كيف غيَّر كورونا مسار الاقتصاد العالمي للأبد؟

رجل يحمل طفلاً، وكلاهما يرتديان قناعاً وسترة واقية من المطر، ويسير في محطة قطارات "هانكو" في "ووهان" بإقليم "خوبي". الصين
رجل يحمل طفلاً، وكلاهما يرتديان قناعاً وسترة واقية من المطر، ويسير في محطة قطارات "هانكو" في "ووهان" بإقليم "خوبي". الصين المصدر: بلومبرغ
المصدر: بلومبرغ
تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

يواجه العالم الصدمات الاقتصادية مثل جائحة فيروس كورونا لعام 2020 مرة واحدة كلَّ بضعة أجيال، وتحدث تغييراً دائماً وبعيد المدى. ويتجه الاقتصاد العالمي، الذي يقاس بالناتج المحلي الإجمالي، صوب التعافي من الركود الذي عايشه سكان كوكب الأرض البالغ عددهم 7.7 مليار شخص. وقد يسرِّع توافر لقاحات كورونا من وتيرة الانتعاش في عام 2021. لكنَّ تداعيات كوفيد-19 ستشكِّل مسار نمو الاقتصاد العالمي على مدار سنوات قادمة.

وأثارت الجائحة 10 تداعيات ملموسة في حياة الناس، إذ ستتسارع وتيرة استيلاء الروبوتات على وظائف بالمصانع، وتقديم الخدمات، في حين سيبقى العمال أصحاب الياقات البيضاء في المنزل لفترة أطول. وسيكون هناك المزيد من عدم المساواة بين البلدان وداخلها. كما ستلعب الحكومات دوراً أكبر في حياة المواطنين، عبر إنفاق مزيد من الأموال.

وفيما يلي نظرة عامة على بعض التحولات المرتقبة.

عجز أكبر في الميزانيات

عادت الحكومة الضخمة إلى الظهور، فقد تمَّت إعادة كتابة العقد الاجتماعي بين المجتمع والدولة بسرعة. وأصبح من الشائع بالنسبة للسلطات تتبع الأماكن التي يذهب إليها الأشخاص، ومع من التقوا أيضاً، ودفع رواتب الموظفين عندما لا يتمكن أصحاب العمل من سدادها. وفي البلدان التي سادت فيها أفكار السوق الحرة لعقود؛كان لا بد من إصلاح شبكات الضمان الاجتماعي.

ولكي تدفع الحكومات عبر أنحاء العالم قيمة تدخلها في عدة مجالات، واجهت العجز في الميزانية بقيمة 11 تريليون دولار هذا العام، وفقاً لـشركة "ماكينزي آند كومباني" لاستشارات الإدارة.

ويدور بالفعل نقاش حول المدة التي يمكن أن يستمر فيها الإنفاق الحكومي، ومتى يتعيَّن على دافعي الضرائب البدء في سداد ما عليهم من مستحقات تخصهم. وعلى الأقل في الاقتصادات المتقدمة، لا تشير أسعار الفائدة شديدة الانخفاض، والأسواق المالية المنضبطة إلى تفجر أزمة على المدى القريب.

وعلى المدى الطويل، تؤدي إعادة التفكير كثيراً في الاقتصاد إلى تغيير الأفكار حول الدين العام.

ويسود توافق في الآراء حالياً أنَّ مجالاً أكبر لدى الحكومات للإنفاق في عالم يشهد انخفاضاً في معدلات التضخم، ويجب أن تستخدم السياسة المالية بشكل أكثر استباقية لدفع اقتصادات بلدانها لتحقيق النمو.

ويقول المدافعون عن النظرية النقدية الحديثة، إنَّهم كانوا من رواد تلك المواقف، وإنَّ التيار السائد يؤيدها حالياً.

الأموال الأكثر رخصاً

انغمست البنوك المركزية في طبع النقود. وسجَّلت أسعار الفائدة مستويات منخفضة قياسية جديدة. وكثَّف محافظو البنوك المركزية التيسير الكمي، ووسَّعوا نطاقه ليشمل شراء ديون الشركات، وديون الحكومة أيضاً.

لقد هيأت كل هذه التدخلات النقدية بعضاً من أيسر الظروف المالية في التاريخ، وأطلقت العنان لجنون الاستثمار المضارب، الذي ترك الكثير من المحللين قلقين بشأن المخاطر في المستقبل. على أنّه سيكون من الصعب عكس سياسات البنوك المركزية، خاصة إذا ظلت أسواق العمل تعاني المشاكل، واستمرت الشركات في الاستعداد للادخار.

وتكشف وقائع التاريخ أنَّ الأوبئة تخفِّض أسعار الفائدة لفترة طويلة، وفقاً لورقة منشورة خلال العام الجاري. وكشفت الورقة البحثية أنَّه بعد ربع قرن من انتشار المرض، كانت معدلات الفائدة أقل بنحو 1.5 نقطة مئوية، مما كانت ستصبح عليه لولا ذاك الوباء.

الديون وشركات الزومبي

عرضت الحكومات تقديم الائتمان كونه قبلة الحياة خلال الوباء، واستغلت الشركات الفرصة. وكانت إحدى النتائج لسياسات الحكومات تتحدد في ارتفاع مستويات ديون الشركات في جميع أنحاء العالم المتقدِّم.

و يقدِّر بنك التسويات الدولية أنَّ الشركات غير المالية اقترضت 3.36 تريليون دولار في النصف الأول من عام 2020.

ومع انخفاض الإيرادات في العديد من الصناعات بسبب الإغلاق، أو توخي الحذر من جانب المستهلكين، وتزايد الخسائر في الميزانيات العمومية للشركات، فإنَّ الظروف مهيأة لـ"أزمة ملاءة كبيرة للشركات"، وفقاً لتقرير جديد.

ويرى بعض المحلِّلين أيضاً خطراً في تقديم الكثير من الدعم للشركات، في ظلِّ قليل من التمييز بين تلك الشركات للحصول على الدعم من عدمه. ويقولون إنَّ تقديم الدعم للشركات بدون تمييز بمثابة وصفة لإيجاد ما يسمى "شركات زومبي"، التي

لا يمكنها الاستمرار في السوق الحرة، وتظل على قيد الحياة فقط بمساعدة الدولة؛ مما يجعل الاقتصاد بأكمله أقل إنتاجية.

انقسامات كبيرة

يمكن أن تبدو المناقشة حول حزم التحفيز، وكأنها رفاهية من العالم الأول. وتعاني البلدان الفقيرة من نقص الموارد اللازمة لحماية الوظائف، والشركات -أو الاستثمار في إنتاج اللقاحات، بالطريقة التي مارستها الدول الأكثر ثراء. وستحتاج إلى شدِّ الأحزمة عاجلاً (خفض الإنفاق)، أو المخاطرة بمواجهة أزمات انخفاض العملة المحلية أمام العملات الأجنبية، وهروب رأس المال الأجنبي.

ويحذِّر البنك الدولي من أنَّ الوباء يؤدي إلى ظهور جيل جديد من الفقر، وتفاقم الديون، ويقول صندوق النقد الدولي، إنَّ الدول النامية تواجه خطر التأخر، أو التراجع لمدَّة عقد من الزمان.

واتخذت الحكومات الدائنة في مجموعة العشرين بعض الخطوات للتخفيف من محنة الدول الأشد فقراً، لكنَّها تعرضت لانتقادات من قبل جماعات الإغاثة لكون المجموعة قدَّمت فقط تخفيفاً محدوداً للديون دون إقناع مستثمري القطاع الخاص للمشاركة في تخفيف حدَّة الديون.

التعافي الاقتصادي على شكل حرف K

يميل العمل منخفض الأجر في قطاع الخدمات، إذ يكثر الاتصال المباشر مع العملاء ، إلى الاختفاء أولاً مع غلق الاقتصادات. وعادت الأسواق المالية بسرعة أكبر بكثير من أسواق العمل مع أنَّ معظم الأصول مملوكة للأثرياء.

وكانت النتيجة تسمى "الانتعاش على شكل حرف K". وأدَّى الفيروس إلى توسيع فجوات الدخل، أو الثروة عبر الطبقات، والأعراق، والأجناس.

لقد تضرَّرت النساء بشكل غير متناسب -ويرجع ذلك جزئياً إلى أنَّ عملهن على الأرجح في الصناعات التي واجهت صعوبات، كما كان عليهن تحمل الكثير من عبء رعاية الأطفال الإضافي مع إغلاق المدارس. وفي كندا، انخفضت مشاركة المرأة بالقوى العاملة إلى أدنى مستوى لها منذ منتصف الثمانينيات.

صعود الروبوتات

أثار كوفيد-19 مخاوف جديدة حول الاتصال المباشر في الصناعات التي يكون فيها التباعد الاجتماعي صعباً، مثل البيع بالتجزئة، أو الضيافة، أو التخزين. وأحد الحلول لذاك الوضع هو أن تحلَّ الروبوتات مكان البشر.

وتقول الأبحاث إنَّ الأتمتة (التشغيل الآلي) غالباً ما تحقِّق تقدماً أثناء الركود. وفي ظل تفشي الوباء، سرَّعت الشركات العمل على الآلات التي يمكنها تسجيل الضيوف في الفنادق، أو تقطع الخضار في المطاعم، أو تحصل الرسوم في الأكشاك. وساد التسوق عبر الإنترنت.

ومن شأن هذه الابتكارات أن تجعل الاقتصادات أكثر إنتاجية. لكنها تعني أيضاً أنَّه عندما تتوافر العودة الآمنة إلى العمل؛ فإنَّ بعض الوظائف لن تكون موجودة. وكلما طالت مدة بقاء الأشخاص عاطلين عن العمل، زادت إمكانية ضمور مهاراتهم، وهو ما يسميه الاقتصاديون "التخلف".

كاتم الصوت

في أعلى سلم الدخل، أصبحت فروع شركات الأصغر حجماً مقارنة بالمقر الرئيسي، فجأة هي القاعدة. كما وجدت إحدى الدراسات أنَّ ثلثي الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة في شهر مايو جرى توليده بواسطة أشخاص يعملون في المنزل. وطلبت العديد من الشركات من الموظفين عدم الحضور إلى مقراتها حتى عام 2021، وأشارت بعض الشركات إلى أنَّها ستجعل العمل مرناً بشكل دائم.

واجتاز العمل من المنزل في الغالب اختبار التكنولوجيا، مما أعطى أصحاب العمل والموظفين خيارات جديدة. وهذا أمر يثير قلقاً للشركات التي توفِّر احتياجات البنية التحتية القديمة لحياة المكاتب، من العقارات التجارية إلى الطعام والنقل. إنَّ العمل من المنزل بمثابة نعمة كبيرة لشركات تبني منصات جديدة، فقد قفزت أسهم شركة "زووم" صاحبة تطبيق المحادثات الجماعية بالفيديو إلى أكثر من ستة أضعاف خلال العام الجاري.

كما أدى خيار العمل عن بعد، إلى جانب الخوف من عدوى الفيروس، إلى اندفاع سكان المدن نحو الضواحي أو الريف، وفي بعض البلدان، أدى ذلك إلى ارتفاع أسعار العقارات بالمناطق الريفية.

لا سفر

توقَّفت بعض أنواع السفر تقريباً. وتراجعت السياحة العالمية بنسبة 72% حتى أكتوبر من العام الجاري، وفقاً للأمم المتحدة. وتتوقَّع شركة "ماكينزي" أنَّ ربع رحلات العمل قد تختفي إلى الأبد مع تحول عقد الاجتماعات عبر الإنترنت.

ومع التحول الشديد في قضاء الإجازات، وإلغاء الأحداث الجماهيرية، مثل المهرجانات والحفلات الموسيقية، تعطَّل الاتجاه السائد بين المستهلكين لتفضيل "التجارب" على البضائع. وعندما تستأنف الأنشطة، فلن تكون مثل سابق عهدها.

"مانزال لا نعرف كيف ستقام الحفلات الموسيقية، حقاً "، هكذا يقول رامي هيكل، المالك الشريك في ملهى ليلي يسمى " إيلسوير" في بروكلين. ويضيف: "أعتقد أنَّ الناس سيكونون أكثر وعياً بالتباعد الشخصي، ويتجنَّبون الأماكن المكتظة بشكل مفرط".

وقد يضطر المسافرون إلى حمل شهادات صحية إلزامية، والمرور عبر أنواع جديدة من بوابات الأمان. وطوَّرت شركة " تشاينا تيك غلوبال" (China Tech Global)، ومقرُّها هونغ كونغ، مقصورة تعقيم متنقلة تحاول بيعها للمطارات. ويقول سامي تسوي الرئيس التنفيذي للشركة: "إنَّ بإمكان المقصورة إزالة مسببات الأمراض من الجسم والملابس في غضون 40 ثانية أو أقل". ويضيف: "تشعر ببعض الهواء البارد ينساب على جسدك، وبعض الرذاذ .. لكنَّك لا تشعر بالبلل".

عولمة مختلفة

عندما أغلقت المصانع الصينية أبوابها في بداية تفشي الوباء، أثارت موجات من الصدمة عبر سلاسل التوريد في كلِّ مكان، وجعلت الشركات والحكومات تعيد النظر في اعتمادها على القوة التصنيعية في العالم (الصين).

فعلى سبيل المثال، تعدُّ "إن ايه- كيه دي دوت كوم" ( NA-KD.com) السويدية جزءاً من صناعة التجزئة المزدهرة "للأزياء السريعة" التي تتماشى مع اتجاهات وسائل التواصل الاجتماعي بدلاً من المواسم التقليدية.

وبعد توقٌّف عمليات التسليم هذا العام، حوَّلت الشركة بعض الإنتاج من الصين إلى تركيا، كما تقول جوليا أسارسون، رئيسة قسم الجمارك والواردات.

وهذا مثال على تعديل العولمة دون التراجع أو الانسحاب من السوق.

وفي مناطق أخرى، قد يشجع الوباء السياسيين الذين يقولون إنَّ من الخطر الاعتماد على واردات السلع الحيوية للأمن القومي؛ إذ اتضح أنَّها تشمل أجهزة التنفس الصناعي، والأقنعة خلال العام الجاري.

التحول نحو البيئة الخضراء

قبل تفشي كورونا، كان دعاة حماية البيئة يتأمَّلون في نظريات بلوغ ذروة النفط؛ أي فكرة أنَّ ظهور السيارات الكهربائية يمكن أن تضعف بشكل دائم الطلب العالمي على النفط أحد أكثر أنواع الوقود الأحفوري المسببة للتلوث.

ولكن عندما شهد عام 2020 توقف حركة الطيران، وبقاء الناس في منازلهم، أدركت شركات النفط الكبرى، مثل "بريتش بتروليوم" وجود تهديد حقيقي من العالم الذي أصبح يتبنى مواقف جادة حول تغير المناخ.


وأعلنت الحكومات من ولاية كاليفورنيا إلى المملكة المتحدة عن خطط لحظر بيع سيارات البنزين، والديزل الجديدة مع حلول عام 2035. وانتخب جو بايدن رئيساً للولايات المتحدة عندما وعد إبان حملته الانتخابية أنَّ بلاده ستنضمُّ إلى اتفاقية باريس.