كيف سيتغير مركز سنغافورة المالي بعد الجائحة؟

مركز سنغافورة المالي الذي لم يكن موجوداً منذ نصف قرن فقط
مركز سنغافورة المالي الذي لم يكن موجوداً منذ نصف قرن فقط المصدر: بلومبرغ
المصدر: بلومبرغ
تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

يواجه الحي المالي المتألق في سنغافورة أكبر تحدٍ في تاريخه حتى الآن، والذي يتمثل في تجديد الحي لاستراتيجيته لتتناسب مع عالم ما بعد الجائحة ونظام العمل الهجين.

في غضون أكثر من نصف قرن بقليل، تحول ما كان ذات يوم منطقة متخلفة ومتهالكة إلى ما أصبح منطقة تتجاور بها ناطحات السحاب الفخمة التي تضم مكاتب عدة، ظهر العديد منها في أفلام هوليوود، سواء الكوميدية الرومانسية أو أفلام الحركة الشهيرة.

تمثل هذه الناطحات المركز المالي للبلاد الذي يدير أصولاً بقيمة 4.7 تريليون دولار سنغافوري (3.5 تريليون دولار) خلال عام 2020.

العالم يحتاج إلى تشييد مزيد من المباني المناسبة للجميع

لكن نموذج التوظيف الذي يعتمد على التواجد في المكتب بات مهدداً في البلاد، حيث استمرت سنغافورة في اتخاذ نهج حذر بشأن إعادة فتح أبوابها حتى قبل فرض قيود جديدة للتصدي لـ"كوفيد-19" في 27 سبتمبر، كما أن عودة الدولة المدينة إلى العمل من المكاتب كانت بطيئة رغم أنها تأتي ضمن الدول ذات معدلات التطعيم الأعلى في العالم. وانخفض مستوى النشاط في مقار العمل بنسبة 25% اعتباراً من الأسبوع الأخير من سبتمبر مقارنة بمستويات ما قبل الوباء، بحسب بيانات التنقل الصادرة عن "غوغل"، بينما بلغ مستوى انخفاض نشاط المركز المالي الآسيوي المنافس في هونغ كونغ 7% فقط.

حتى قبل الوباء كان جدول أعمال مخططو المدينة يضم بالفعل تحويل منطقة الأعمال المركزية في سنغافورة إلى مكان أكثر جاذبية للسكن والعمل، وأصبحت الحاجة لمثل هذا التحول أكثر إلحاحاً منذ تفشي الوباء، كما هو شأن الطلب على المزيد من المساكن لاحتواء المزيد من السكان.

كما أن الخطط الرامية لاستقطاب سكان جدد وشركات جديدة إلى المنطقة تنطوي على فكرة إضافة المزيد من وسائل الراحة مثل متاجر البقالة الكبيرة والمقاهي، فضلاً عن التشجيع على إقامة حانات ومطاعم أكثر حيوية.

مما لا شك فيه أن المخاطر التي تواجهها سنغافورة بشكل خاص هائلة، خاصة أن النجاح الاقتصادي للبلاد يعتمد على الاحتفاظ بوجود الشركات الأجنبية الكبرى في منطقة الأعمال، والتي تتجاوز قيمتها الحالية حاجز الـ50 مليار دولار، بحسب تحليل "بلومبرغ" للمكاتب العليا في التقارير المالية للمطورين.

تعليقاً على الأمر، يقول المتحدث باسم هيئة إعادة التطوير الحضري، وهي وكالة حكومية تشرف على التخطيط الحضري للدولة المدينة: "فقدت التعريفات السابقة للمنطقة التجارية والمالية الناجحة أهميتها". وأضاف: "الصورة الناجحة لمنطقة الأعمال المركزية اليوم تختلف اختلافاً كبيراً عن المناطق التي كانت تضم مكاتب أحادية الاستخدام في الماضي".

كذلك، تحاول سنغافورة اللحاق بالمدن العالمية الأخرى حينما يتعلق الأمر بزيارة معالم الجذب السياحي بعد ساعات العمل المحددة. ففي لندن، يمكن للعاملين في مكاتب المنطقة المالية شحن طاقتهم واستعادة نشاطهم في المطاعم والمحلات التجارية الواقعة في سوق "ليدنهال" القريب، بينما يمتلك العاملون أثناء فترة الليل بالحي المالي بهونغ كونغ مجموعة من الحانات والنوادي المحيطة للاستجمام. وفي وول ستريت بنيويورك، يمكن للمصرفيين والزوار التنزه في الميناء البحري المجاور للاستمتاع ببعض الموسيقى الحيّة أو الاستمتاع بمشهد غروب الشمس في "باتري بارك".

نحو العالمية

تشهد سنغافورة تقدماً في هذا الإطار، ففي عام 2019 قدمت حكومة سنغافورة خطة لتشجيع مُلاك المباني على تحويل المكاتب القديمة إلى مشاريع متعددة الاستخدامات مثل فنادق ومساكن ووسائل راحة عصرية. كما أن السلطات تطالب المطورين أيضاً ببناء مساحات عامة مملوكة للقطاع الخاص داخل مجمعات المباني المكتبية.

وأحد الأمثلة على ذلك هو "ساحة ذا كيوب الآسيوية"، وهي عبارة عن ساحة كبيرة تصطف فيها الحانات التي تخدم في الغالب المصرفيين وخبراء التكنولوجيا، وهي تقع بين مبنيين يضمان شركات مثل "سيتي غروب" و"أمازون دوت كوم".

في الوقت نفسه، توجد فكرة إضافة المزيد من مسارات الدراجات والمناطق المخصصة للمشاة ضمن خطط إعادة الحياة إلى المدينة أيضاً، وهو ما يسهل عملية استكشافها سيراً على الأقدام.

جدير بالذكر أيضاً أن سنغافورة تستقطب عمالقة التكنولوجيا إلى المنطقة، حيث افتتحت شركة "بايت دانس"، المالكة لتطبيق "تيك توك"، مؤخراً مكتباً ضخماً جديداً في مركز المدينة، فضلاً عن أن مجموعة "علي بابا غروب هولدينغ" تشيد مباني جديدة في طريق شنتون، وهو جزء قديم من المنطقة التجارية التي تحتاج بشدة إلى التجديد.

مكاتب العمل بحاجة لتغييرات جذرية لجذب الموظفين بعد الوباء

يقول آلان تشونغ، المدير التنفيذي لقسم الأبحاث لدى شركة "سافيلز" (Savills Plc) في سنغافورة: "فشل تجديد الأجزاء القديمة في الحي المالي سيجعله قريباً دون أهمية وغير جذاب بالنسبة للشركات التي تتعامل مع الاقتصاد الجديد والتمويل الرقمي".

كذلك تريد الحكومة أيضاً تزويد الحي المالي بشقق الإسكان العام، وهي شقق قليلة التكلفة تؤوي أكثر من 80% من سكان المدينة.

وفي مقال لصحيفة "ستريتس تايمز" السنغافورية في يونيو، كتبت وزيرة التنمية الوطنية إندراني راجا أن المساكن في الأماكن الرئيسية الهامة لا ينبغي أن تقتصر على "الأثرياء وميسوري الحال فقط".

من المؤكد أن نموذج سنغافورة للإسكان العام بحاجة إلى تعديلات ليتمكن من أداء الغرض الأساسي منه في مثل هذه المنطقة باهظة الثمن، لكن راجا قالت إن القطاع يواجه تحديات مثل ضمان بقاء تكلفة المنازل عند مستوى معقول وعدم شراء المالكين للوحدات السكنية من أجل بيعها فقط. ومن هذا المنطلق، تعمل السلطات حالياً على دراسة الخطط واستشارة عامة الناس.

تقول كريستين سن، نائبة رئيس قسم الأبحاث والتحليلات لدى شركة العقارات "أورانج تي آند تاي" ومقرها سنغافورة، إن المنازل الواقعة في مركز المدينة قد تروق بشكل خاص للسنغافوريين الأصغر سناً، كما ستكون هناك حاجة إلى مدارس وملاعب خارجية ومطاعم أرخص لتناسب هذه الفئة السكانية.

نمو سريع

الكثير من الفضل في التطور السريع لسنغافورة منذ استقلالها في عام 1965 يعود إلى استقرارها السياسي، إذ تمتع الحزب الحاكم بتولي مقاليد الحكم لفترة طويلة دون انقطاع وسط انخفاض مستوى المعارضة، ما منحه أساساً متيناً لاستمرارية سياساته على الأمد الطويل. كما أن التخطيط المسبق وضع حجر الأساس لمشاريع عملاقة مثل "مارينا باي" حيث أقيم فندق "مارينا باي ساندز" الشهير، الذي تم تطويره على مدى أربعة عقود قبل افتتاحه في عام 2010.

يقول ريتشارد بيزر، أستاذ التطوير العقاري في كلية الدراسات العليا في "جامعة هارفارد للتصميم": "شيء واحد يسهم في استمرارية وجود الحكومة ذاتها، وهو براعتها الشديدة في التنمية". وفي المقابل، يمكن للمشاريع الكبرى في أماكن مثل الولايات المتحدة التعثر في ظل العملية السياسية القائمة، حسبما أضاف بيزر.

ومع ذلك، فإن بيئة ما بعد الوباء ستتطلب إيجاد حلول إبداعية، لكن ذلك قد يشكل تحدياً في نظام سياسي يهيمن عليه حزب واحد فقط.

عن ذلك، يقول هنري تشين، رئيس قسم القيادة الفكرية للمستثمرين والأبحاث لدى مجموعة "سي بي آر إي غروب" (CBRE) بمنطقة آسيا والمحيط الهادئ: "كان نظام التخطيط في سنغافورة صارماً للغاية، وأحياناً يمكن أن يصل الأمر لكونه بالغ الصرامة، لكن كما ترى هذا الاتجاه آخذ في التغير".

يعتقد تشين أن سنغافورة بإمكانها التعلم من منطقة "كناري وارف"، وهي المنطقة التجارية الثانية في لندن، التي تضيف المزيد من الشقق الفاخرة لتعزيز كثافتها السكانية الدائمة وزيادة عدد أفراد مجتمعها. كما أنها تخطط لإنشاء مركز للعلوم في مكان كان يتخذه "دوتشه بنك" مقراً سابقاً له في لندن، حيث تقلص البنوك العالمية وجودها في البلاد في ظل الوباء وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.

هذه نقطة رددتها آدا تشوي، وهي رئيسة أبحاث بيانات المناطق وإدارتها لدى "سي بي آر إي غروب" لمنطقة آسيا والمحيط الهادئ. وأضافت: "إذا كنت ترغب في عودة الناس إلى المكاتب، فإن هذه العودة لم تعد تقتصر على العمل فقط، بل إنك بحاجة إلى إدخال تجارة التجزئة والطعام وسبل العيش والمتعة".

وأوضحت أخيراً: "التحدي الأكبر في هذا المجال هو أنك لا تصمم الجانب المادي فحسب من المنطقة، بل عليك التفكير في التجربة التي سيخوضها الموجودون في هذه المنطقة".