رئيس تنفيذي وملياردير جديد في "وول ستريت" يهزم منافسيه في أفضل سنة له

المصدر: بلومبرغ
المصدر: بلومبرغ
تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

كانت المناشف النظيفة قد وُضعت للتوّ على مقربة من المياه الزرقاء النقية، وكأس المارغريتا الحار ينتظره، حين رنّ هاتف ريتش هاندلير الذي كان يُمضي إجازته في جزر تركس وكايكوس في المحيط الأطلسي.

قاطع مدير تنفيذي مرتبك يعمل في مجموعة "جيفريز فايننشيال" (Jefferies Financial Group) إجازة الرئيس التنفيذي من أجل مناقشة الفوضى التي تسبب بها أحد العملاء، وهو بيل هوانغ، مدير شركة "أركيغوس كابيتال" (Archegos Capital). أجاب هاندلير الموظف بأنه سوف يذهب ليجلب مشروبه، وحين يعود يجب أن يكون قد جرى التخلص من أسهم "أركيغوس"، على أن يُبلَغ بحجم الخسائر.

اقرأ أيضاً: أمريكا وأوروبا تدرسان قواعد جديدة للوساطة المالية بسبب "أركيغوس"

قال هاندلير: "قضيت الأسبوع كله وأنا أفكر أنني أحمق غير كفؤ"، في إشارة إلى الوقت الذي قضاه قلقاً حيال الضربة التي تلقاها في مارس، والتي كبّدته خسارة بنحو 30 مليون دولار. لكن "سرعان ما بدأت الأخبار تتوالى مساء الأحد، وأدركت أننا ربما لم نكن حمقى تماماً"، فقد تسبت "أركيغوس" بخسائر تجاوزت 10 مليارات دولار لحفنة من المصارف.

أفضل من مافسين كبار

لم يقتصر نجاح "جيفريز" على تجنب هذا الإخفاق، بل يسجل البنك الاستثماري حالياً أفضل سنة له على الإطلاق، فقد ارتفع سهمه بنسبة 58% في عام 2021، متجاوزاً منافسيه الأكبر حجماً مثل "غولدمان ساكس" و"مورغان ستانلي" و"جيه بي مورغان تشيش آند كو".

وبينما تفتقر مجموعة "جيفريز" إلى مجالات الأعمال التي تساعد شركات "وول ستريت" الأخرى على مضاعفة حجمها، فإنها منغمسة في قطاع التمويل العالمي الأكثر رواجاً هذه الأيام، والمتمثل في مساعدة الشركات على دخول أسواق رأس المال الواسعة المربحة، والتنقيب عن الصفقات.

ساعد تحليق أسعار الأسهم على إدخال هاندلير، الذي يُعتبر من أقدم الرؤساء التنفيذيين في القطاع المصرفي، إلى النادي الحصري لأصحاب المليارات. ففي "وول ستريت" تتركز حالياً مثل هذه الثروات الطائلة لدى شركات الاستحواذ وصناديق التحوط، ليس لدى مدير تنفيذي لمصرف تُتداول أسهمه في البورصة. ومن الاستثناءات النادرة لهذه القاعدة جيمي ديمون من "جيه بي مورغان"، الذي أمضى أكثر من 15 سنة في بناء أكبر مؤسسة إقراض وأكثرها ربحية في الولايات المتحدة.

رسم هاندلير البالغ من العمر 60 عاماً مساراً زاهياً خاصاً به، عارضاً كلّ شيء، من الجيد إلى الغريب وكلّ ما بينهما، أمام العالم الأجمع، بدءاً من رسائله الفلسفية المتكررة التي يوجهها إلى الموظفين والعملاء، إلى منشوراته الغريبة على "إنستغرام"، حتى فيديو له وهو يأخذ وضعية مشابهة للمغنية سيلينا غوميز ويزمّ شفتيه مثلها.

شارك هاندلير منشوراً مؤخراً على "إنستغرام" يُظهِر مشاهداته فيما ينزل نحو مهبط اليخت الضخم المملوك من أحد عملائه، لينتقل الفيديو بعدها ليظهر هاندلير وهو يقفز مبتهجاً على الترامبولين، فيما يقوم بتمرين رياضي خاص، محاطاً بمياه الأطلسي البراقة (انتهت صلاحية منشوره، إلا أن النادي الرياضي أعاد نشر المقطع المصور بنسخة معدلة).

اقرأ المزيد: بسبب "أركيغوس".. هيئة البورصات الأمريكية تخطط لمزيد من الإفصاحات عن "المقايضات"

قال تيلمان فيرتيتا، الذي كان قد استضاف هاندلير في عطلة نهاية الأسبوع تلك على متن يخته الراسي في الباهامس: "نظرت إلى ذلك الفيديو وضحكت، وفكرت بيني وبين نفسي: هذا هو ريتش". وأضاف: "لمجرد كونك مصرفياً، ليس بالضرورة أن تكون ذا شخصية قاسية".

تشمل إمبراطورية فيرتيتا كازينوهات ومطاعم، كما يملك فريق "هيوستن روكيتس". وقد شكّل اللقاء على متن اليخت مناسبة من أجل التحضير لصفقة أخرى، ففيرتيتا يعتبر هاندلير واحداً من أعزّ أصدقائه، ويعزو إليه الفضل في بناء "قوة هائلة" قادرة على منافسة الخصوم الأقدم في المجال.

قال فيرتيتا مازحاً: "حين نجلس ونتحدث خلال الليل، أشعر بأن ريتش يتكلم بتفاخر لمجرد أنه بات مليارديراً الآن، فأشير إلى بياناتي المالية وأعيد تحجيمه".

من جهته، رفض هاندلير الحديث عن ثروته. وفي إشارة إلى الفيديو الذي يقلد فيه غوميز ويمثّل فيه أنه يسعى إلى أن يستولي على وظيفتها، أوضح أنه جاء في إطار إعلان لجمعية تُعنى بالمحافظة على الذئاب.

يُذكر أن أشخاصاً مطلعين هم من تحدثوا عن الخسائر الناجمة عن " أركيغوس"، فيما رفض هاندلير الكشف عن الرقم.

تلميذ ميلكن

في بداية مسيرته المهنية، كان هاندلير المتحدر من نيوجرسي واحداً من تلامذة مايكل ميلكن الأكثر تفانياً. وبعد انهيار إمبراطورية "ملك السندات الرديئة"، رفض هاندلير العمل في المصارف الكبرى التي تضمن تقاضيه مرتباً عالياً، وفضّل الانضمام إلى "جفيريز"، فقد جذبته إمكانية أن يحتفظ بجزء من أرباح مجموعته. استغل هذا الاتفاق، وتمكّن خلال ثلاثة عقود من امتلاك أكثر من 7% من الشركة التي تتخذ من نيويورك مقراً لها. وتشكل هذه الملكية اليوم الجزء الأكبر من ثروته، وتضاف إليها المكافآت النقدية ومصالحه في مشروعات عقارية، وحصصه في شراكات خاصة، ما أسهم في تجاوز ثروته مليار دولار، حسب مؤشر "بلومبرغ" لأصحاب المليارات.

بقميص البولو الاعتيادي المنسق مع سروال باللون الكاكي، جلس هاندلير يتحدث، فيما راح تمثال إيلي مانينغ هزاز الرأس يومئ موافقاً. فتكلم عن الانتصارات التي حققها والمظالم التي لحقت به، ثم دافع عن نفسه بشراسة لدى تذكيره كيف جرى تجاهل "جيفريز" لفترة طويلة والتعامل معها كمصدر إزعاج من قِبل المنافسين الأكبر حجماً.

قال هاندلير: "لطالما كنّا الشركة التي يتمنّون أن تختفي". وأضاف: "أحب أن أسمعهم يقولون إننا لن نصبح مثلهم قَط. فبالنسبة إليهم، نحن الشركة رقم 497. استمروا في الاستهانة بنا، استمروا في ازدرائنا، وسوف نستمر في تقديم الأفضل لعملائنا".

بعض الأرقام عزيز على قلبه، بينها القفزة الهائلة التي حققتها الإيرادات الناجمة عن الاستشارات وأسواق رأس المال التي سجلت ارتفاعاً من 90 مليون دولار، حين تسلّم مهامّه، إلى أكثر من 4 مليارات دولار اليوم. واللافت أن 69% من نشاط المجموعة المصرفي ناجم عن إيرادات متكررة، ما يثبت قدرتها على بناء علاقات متينة تدوم طويلاً.

علّق دوغ سيفو، الرئيس التنفيذي لشركة "فيرتو فاينانشل" (Virtu Financial) قائلاً: "إذا أرسلت رسالة نصية إلى ريتش هاندلير ولم يتصل بي خلال 10 دقائق، فسوف أُصدم". ولدى تحديه للقيام بذلك، ما كان من سيفو إلا أن أرسل رسالة إلى هاندلير قال له فيها "اتصل بي"، وبالفعل اتصل هاندلير به بعد 30 ثانية. قال له سيفو إنه مجرد اختبار، "ويمكنك أن تعود إلى العمل".

لازانيا سبرنغستين

لا يملّ هاندلير من تقديم نفسه مجرد رجل عادي من نيوجرسي، ويستاء من تصويره تاجراً في عالم الشؤون المالية رفيعة المستوى.

قال هاندلير: "لا يوجد عالم للشؤون المالية رفيعة المستوى، ما هذا إلا أسطورة". وأضاف: "كنت أبيع مكانس كهربائية وأطرق على الأبواب لأبيع بوالص التأمين على الحياة حين كنت في الجامعة. أتيت إلى المكتب اليوم من وسط المدينة على متن قطار الأنفاق، واضطررت إلى إقناع الرجل الذي كان جالساً بقربي بأن يضع الكمامة. هذا عالم الشؤون المالية رفيع المستوى الحقيقي الذي أعيش فيه".

يتحدث هاندلير بكثير من الذهول عن طبق اللازانيا الذي تناوله مرّة حين كان يزور قصر بروس سبرينغستين، حتى إنه يضع صورتين على مكتبه، واحدة مع عائلته والثانية مع سبرنغستين. ويملك غيتاراً موقّعاً من الموسيقيّ الشهير، كتب عليه: "من ابن نيوجرسي إلى ابن نيوجيرسي آخر".

في إحدى المرّات، أرسل مدير مبنى مقرّ شركة "جيفريز" السابق في كونيتيكت مذكرة إلى جميع المستأجرين، طلب فيها منهم التوقف عن ارتداء السراويل القصيرة والصنادل في أثناء الحضور إلى المكتب. وكان هاندلير المعني بذلك. ومع ذلك، هاندلير لا يخجل من التفاخر بثروته الطائلة. قال: "أدفع كثيراً من الضرائب. دققوا بعوائدي 27 مرة، وفي كلّ مرة يدققون أسترجع بعض المال". وأضاف: "أرجو لو أن المحاسبين العاملين لديّ لم يكونوا متشدّدين إلى هذا الحد".

أشار هاندلير أيضاً إلى سجلّ شركته في الأعمال الخيرية، والدور الذي تلعبه في مساعدة الشركات على النموّ، وبالتالي في توظيف مزيد من الأشخاص. ويذكرنا ذلك بما كان يروّج له ميلكن في الثمانينيات.

تحب الشركات المنافسة أن تشير إلى خوض "جيفريز" صفقات خطرة يتجنبها الآخرون. والجانب المشرق في ذلك هو أنه حين تحتاج الشركات الرائدة إلى مساعدة فهي تتجه أولاً إلى "جيفريز"، إلا أن هذه الأحكام المسبقة تزعج هاندلير.

يقول: "حين كان موظفونا أنفسهم يعملون في الشركات المنافسة، كان يُنظر إليهم على أنهم مصرفيون استثماريون يبرمون صفقات ذات جودة عالية. ولكن ما إن ينضموا إلينا حتى تتحول النظرة إليهم على أنهم دون المستوى".

نبرة صوت هاندلير هي نتيجة العمل الجاد طَوال ثلاثين سنة، سعى خلالها إلى إقناع المشككين بأخذ "جيفريز" على محمل الجدّ. وانطلاقاً من أسلوبه الشمولي، ليس من المستغرب أن يأخذ أي أمر يتعلق بالشركة على صعيد شخصيّ.

يتضمن النهج الذي يتبعه تشجيع عملائه على مشاركته صف الترامبولين أو مشاركته في غناء الكاريوكي، حتى إنه في إحدى المرات جلب أمّه معه لحضور اجتماع عمل في فلوريدا بما أنها تقيم في المنطقة.

قال سيفو إنّ أول ما يجب أن تدركه هو أنه "لا يمكنك قطّ أن تترك أمك اليهودية خلفك"، إلا أنه أضاف: "مع ذلك، لا يوجد رئيس تنفيذي آخر في (وول ستريت) كان ليجلب أمه إلى فعالية يستضيفها عميل مهم".

حققت "جيفريز" النسبة الأكبر من أرباحها من خلال الاستفادة ممّا يعرف بالسوق المتوسطة. بالتالي، حين ضغطت الهيئات المنظِّمة على المصارف الكبرى من أجل التخفيف من التمويل بالإقراض للشركات، نجحت "جيفريز" في كسب حصة من السوق وتمكنت من الحفاظ عليها.

عراك بالسكاكين

بالطبع مرّ هاندلير ببعض اللحظات المريعة، ففي أعقاب انهيار المصارف الاستثمارية في عام 2008، شككت وكالة "إيغان جونز" (Egan Jones) للتصنيف الائتماني في ما إذا كانت "جيفريز" مثقلة بالديون، ما أثار القلق في سوق الأسهم. هاندلير الذي لا يزال يتذكر هذه الحادثة بكثير من الغضب، عمد إلى إدماج "جيفريز" مع التكتل الاستثماري "شركة لوكاديا ناشيونال" (Leucadia National) التي تملك أصولاً في مجالات متنوعة، من صناعة النبيذ إلى صناعة اللحوم والعقارات، ما مكّنه من تعزيز قاعدته الرأسمالية. وقد عمل هاندلير في خلال السنوات القليلة الماضية على التخلص من الأصول غير المالية.

اليوم، المخاطر التي تواجهها "جيفريز" هي ذاتها المزايا التي مكّنتها من التقدم على غيرها من الشركات خلال فترة الجائحة، وتتمثل في السؤال: كيف يمكن لبنك استثماري ينشط في نوع واحد من المنتجات أن يحافظ على النموّ بعد انتهاء الطفرة؟ إذ إن "جيفريز" تفتقر إلى الأقسام الموازية التي تتمتع بها الشركات المنافسة الأكبر حجماً، مثل قسم لإدارة الثروات الضخمة، أو إدارة أصول بقيمة ثلاثة تريليونات دولار، أو التعامل مباشرة مع العملاء. فهذه الأنشطة التجارية تساعد في العادة المصارف العملاقة على المحافظة على أرباحها في أوقات الركود في "وول ستريت".

لكن هاندلير يعتبر أن بساطة الشركة تمنحها أفضلية على الشركات المنافسة، بما أن ذلك يجنبها الاقتتال الداخلي المدمر الذي قد تعاني منه التكتلات المصرفية.

قال هاندلير: "ليس لدينا ثقافة أن فريق الدخل الثابت يكره فريق الأسهم، وكلاهما يكره فريق الاستثمار المصرفي". وأضاف: "في ظلّ الثقافة المضطربة القائمة في (وول ستريت)، حين تكون السنة سيئة، يندلع عراك بالسكاكين على المكافآت المتوافرة". وأضاف: "العمل ليس محصوراً بشخص واحد، لدينا فريق يعمل بكلّ جهد".

ولكن بالنسبة إلى رئيس تنفيذي عُيّن في منصبه في سن الـ39، وهو يشغله منذ 21 عاماً، لا بدّ من السؤال عن خليفته المحتمل. فتسليم القيادة أمر حافل بالتحديات، وقد يؤدي إلى تعطيل العمل، إذ إن "جيه بي مورغان" و"مورغان ستانلي" و"بنك أوف أميركا" تعمل تدريجياً على إعداد وتأهيل الخلفاء المحتملين للرؤساء التنفيذيين الذين سبق وأمضوا أكثر من عقد على رأس الهرم القيادي، إلا أن هاندلير يرى أنه بلغ عامه الستين للتوّ، وهو العمر الذي يتسلّم فيه الرؤساء التنفيذيون في العادة مناصبهم. وقال: "إذا شعرت أنني بقيت في منصبي أكثر من اللازم فإن الناس سوف يخبرونني، حتى إنني سأعرف قبلهم على الأرجح". وأضاف: "ومع ذلك، هل يبدو لكم أنني أرغب في التخلي عن منصبي؟".