التخفيضات الكبيرة في أعداد الموظفين التي قامت بها شركات الطيران حول العالم خلال الجائحة، تركت نحو 100 ألف طيار يعملون بالحدّ الأدنى، أو يجبرون على أخذ إجازات طويلة. المصدر: غيتي إيمجز

طيارون عادوا إلى التحليق.. لكن بمهارات أقل

المصدر: بلومبرغ
تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

بعد عودته من فترة نقاهة للتعافي من فيروس كورونا، نسيَ طيار يعمل في إحدى شركات الخطوط الجوية، أن يشغِّل المحرِّك الثاني للطائرة عند الإقلاع، وهو خطأ كان سيؤدي إلى كارثة لو لم يتم إيقاف الرحلة.

حادثة أخرى وقعت ايضاً لطيّار كان قد عاد لتوِّه إلى العمل بعد تسريحه لمدة سبعة أشهر خلال الوباء. في حين كان يستعد للهبوط في وقت مبكر من الصباح، أدرك متأخراً أنَّه لم يُنِزل إطارات الطائرة، فاضطر إلى إلغاء محاولة الهبوط على بعد 800 قدم (240 متراً) فقط من المدرج.

قبل أسابيع من ذلك، غادرت طائرة ركاب مطاراً مزدحماً، سالكة الاتجاه غير الصحيح، وفي هذه الحالة أيضاً، كان الطيّار يحلِّق للمرّة الأولى منذ أكثر من ستة أشهر.

اقرأ أيضاً: مجلس إدارة "بوينغ" يواجه دعوى حول تحطم طائرات 737 ماكس

حصلت كلّ هذه الأخطاء التي كادت أن تكون كارثية في الأشهر القليلة الماضية في الولايات المتحدة، مع عودة الطيارين إلى العمل. وفي كلّ هذه الحوادث، عزا الطيارون تشتت انتباههم إلى قلّة التحليق خلال وباء كورونا، إذ يعتبر الوباء الأكثر فتكاً منذ تفشي الإنفلونزا الإسبانية في عام 1918، وبالتأكيد؛ فهو الوباء الأول الذي يحدث فوضى عارمة في قطاع الطيران الدولي المزدهر.

جرس إنذار

تأتي هذه الحوادث في إطار العشرات من الأخطاء التي بلَّغ عنها سراً طيارون توقَّفوا عن العمل منذ بداية الوباء، و تمَّ تخزينها في قاعدة بيانات غير لافتة للانتباه، وهي مصممة لتبيان المخاطر على السلامة. ينشط برنامج المراقبة هذا والمموَّل من قبل إدارة الطيران الفدرالية منذ عقود عدّة، إلا أنَّه اليوم يدق جرس الإنذار مع عودة الطائرات إلى التحليق حول العالم.

اقرأ المزيد: "بوينغ" تكتشف عيباً جديداً في طائراتها من طراز "787 دريملاينر"

تقول شركة "أوليفر وايمان" (Oliver Wyman) الاستشارية، إنَّ شركات الطيران أجرت تخفيضات كبرى في عدد موظفيها، إذ بات نحو 100 ألف طيار يعملون بالحدّ الأدنى، أو يجبرون على أخذ إجازات طويلة. كما أنَّ الكثير من الطيارين لم يحلِّقوا منذ أكثر من 18 شهراً. ولكن، في ظلّ توسع حملات التلقيح التي أتاحت عودة حركة السفر، بدأ يزداد منسوب القلق من أن يؤدي تراجع الاحترافية والثقة بالنفس، أو ببساطة لحظة أي تشتت ذهني، إلى وقوع مأساة.

قال أوي هارتر، قائد طائرة "إيرباص إيه 380" لصالح شركة طيران "لوفتهانزا" الألمانية، الذي يشغل أيضاً منصب نائب الرئيس التنفيذي، ومعايير السلامة في الاتحاد الدولي لرابطات طياري الخطوط الجوية: "إنَّ الوضع حساس جداً، وآخر ما يحتاج إليه القطاع اليوم هو وقوع حادث سيئ".

قوانين غير كافية

في الوقت الذي بدأت فيه بعض شركات الطيران إعادة تدريب طياريها؛ فإنَّ شركات أخرى لم تقدِّم إلا "الحدّ الأدنى الضروري"، هذا إذا قدَّمت أي شيء يُذكر، بحسب هارتر الذي لم يحلِّق هو الآخر منذ فبراير عام 2020. وأضاف: "القوانين الناظمة الموجودة غير كافية".

هذا الأمر ليس خافياً على سلطات الطيران. فمنظمة الطيران المدني الدولي "إيكاو" (ICAO)، التي تحدِّد المعايير المعتمدة في القطاع، إلى جانب الاتحاد الدولي للنقل الجوي، كانا قد رصدا المخاطر التي تلوح في الأفق منذ أشهر. وقد أصدرت الهيئتان، إلى جانب الهيئة الناظمة الأوروبية الأعلى، إرشادات تدريبية مفصلة من أجل تمكين شركات الطيران من إعادة الطيارين المتوقِّفين عن العمل منذ فترة إلى التحليق مجدَّداً.

إلا أنَّ المقابلات التي أجريت مع طيارين من آسيا وأوروبا، بالإضافة إلى قاعدة بيانات تحتوي على سرديات مجهولة المصدر في الولايات المتحدة، تكشف عن درجات مختلفة من القدرات والثقة بالنفس في صفوف الطيارين العائدين إلى الخدمة، كما يشمل الأمر طيارين أتموا برامج إعادة التدريب.

يعود ذلك في جزء منه، إلى عدم إمكانية أي حصة تعليمية، أو نظرية افتراضية، أو أي تمرين يحاكي للطيران أن يخلق الضغوط الحقيقية التي يواجهها الطيارون في قمرة القيادة. كما أن هذه الاستعدادات لا تأخذ في عين الاعتبار الضغوط النفسية والعاطفية والمالية الناجمة عن الوباء التي ترزح تحتها طواقم الطيران.

خسائر ضخمة

كان قطاع الطيران قد تكبَّد خسائر مالية هائلة، قدِّرت بنحو 138 مليار دولار في العام الماضي وحده، ويتوقَّع أن تبلغ خسارته 52 مليار دولار هذا العام، بعد أن تسبَّب فيروس كورونا بتوقُّف حركة الطيران. وفي حين يحاول القطاع استعادة بعض من الإيرادات التي فقدها؛ فإنَّ إدارة مخاطر السلامة الناجمة عن الطيارين العائدين، تشكِّل عبئاً إضافياً يمكن لشركات الطيران الضخمة ذات الميزانيات الأكبر أن تتعامل معه بشكل أفضل من الشركات الأخرى.

اقرأ أيضاً: الولايات المتحدة تخفف قيود السفر براً مع كندا والمكسيك

جرى توثيق حجم هذه المشكلة جزئياً في نظام التبليغ الأميركي عن مخاوف سلامة الطيران، وهي قاعدة بيانات خاصة بحوادث السلامة، إذ يبلِّغ عنها الطيارون، وطواقم الطائرات، فضلاً عن المراقبين الجويين بشكل طوعي.

كان الطيار الذي حاول التحليق بمحرِّك واحد في شهر ديسمبر من العام الماضي، قد قال في تقريره، إنَّ تعافيه من الإصابة بفيروس كورونا "كان ثقيلاً على نفسيتي" وأسهم في "قلّة تركيزي". يُذكر أنَّ قاعدة البيانات لا تكشف عن اسم الطاقم، أو الخطوط الجوية، أو المطارات المعنية.

من جهتها، أشارت مؤسسة سلامة الطيران، وهي مجموعة غير ربحية تتخذ من فيرجينيا مقرَّاً لها، إلى أنَّها على اطلاع على الحوادث المذكورة في قاعدة البيانات، وتقوم بمراقبة الوضع على الصعيد الدولي. وقال رئيس المؤسسة ومديرها التنفيذي، حسن شهيدي: "كلما اكتشفنا أكثر عن مسائل السلامة، نصبح أكثر قدرة على الحدِّ من المخاطر".

في قطاع لا مجال فيه لأيِّ خطأ مهني، تبدو المخاطر مرعبة. فعلى الرغم من أنَّ الأخطاء صغيرة، مثل التحليق لفترة وجيزة على ارتفاع غير مناسب، أو بسرعة غير مناسبة، أو عبر سلوك الاتجاه المعاكس على المدرج، إلا أنَّ هذه الأخطاء التافهة عينها، سبق أن أدت إلى بعض أسوأ الكوارث في عالم الطيران.

الوباء.. وتزايد الحوادث

المقلق في الأمر هو أنَّ عدد الحوادث الناجمة عن تراجع مهارة الطيارين، ارتفع بشكل شبه فوري بعد أن بدأ الوباء يحدث فوضى في الجدول الزمني للرحلات الجوية التجارية، بحسب دراسة أجرتها في فبراير جامعة "أمبري – ريدل" للطيران في أريزونا.

رصدت الأستاذة المساعدة في الجامعة، راجي أولاغاناثان، تقريراً واحداً من هذا النوع في قاعدة البيانات خلال فترة 8 أشهر قبل مارس 2020، ثمَّ عبر 10 تقارير مماثلة في الأشهر الثمانية التي تلت. وكلّ تلك التقارير أشارت إلى مشكلات في الهبوط بالطائرة. وفي واحدة من الحالات؛ تحدَّث الطيار عن الاقتراب من المدرج، وهو على ارتفاع أعلى ممّا يجب. وكتب: "لم أكن على الارتفاع الذي أرتاح إليه".

أوضحت أولاغاناثان أنَّ ملاحظاتها تظهر أنَّه يتوجب على شركات الطيران، أن تثقف طياريها حول مفهوم تراجع المهارات، وأن تعدَّ برامج تدريب مناسبة. من جهة أخرى، يتعيّن على أفراد الطاقم أن يعبِّروا بصراحة عن قدراتهم. وقالت في مقابلة: "على الطيارين أن يقيِّموا بشكل صريح مهاراتهم، ومدى ثقتهم بنفسهم، مع عودتهم إلى العمل".

نظراً للمخاطر الواضحة التي تنشأ عن الطيارين من ذوي المهارة العادية، حتى قبل فيروس كورونا؛ فإنَّ وظيفتهم تعتبر واحدة من أكثر الوظائف خضوعاً للقوانين الصارمة في العالم. وفي العادة، تلزم منظمة الطيران المدني الدولي التابعة للأمم المتحدة الطيارين، بالخضوع إلى اختبارَيّ مهارة كلّ 12 شهراً، والقيام بثلاث عمليات إقلاع وهبوط كلّ 90 يوماً، كما يخضعون لفحوص على أيدي أطباء متخصصين في طبِّ الطيران.

تشديد القواعد من جديد

لكن في ظلِّ الوباء، منحت المنظمة شركات الطيران مرونة أكثر لجهة الالتزام بهذه القواعد، بما أنَّ وقع الوباء كان مدمِّراً بما فيه الكفاية، شرط أن تحرص هذه الشركات على التزام معايير السلامة الأخرى. لكن مع استئناف قطاع الطيران نشاطه؛ قالت المنظمة التي تتخذ من مونريال مقرَّاً لها، إنَّها أصبحت أقل تساهلاً على هذا الصعيد.

قال إيان نولز، المسؤول التقني في مكتب الملاحة الجوية في المنظمة، الذي يقود الاستجابة لهذه الأزمة: "هناك مرحلة لا يعود فيها من الممكن التغاضي عن المعايير. فهذه المعايير معتمدة من أجل أسباب محدَّدة".

مع ذلك؛ فإنَّ منظمة الطيران المدني الدولي ما تزال تمنح 41 إعفاءً من المعايير لـ11 دولة، من بينها: كمبوديا، ونيجيريا، وباكستان، بحسب ما ورد على موقعها الالكتروني. مثلاً، سمحت لشركة طيران "إير نيوديني" في بابوا غينيا الجديدة، أن تباعد بين اختبارات مهارة الطيران مدة 12 شهراً، بما أنَّ القيود الناجمة عن وباء كورونا تصعِّب عليها الوصول إلى تجهيزات محاكاة الرحلات الجوية الموجودة في أستراليا وسنغافورة. في المقابل، على الطيارين العاملين في الشركة أن يخضعوا للمزيد من التدريب النظري والعملي من أجل التعويض عن ذلك، وفق ما جاء في تفاصيل قرار الإعفاء.

يقرُّ نولز الذي عمل طياراً لصالح الخطوط الجوية البريطانية قبل أن ينضمَّ إلى منظمة الطيران المدني الدولي، أنَّ التزام شروط المنظمة ليس ضمانة لجودة لأداء. وقال: "ربما ستظلّ تحتاج إلى ذلك الدفع الإضافي". وأضاف: "ثمَّة نوع من النقص في القدرات والثقة في النفس الذي ينشأ حتى عند المحافظة على الحدِّ الأدنى المطلوب".

هذا العنصر المرتبط بالاختلافات لدى البشر، هو ما يصعِّب على الجهات الناظمة السيطرة على المخاطر الناشئة عن الطيارين الذي عادوا إلى العمل مؤخراً، بالإضافة إلى الآخرين الذين سيعودون قريباً.

هذا، ويسجل نشاط الطيران التجاري في الولايات المتحدة تراجعاً بنسبة 17% عن معدلاته الاعتيادية، فيما يسجل تراجعاً بواقع 35% في أوروبا الغربية، بحسب المزوِّد العالمي لبيانات السفر "أو إيه جي". وهذا الانخفاض أكبر حتى في الشرق الأوسط، وجنوب أفريقيا، وجنوب شرق آسيا، إذ ما تزال الكثير من الحدود الدولية مغلقة.

الذاكرة والأخطاء

في مقابلات أجريت معهم مؤخراً، تحدَّث بعض الطيارين العائدين إلى الخدمة عن فقدان ذاكرتهم العضلية التي كانت تساعدهم في السابق على القيام بالإجراءات الروتينية خلال الرحلات الجوية من دون أن يضطروا إلى التوقُّف. وتساءل بعض الطيارين عمَّا إذا كانوا يتمتَّعون بذهن صافٍ بما يكفي من أجل التعامل مع أيِّ أزمة قد تطرأ خلال الرحلة.

من جانبه، أوضح طيار مخضرم في خطوط "كانتاس إيرويز" (Qantas Airways) الأسترالية، رفض الكشف عن اسمه، أنَّ زملاءه الذين لم يحلِّقوا منذ ستة أشهر، يرتكبون عادةً أخطاء صغيرة في الإجراءات لدى عودتهم إلى العمل.

فقد ينسون مثلاً، إدخال البيانات في حاسوب الرحلة في الوقت الملائم، أو يهبطون بالطائرة بشكل أقوى ممَّا يلزم، بحسب الطيار. فبعض الإجراءات التي كانت في السابق فورية وغريزية تتطلَّب المزيد من الوقت والتفكير، وهذا على الرغم من خضوعهم لتمارين تذكيرية خلال محاكاة الطيران.

قال أميت سينغ، الرئيس السابق لبرنامج تدريب الطيران في شركة الطيران الهندية "إندي غو" (IndiGo) الذي أنشأ المنظمة غير الربحية "سايفتي ماترز" (Safety Matters) المتخصصة في شؤون السلامة، إنَّه "في حال تعطَّل المحرِّك، أو حصل حريق، يجب أن تطبِّق إجراءً معيناً، ولكن إذا لم تحلِّق منذ فترة طويلة، قد تستغرق بعض الدقائق أو الثواني الإضافية لتقوم بذلك".

مع ذلك؛ على الرغم من الأخطاء التي يرتكبها الطيارون، يصرّ اتحاد النقل الجوي الدولي "إياتا" (IATA)، والهيئات الناظمة الكبرى، وبعض أكبر شركات الطيران في العالم، على أنَّ المخاطر تحت السيطرة.

قال مدير شؤون السلامة في اتحاد النقل الجوي الدولي، مارك سيرل: "في ظلِّ الأزمة، تمَّ تعزيز وتشديد الإجراءات الرامية للتخفيف من المخاطر التي نشأت خلال الـ18 شهراً الماضية".

الكشف عن المخاطر

أعلنت إدارة الطيران الفيدرالية في الولايات المتحدة في بيان أنَّ "نظام الإشراف على السلامة الشامل المدعوم بالبيانات، يتيح للوكالة الكشف عن المخاطر، ومعالجة المشكلات مبكراً، ومن ضمنها المخاطر التي قد تنشأ عن الطيارين العائدين إلى العمل بعد الإجازات القسرية الناجمة عن وباء كورونا".

تؤكِّد "أميريكان إيرلاينز" (American Airlines)، و"دلتا إيرلاينز" (Delta Air Lines)، وهما من أكبر شركات الطيران في الولايات المتحدة، أنَّ التدريبات التي يخضع لها الطيارون لديهما، تتجاوز المتطلَّبات التي تفرضها الجهات الناظمة.

من جانبها، أقرَّت وكالة سلامة الطيران في الاتحاد الأوروبي أنَّها اكتشفت "عدداً صغيراً" من الحوادث المرتبطة على الأرجح بمهارة الطيارين. وفي حين حذَّرت في بيان صادر في أغسطس من المخاطر التي قد تنجم عن تراجع قدرات التحليق، ولو بشكل طفيف، إلا أنَّها لم ترَ حاجة إلى اتخاذ إجراءات إضافية.

إلا أنَّ بعض الطيارين الذين يعودون إلى الخدمة بعد التوقف لفترة طويلة، كادوا بالفعل أن يتسبَّبوا بكوارث. ففي سبتمبر من العام الماضي، انحرفت طائرة تحمل 307 ركاب تابعة لشركة "ليون إير" (Lion Air) عن المدرج بعد هبوطها في مدينة ميدان في إندونيسيا. وقد تبيَّن أنَّ الطيار كان قد حلَّق لأقل من ثلاث ساعات خلال الـ90 يوماً السابقة.

لم يتعرَّض أي أحد للأذى في الحادث، مع العلم أنَّ حوادث الطيران الخطرة أمر نادر جداً في العادة. وبحسب أحدث تقرير عن السلامة صدر عن اتحاد النقل الجوي الدولي، تمَّ تسجيل حادث كبير واحد فقط لكلِّ 5 ملايين رحلة جوية بين عامي 2016، و2020.

مزيد من التدقيق

إلا أنَّ الأدلة تشير إلى وجود حاجة للمزيد من التدقيق والمراقبة. غير أنَّ الكثير من الإجراءات الرامية لمعالجة المشكلات المتعلِّقة بتراجع مهارة الطيارين، مثل تكليف طاقم أكثر خبرة لتولي المهام في قمرة القيادة، أو القيام بمزيد من تمارين محاكاة الطيران، تفرض تكاليف إضافية قد لا تتمكَّن شركات الطيران التي ترزح أصلاً تحت ضغوط مالية من تحمُّلها.

شركة "كانتاس" التي تتخذ من سيدني مقرَّاً لها، وصاحبة أقوى ميزانية بين شركات الطيران على الرغم من الوباء، خصصت فريقاً كاملاً لمعالجة مشكلة تراجع مهارة الطيارين. وقد أجرى الفريق بحوثاً حول وظائف أخرى تتطلَّب مهارات مماثلة لتلك التي يتمتَّع بها الطيارون، وتمكَّنوا من إيجاد أوجه شبه مفيدة في مجال الجراحة.

إذ أظهرت البحوث أنَّ المهارات الحركية الدقيقة للجراحين، بقيت راسخة على الرغم من عدم دخولهم غرفة العمليات لفترة طويلة. إلا أنَّ الأمر اختلف حين تعيَّن عليهم أداء قائمة من الإجراءات، أو تطبيق معارف مكتسبة سابقاً.

استناداً إلى ذلك؛ قررت شركة "كانتاس" إخضاع طياريها من قائدي طائرات "بوينغ 737" لدورة دراسية لمدة ستة أيام قبل العودة إلى التحليق، على أن يشارك قبطان مدرب رفيع المستوى في رحلتهم الأولى. كما يخضع طيارو الـ "إيه – 380" ليومين من التدريب على الأرض، وفي محاكي الطيران كلّ 90 يوماً، على الرغم من أنَّ "كانتاس" لم تستأنف بعد رحلات الطائرات الضخمة.

قال كبير الطيارين في "كانتاس" ديك توبيانو: "أدركنا مبكراً جداً أنَّ علينا التفكير بشكل مختلف"، وأضاف: "أظهرت البيانات أنَّ طيارينا يعودون، وهم يتمتَّعون بالمهارات، وبالثقة اللازمة لأداء وظيفتهم بأمان".

أسوأ أداء

في المقابل، أعرب قبطان مخضرم في شركة "ليون إير" في إندونيسيا، رفض الكشف عن اسمه، عن قلقه الشديد حيال قدرات زملائه على التحليق، لدرجة أنَّه قام بتقليص ساعات الطيران الخاصة به. وتعدُّ إندونيسيا صاحبة أسوأ سجل على صعيد سلامة الطيران، فقد شهدت 105 حوادث أدت إلى مقتل 2356 شخصاً، مما يعتبر أسوأ من سجل المكسيك وفنزويلا، بحسب بيانات شبكة سلامة الطيران من عام 1945 حتى شهر أكتوبر الحالي.

قال القبطان، إنَّه اضطر في إحدى المرات في منتصف العام الماضي، إلى أن يتولى السيطرة على طائرة تقترب من مطار أحمد ياني الدولي في وسط جاوا في سمارانغ. فالطيار المبتدئ الذي كان يقود الطائرة، لم يحلِّق منذ ثلاثة أشهر، ولم يلاحظ أنَّ الطائرة لم تكن متصلة بنظام إرشاد الهبوط في المطار. ولم تجب "ليون إير" على طلب التعليق.

قد يبدو الأمر بسيطاً، إلا أنَّ عدد عمليات الهبوط التي تمَّت بشكل سيئ حول العالم بات مرتفعاً جداً، وهي تحصل بوتيرة عالية، فقد تضاعفت نسبتها ثلاث مرات تقريباً بالمقارنة مع معدلات ما قبل الوباء، لتصل إلى 35 من أصل كلّ ألف رحلة حتى مايو عام 2020، بحسب برنامج التبليغ عن الحوادث بسرية في بريطانيا.

هذا الأمر مهم، بما أنَّ أكثر من نصف إجمالي حوادث الطيران التي شهدت سقوط ضحايا بين عامي 2011 و2020 حصلت مع اقتراب الطائرة من وضعية الهبوط، أو خلال عملية الهبوط بحدِّ ذاتها، بحسب البحوث التي أجرتها شركة "بوينغ". فحين يكون الارتفاع منخفضاً، لا يحظى الطيارون بمجال كافٍ، وبالتالي؛ لا يكون لديهم الوقت الكافي لتصحيح أي خطأ أو عطل ميكانيكي.

أخطاء قاتلة

بالفعل، يظهر تأثير الأخطاء التي يتمُّ التبليغ عنها ضمن قاعدة بيانات نظام التبليغ الأميركي عن مخاوف سلامة الطيران في بعض أفظع حوادث الطيران.

في يناير من العام الماضي، نسي الطيار المساعد على متن خطوط جوية أميركية لم يكن قد حلَّق منذ ثلاثة أشهر، تشغيل نظام إزالة الجليد عن مجسَّات السرعة الجوية. وكان تجلُد مثل هذه المجسَّات قد تسبَّب في عام 2009 بتحطم طائرة "إير فرانس" الرحلة رقم 447، وهي في طريقها من ريو دي جانيرو إلى باريس، مما أدى إلى مقتل كل الركاب الذين كانوا على متنها، وعددهم 228 راكباً.

بالنسبة إلى هارتر، الطيار على متن "لوفتهانزا"؛ فإنَّ الحلَّ يكمن في الذهاب بمعايير كفاءة الطيارين أبعد حتى من المعايير التي كانت سائدة قبل الوباء. وبدل تخصيص ما يكفي من التمرين من أجل الامتثال للقواعد الناظمة؛ على شركات الطيران والهيئات الناظمة أن تقدِّم للطاقم كلّ ما يحتاج إليه لكي يشعر بالراحة مجدَّداً، سواء كان ذلك عبر تخصيص المزيد من الوقت في محاكاة الطيران، أو الاعتراف بأنَّ ثمَّة عاملاً نفسياً لا يمكن أن يعالجه بالشكل الملائم من خلال فرض المزيد من القواعد.

قال هارتر: "هذا هو الطريق إلى الأمام، وهو ليس مكتوباً في أيِّ قواعد ناظمة".