجو".

لم يكن الأمر بغريب، فحفلات عشاء العمل الصينية غالباً ما يتخللها الكثير من الكحول، على شاكلة الثمالة التي كانت تشهدها اجتماعات العمل في ستينيات القرن الماضي في نيويورك، كما صوّّرها مسلسل "ماد مان" (Mad Men).

اقرأ أيضاً: ضحايا التحرش الجنسي يدفعون ثمناً مالياً باهظاً

في حينها، كانت إيرين التي بلغت اليوم 33 من العمر، السيدة الوحيدة على المائدة، إذ تقول، إنَّها شعرت أنَّها مرغمة على الإسراف في الشرب، والاستمرار في ذلك، حين انتقل الاجتماع إلى مطعم آخر. بعد ذلك، لا تتذكَّر إلا الزبون الذي لامسها في المقعد الخلفي لسيارة ما، ثمّ راح يلامسها مجدداً في غرفتها في الفندق. ثم نشرت بعدها مجموعة صور لعين وفم متورِّمين عبر وسائل التواصل الاجتماعي، قائلةً إنَّها دليل على الإصابات التي تعرَّضت لها، حين اعتدى عليها الزبون جنسياً.

اقرأ المزيد: مواقع التواصل الاجتماعي ملاذ آمن لمرتكبي التنمر الإلكتروني

بعد يومين من الاعتداء المزعوم، أبلغت إيرين الشرطة التي أغلقت التحقيق بعد شهر، وقالت النيابة العامة في تقريرها، إنَّها لم تجد دليلاً طبياً يثبت حدوث "فاحشة قسرية"، وهو مصطلح يشمل الاعتداء الجنسي في الصين.

نشرت إيرين قصتها عبر وسائل التواصل الاجتماعي، إلا أنَّ قضيتها لم تحظ بكثير من الاهتمام. ثمّ في شهر أغسطس الماضي، اتهمت موظفة في مجموعة "علي بابا" (Alibaba Group Holding) علناً، مديرها بالاعتداء الجنسي عليها، وذلك أيضاً بعد ليلة من الشرب. قامت "علي بابا" بعدها بطرد المدير، في حين استقال مديران تنفيذيان كبيران بسبب الطريقة التي تعاملا فيها مع المسألة. وبعد أن انتشرت تلك القضية عبر الإنترنت، عادت إيرين إلى الحديث عن محنتها مجدَّداً عبر "ويبو" (Weibo) أكبر موقع للتدوين المصغَّر في الصين. هذه المرّة، دعم مستخدمو وسائل التواصل الاجتماعي حسابها، وقام المئات بمتابعة صفحتها، وإعادة نشر تعليقاتها.

تسلِّط قضية "علي بابا" الضوء على التجارب التي عاشتها النساء مثل إيرين. إذ دقَّت هذه القضية ناقوس الخطر حول ثقافة العمل المبنية على شرب الكحول والتملّق، وفرضت ضغوطاً غير مسبوقة على الشركات لتدفعها نحو معالجة السلوكيات التعسُّفية التي قد تنشأ عن مثل هذه الممارسات. وقد وجهت وسائل الإعلام المملوكة من الدولة انتقادات لاذعة، ربطت ما بين التحرش الجنسي بالموظفات وسياسات شرب الكحول في الشركات، في وقت يُوجه المسؤولون في بكين المزيد من الاهتمام لمثل هذه المسائل في إطار حملة الرئيس شي جين بينغ الأخلاقية واسعة النطاق، والهادفة إلى تطهير جوانب الحياة كافةً، بدءاً ممَّا يوصف بالتربح من التعليم الخصوصي بعد المدرسة، إلى إفساد الشباب من خلال الألعاب الإلكترونية. وكانت بوابة "علي بابا" الإلكترونية "سينا" (Sina)، ومنصة "آي تشي يي" (IQiyi) التي تعدُّ النسخة الصينية من "نتفلكس"، قد بدأتا في الشهر الماضي بتطبيق سياسات أكثر صرامة من أجل الحدِّ من الإفراط في الشرب في فعاليات الشركات، وكبح التحرش الجنسي.

لا شكَّ في أنَّ تحقيق نجاح واسع النطاق على هذا الصعيد قد يستغرق سنوات عدَّة. إلا أنَّ هذه اللحظة تعدُّ محورية بالنسبة إلى دولة كان تأثير حركة (#أنا أيضاً) (#MeToo) محدوداً فيها، على الرغم من وقعها الهائل على الدول الأخرى. ونشرت خدمة أخبار الصين المملوكة من الدولة في أغسطس الماضي، تعليقاً قالت فيه: إنَّ "ثقافة الكحول على المائدة تحوَّلت إلى ورقة التين التي تغطي "التنمر" في مكان العمل، وحوَّلت المائدة إلى مكان يمكن فيه لأصحاب المراتب الأعلى، أن يستخدموا سلطتهم للتنمر على الآخرين، أو حتى للتسبب بحوادث سيئة، وجرائم غير شرعية".

لم تستجب "ديدي" للطلبات المتكررة للتعليق على مزاعم إيرين، وعلى سياساتها المتعلِّقة بشرب الكحول والتحرش. كما رفضت الشرطة والحكومة المحلية في شينغهوا، حيث قدمت إيرين الدعوى التعليق على القضية.

إيرين التي طلبت التعريف عنها فقط بالاسم الإنكليزي الذي تستخدمه أحياناً في مجال العمل، لخوفها من الانتقام، عرضت الوثائق التي في حوزتها لـ"بلومبرغ نيوز"، ومن بينها تقرير الشرطة، وتقرير النيابة العامة المحلية، وتقرير المستشفى الذي يشرح الصور التي نشرتها على الإنترنت.

لم تتمكَّن "بلومبرغ نيوز" من الوصول بشكل مستقل إلى الزبون الذي اتهمته إيرين، ولم تتم الإجابة على الرسائل التي أُرسلت إلى حساب على "وي تشات" (WeChat) الذي قالت إيرين عنه، إنَّه تابع للزبون. كما أطلَعت إيرين "بلومبرغ نيوز" على ما قالت بأنَّه تسجيل لمحادثة بينها وبين الزبون في قسم للشرطة. وفي التسجيل الذي لم تتمكَّن "بلومبرغ نيوز" من تأكيده بشكل مستقل، يظهر الزبون، وهو ينفي ارتكاب أي خطأ، ويدّعي أنَّ إيرين سقطت على الأرض، وقد حملها ليعيدها إلى الفندق.

انتقادات الحكومة

بعد انتشار قضية "علي بابا"، وجَّهت لجنة التفتيش والانضباط المركزية التي تعدُّ الجهاز الحكومي المعني بمكافحة الفساد، انتقادات إلى الشركة معتبرةً أنَّها تتبنّى ثقافة عمل سيئة. لم تردّ "علي بابا" مباشرة على هذه التعليقات، لكنَّها فتحت في شهر أغسطس تحقيقاً بمزاعم الموظفة. بعدها، قامت الشركة بتوبيخ علني لرئيس الموارد البشرية، وأنشأت خطاً ساخناً للتبليغ عن شكاوى التحرش الجنسي، بالإضافة إلى لجنة عالية المستوى لحلِّ النزاعات المستقبلية.

قال الرئيس التنفيذي لـ"علي بابا"، دانيال تشانغ، في مذكرة داخلية: "نعارض بحزم سياسة الشرب القسري البشعة". وأضاف: "بغضِّ النظر، سواء كان رجلاً أو امرأة، وسواء كان الطلب صادراً عن زبون أو مدير؛ نحض موظفينا على رفضه".

في حين شكَّل كبح الشرب المفرط في فعاليات العمل جزءاً من قواعد سلوك في العديد من الشركات الغربية منذ سنوات؛ سلكت الشركات الصينية مساراً مختلفاً حتى الآونة الأخيرة. فغالباً ما يقيم أصحاب العمل فعاليات، يجبر فيها المديرون الموظفين الأدنى رتبة على الشرب، كجزء من تقليد بعرف باسم "كوانجيو"، أو "الشرب القسري"، بحسب مقال نشره ني هويهوا، الأستاذ في كلية الاقتصاد في جامعة رينمين الصينية، الذي نُشر في المجموعة الإعلامية الصينية "كايكسين غلوبال" (Caixin Global). لكن منذ أن تصدَّرت قضية "علي بابا" عناوين الأخبار، احتشدت النساء عبر وسائل التواصل الاجتماعي، من أجل الحديث علناً عن التحيّز الجنسي فقد ذكرنَ أنَّه مترسِّخ في عالم الأعمال في الصين، بالأخص في مجال التكنولوجيا. وهو يشمل جوانب مختلفة، من المقالب المهينة، إذ يُطلب في بعض الأحيان من الموظفين محاكاة أفعال جنسية، إلى إعلانات الوظائف التي تستخدم النساء كطعم من أجل جذب الموظفين الذكور. وتقول النساء، إنَّ جزءاً كبيراً من هذا التحرش، يحصل في فعاليات يتخللها الإسراف في تناول الكحول.

كانت شركات التكنولوجيا الأولى التي بادرت إلى الاستجابة. وقال متحدِّث باسم شركة "سينا" في بكين التي تشغل موقع "ويبو"، إنَّهم قاموا بإضافة بنود تتعلَّق بالتحرش الجنسي إلى كتيب الإرشادات الجديد للموظفين، الذي يشمل موضوعات مثل الإعانات الطبية وغيرها. ومن جانبها، أبلغت شركة "آي تشي يي" (IQiyi ) موظفيها في 13 أغسطس، أنَّها قامت بتحديث إرشاداتها الخاصة بمكان العمل من أجل التصدي للتحرش الجنسي والشرب القسري، وغيرها من ممارسات التنمر في مكان العمل، بحسب ما أفادت به وسائل الإعلام المحلية. وقد رفض متحدِّث باسم "آي تشي يي" التعليق على هذه الخطوة.

سياسات جديدة

إلى ذلك، عقدت الإدارة في تكتل "مجموعة داليان واندا" (Dalian Wanda Group) اجتماعاً للإعلان عن اعتماد سياسات جديدة، بعد أيام فقط من انتشار قضية "علي بابا"، إذ قالت، إنَّ الموظفات غير ملزمات بمرافقة الزبائن من أجل تناول الكحول، و إنَّ الموظفين الذكور والموظفات الإناث لا يجب أن يذهبوا في رحلات عمل سوياً، و بحسب شخص مطَّلع على المسألة قال أيضاً، إنَّ الهدف هو تفادي الفضائح، على الرغم من أنَّ الشركة لا تتبنّى ثقافة شرب الكحول القسري. وقد رفضت "داليان واندا" التعليق.

في غضون ذلك، زعمت موظفة في مجموعة " غويتشو غوتاي للكحول" (Guizhou Guotai Liquor Group) أنَّها تعرَّضت للتحرش الجنسي من قبل زملائها الذكور بعد شرب الكحول، بحسب ما أفادت به صحيفة "تشاينا ديلي" المملوكة من الدولة. وقد أصدرت الشركة في أغسطس بياناً، أعربت فيه عن "صدمتها" تجاه الفضيحة، مشيرةً إلى أنَّها لم تتلق أي معلومات من الشرطة، إلا أنَّها تعتبر الموضوع مهماً، وستتعاون مع أيِّ تحقيق.

"المسؤولية القانونية لم تشكل رادعاً كافياً، إلا أنَّ وسائل التواصل الاجتماعي غيّرت قواعد اللعبة نوعاً ما"

مع ذلك، من المستبعد أن يحصل التغيير بين ليلة وضحاها. إذ تقول إيميلي البالغة من العمر 32 عاماً التي كانت تعمل في مجال التسويق في شركة تقنية في شينزن، التي طلبت عدم الكشف عن اسمها فيما تناقش حياتها العملية، إنَّ الزبائن ضغطوا عليها لتشرب الكحول، على الرغم من أنَّها أوضحت أنَّها لا تحب ذلك. فضلاً عن أنَّ الثقافة الداخلية في الشركة لم تكن أفضل، لدرجة أنَّ مديرها المتزوج طلب الخروج معها في موعد عاطفي. وبعد رفضها، تمَّ تهميشها في العمل، وفي النهاية لم تجدِّد الشركة عقدها، بذريعة أنَّ أداءها كان سيئاً. وفيما كانت تبحث عن وظيفة، سألها أحد أصحاب العمل المحتملين، ما إذا كانت جيدة في الشرب، فيما علَّق آخر على مظهرها.

كان الادعاء قد أسقط التهم ضد المدير السابق لـ"علي بابا" الذي تمَّ اتهامه بالتحرش في بداية سبتمبر، بما أنَّه قد تعذَّر إثبات أنَّ سلوكه يرقى إلى مستوى الجريمة الجنائية. كذلك، أسقطت محكمة في بكين دعوى رفعتها متدربة سابقة في التلفزيون الصيني المملوك من الدولة ضد مذيع شهير اتهمته بالتحرش بها جنسياً في عام 2014، إذ وجدت المحكمة أنَّ الدعوى تفتقر إلى الأدلة، ونفى المذيع الاتهامات المقدَّمة ضده في إطار قضية مدنية. من جانبها، أعلنت المرأة أنَّها ستستأنف الحكم، وعلى الرغم من إغلاق حساباتها على وسائل التواصل الاجتماعي، إلا أنَّ مستخدمي الإنترنت هبّوا للدفاع عنها.

المسؤولية القانونية

قالت بوني ليفين من شركة "أوغليتري ديكينز" (Ogletree Deakins) في أتلنتا، المتخصصة في قانون العمل، التي تقدِّم استشارات إلى الشركات متعددة الجنسيات العاملة في الصين، إنَّ "المسؤولية القانونية لم تشكِّل رادعاً كافياً، إلا أنَّ وسائل التواصل الاجتماعي غيَّرت قواعد اللعبة نوعاً ما، بما أنَّها تمنح القدرة على إطلاق حملة عبر الإنترنت تسهم في نشر الوعي".

على الرغم من أنَّ الكثير من النساء اللواتي يشاركن قصصهن عبر وسائل التواصل الاجتماعي يحصلن على الدعم، إلا أنَّهن يتعرَّضن أيضاً لهجوم لاذع. حتى الآن، أتاحت الحكومة المجال لتوجيه الانتقادات عبر وسائل الإعلام المملوكة من الدولة، وسمحت بتداول هذه النقاشات عبر منصات التواصل الاجتماعي المراقبة عن كثب. كما أنَّ هناك قانوناً مدنياً دخل حيز التنفيذ في يناير، أخد المسالة بعيداً وبشكل أكبر، فقد ألزم أصحاب العمل باتخاذ إجراءات لتجنُّب التحرش الجنسي، والتحقيق في مثل هذه المزاعم. وعلى الرغم من أنَّ هذه القواعد ليست واضحة حيال ما إذا كانت الشركات مسؤولة عمَّا يحصل في الأماكن التي ترفّه فيها عن الزبائن، إلا أنَّها توحي بحدوث تحوّل في الثقافة القائمة. وقال المحامي المتخصص في قضايا العمل في شركة "غال" (Gall) للمحاماة في هونغ كونغ، ماثيو دورها، إنَّ "قضية (علي بابا) أظهرت أنَّ الرأي العام يرى أنَّ هذه القضية مهمة، ويجب التعامل مع الأمور التي تحصل خارج مكان العمل على أنَّها تحرش جنسي".

قالت إيرين، السيدة التي وجهت التهم إلى زبون "ديدي"، إنَّها تركت الشركة بعد ثلاثة أشهر من الاعتداء المزعوم، و ماتزال تبحث عن عمل آخر. وأشارت إلى أنَّه بعد فترة وجيزة من إغلاق التحقيق، بدأ مديرها يكرر دعوتها لترافقه وحدها في رحلة عمل، ويقترح اجتماعات في داخل غرفته في الفندق. ولدى الاتصال به هاتفياً، رفض المدير التعليق، وأحال الأسئلة المتعلِّقة بمزاعم إيرين إلى "ديدي". وقد رفضت "ديدي" التعليق، كما لم تستجب لطلب الحصول على تعليق من المدير.

الآن، تتحدَّث إيرين كلّ يوم تقريباً عن تجربتها عبر موقع "ويبو". وقد وعدت متابعيها بالاستمرار بالتكلُّم عن الموضوع، إلا في حال أجبرت قسراً على التوقف. وقالت في مقابلة: "ثقافة الشرب ليست بشعة بحدِّ ذاتها، البشع هو أنَّ هذه الثقافة اليوم باتت تحمل ختم العمل". وأضافت: "لا يمكن فصل بعضهما عن بعض".