صندوق النقد الدولي دفع مليارات للإغاثة من الوباء.. أين كل هذه المساعدات؟

ممرضة تحضّر جرعة من لقاح "أسترازينيكا" ضد كوفيد-19، في إحدى العيادات في كينشاسا، عاصمة جمهورية الكونغو الديمقراطية
ممرضة تحضّر جرعة من لقاح "أسترازينيكا" ضد كوفيد-19، في إحدى العيادات في كينشاسا، عاصمة جمهورية الكونغو الديمقراطية المصدر: رويترز
المصدر: بلومبرغ
تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

عندما تفشى وباء كوفيد حول العالم العام الماضي، حاول صندوق النقد الدولي مساعدة 87 دولة على تجاوز الأزمة عبر تقديم قروض طارئة بقيمة 118 مليار دولار.

في تغريدة نشرتها بتاريخ 15 أبريل 2020 عبر موقع "تويتر"، دعت المديرة العامة لصندوق النقد الدولي، كريستالينا جورجيفا، الحكومات إلى "فعل كل ما في وسعها" للتصدي للوباء، "لكن مع التأكد من الاحتفاظ بفواتير إنفاق المال".

الآن حان وقت الحساب، فقد طلب صندوق النقد الدولي من دول عديدة إجراء عمليات مراجعة محاسبية مستقلة لكيفية إنفاق أموال الطوارئ قبل الموافقة على منحها قروضاً جديدة. لكن الفواتير في إفريقيا وأمريكا اللاتينية ومناطق أخرى غير منطقية، كما أن بعض المسؤولين في هذه الدول انتهى بهم المطاف في السجن.

اقرأ المزيد: كورونا تقصّر أعمار الرجال الأمريكيين لأكثر من عامين

اختلاسات بمئات الملايين

لم تُنشَر نتيجة عمليات المراجعة الحسابية إلا من قِبل عدد قليل فقط من الدول، وهذه البيانات المتاحة تشير إلى اختلاس مئات الملايين من الدولارات من أموال المساعدات.

عن ذلك يقول ثيو فان دير ميروي، مسؤول السياسات المعني بمكافحة الفساد وغسل الأموال في منظمة الشفافية الدولية، وهي منظمة تتخذ من برلين مقراً لها، وتعمل في مجال تعزيز المساءلة والنزاهة: "هذا يعني استخدام قدر أقل من المال في شراء أجهزة التنفس الصناعي وإقامة المستشفيات المتنقلة ومعدّات الوقاية الشخصية، وهو ما أدى إلى خسارة أكبر في الأرواح البشرية".

اقرأ أيضاً: "النقد الدولي": 4 عوامل تهدد نمو الاقتصاد العالمي

استشهد فان دير ميروي بتقديرات الأمم المتحدة التي تشير إلى أن ما يتراوح بين 10% إلى 25% من كل الأموال المنفقة على المشتريات الحكومية حول العالم يتبدد بسبب الفساد حتى في الظروف العادية.

لقد تتبعت منظمة الشفافية الدولية أوجه إنفاق أموال الطوارئ التي قدّمها صندوق النقد الدولي منذ بداية الوباء. ويشير فان دير ميروي إلى أن المنظمة لم تجد حتى الآن سوى أدلة "توضح تبديد قدر كبير من هذه الموارد بشكل مثير للقلق"، في حين أن صندوق النقد الدولي ليست لديه أرقام دقيقة عن مقدار الأموال المهدرة.

يقول جيري رايس، المتحدث باسم صندوق النقد الدولي، إنّ الدول التي تلقت أموال الطوارئ التزمت "تدابير حوكمة مصممة وفقاً لظروفها الخاصة" -مثل المراجعة الحسابية أو نشر بيانات الشراء- وما زال تطبيق هذه الالتزامات مستمراً.

مفاضلة بين الإصلاح والأرواح

مع ظهور الوباء، وجد صندوق النقد الدولي نفسه في مواجهة واحدة من أخطر المعضلات التي تواجه مجتمع التنمية، وبدأ يتساءل: هل يمكن صرف الأموال سريعاً دون ضمانات صارمة ضدّ الفساد مع أمل إنفاقها بشكل صحيح؟ أم تأخذ وقتك في إجبار الدول على إنشاء مثل هذه الآليات أولاً، وبالتالي خسارة الأرواح لحين إتمام هذه العملية؟

اقرأ أيضاً: موجة "دلتا" عنيفة للأطفال لكنها قاتلة لمتوسطي الأعمار

يقول مات أندروز، كبير المحاضرين في مجال التنمية الدولية بكلية هارفارد كينيدي: "هذه التوترات قد لا تكون أشد مما كانت عليه في أوقات الأزمات، مثل أزمة كوفيد". وأفاد بأنه "من الضروري تقديم الأموال لسدّ الفجوات الأكثر من المعتاد في هذا الوقت، وبشكل أسرع من المعتاد أيضاً"، مشيراً إلى أن عديداً من الدول النامية لديه أنظمة مالية "غير قادرة على إدارة التدفقات المالية الأكبر دون إهدار".

الالتزامات والحوكمة

رغم أن دولاً عدة تعهدت بمراجعة إنفاقها كشرط مسبق للحصول على التمويل الطارئ، فإن أكثر من النصف لم يفِ بهذه الالتزامات، وفقاً لمنظمة الشفافية الدولية، فيما يقول صندوق النقد الدولي إنّ الدول كافة تلتزم ضمانات الحوكمة الأساسية، وإن 10 دول فقط هي التي لم تفِ بالالتزامات الإضافية، وبالتالي فإن الصندوق يعتزم متابعة قضايا الحوكمة الخاصة بها.

لكن الامتثال لهذه الالتزامات كان غير منتظم، إذ أنشأ عديد من الدول، بينها نيجيريا -أكبر الدول المتلقية لأموال الإغاثة بإجمالي 3.4 مليار دولار- مواقع إلكترونية لنشر بيانات الإنفاق والتعاقدات، لكن المعلومات الأساسية لم تُنشَر، فضلاً عن وجود مشكلات فنية غالباً ما تحدّ من الوصول إلى الوثائق.

"عندما تكون هناك أزمة كبيرة، ستحتاج إلى تقديم الأموال.. وهذه الأموال ستكون عرضة للفساد بكل الطرق الممكنة".

من بين الدول التي التزمت إجراء عمليات المراجعة المحاسبية المستقلة، بما فيها نيجيريا، لم يُصدِر سوى عدد قليل نتائجَ هذه المراجعات.

يشدد فان دير ميروي على أهمية نشر مثل هذه البيانات، بحجة أنها "ستسمح للمواطن العادي والمجتمع المدني ووسائل الإعلام بتوفير مستوى إضافي من التدقيق في استخدام الموارد العامة، ما يعزز مستوى ترسيخ معايير الشفافية والمحاسبة في إدارة المالية العامة".

أمثلة على الاختلاسات

أشار صندوق النقد الدولي من قبلُ إلى مخاوف تتعلق بالحوكمة في مقدونيا الشمالية في الأشهر السابقة لاندلاع الوباء، ورغم ذلك لم يتطلب قرضه البالغ 192 مليون دولار المقدّم للبلاد مراجعة حسابية مسبقة، حسب منظمة الشفافية الدولية، التي وصفت هذا الأمر باعتباره "مثيراً للقلق" (تحتل البلاد المرتبة رقم 111 في مؤشر الفساد الصادر عن منظمة الشفافية الدولية، وهي ثاني أسوأ دولة في أوروبا الشرقية).

اقرأ أيضاً:السباق بين اللقاحات والسلالات الجديدة.. صراع البشرية مع "كوفيد" لن ينتهي قريباً

في مارس، أعلن رئيس لجنة مكافحة الفساد في البلاد أن اللجنة ستحقق في التقارير الواردة في إحدى الصحف الإيطالية عن وقوع انتهاكات في عملية شراء اللقاحات.

في ملاوي، وجدت مراجعة حسابية أُجريت على 91 مليون دولار من المساعدات الطارئة التي قدّمها صندوق النقد الدولي أن 915 ألف دولار أُنفقت بطريقة مخالفة للقوانين، أو لم تُحتسَب، ما أدى إلى اعتقال أكثر من 60 شخصاً. وهذه المخالفات تضمنت عمليات شراء غير صحيحة ومدفوعات لموظفين لا وجود لهم تحت اسم "الموظفين الوهميين"، فضلاً عن أموال اختفت ببساطة، حسب تقرير نشرته "ديفكس" (Devex)، وهي منصة إعلامية للمجتمع الإنمائي العالمي. وتعهدت الحكومة بمواصلة التصدي للفساد كجزء من مناقشات أجرتها مع صندوق النقد الدولي للحصول على قروض إضافية.

كذلك حثت مجموعة من الشخصيات النسائية البارزة في الكاميرون صندوق النقد الدولي في يونيو على وقف تقديم قروض جديدة للبلاد. واستشهدت بمراجعة أجرتها هيئة المحكمة العليا، التي كشفت بدورها عن فساد وسوء إدارة، بما فيها إنفاق 326 مليون دولار على الاستجابة الوبائية، في حين أن الصندوق قدّم للبلاد تمويلاً طارئاً بقيمة إجمالية بلغت 382 مليون دولار منذ بداية الوباء.

أمّا في جمهورية الكونغو الديمقراطية، حيث أيَّد الرئيس فيليكس تشيسيكيدي تدابير مكافحة الفساد، فقد اكتشفت هيئة تفتيش حكومية اختلاس 2.4 مليون دولار من أصل 5.2 مليون دولار تلقتها البلاد من مؤسسات متعددة الأطراف، بما فيها البنك الدولي، حسب تقرير مجموعة أبحاث الكونغو بجامعة نيويورك، التي اطلعت على وثائق المراجعة الحسابية التي لم تُنشَر بعد. وقد أُلقي القبض على وزير الصحة السابق إيتيني لونغوندو في أغسطس بتهمة اختلاس أكثر من مليون دولار من أموال الإغاثة من كوفيد، لكنه نفى هذه الادعاءات علناً.

اقرأ المزيد: إجابات عن أكثر الأسئلة إلحاحاً في زمن كورونا

كما وافق صندوق النقد الدولي في يوليو على تقديم قرض لمدة ثلاثة أعوام بقيمة 1.5 مليار دولار لصالح الكونغو، من أجل تعزيز الإنفاق الاجتماعي وتحسين أساليب الحوكمة في البلاد.

يقول غابرييل ليوست، وهو ممثل البلاد لدى صندوق النقد الدولي، إنّ أموال الإغاثة العاجلة من العام الماضي "أسهمت بشكل حاسم في استقرار الأوضاع الاقتصادية والمالية، رغم استمرار الحاجة إلى تمويل كبير على المدى المتوسط للحد من التداعيات الاجتماعية للأزمة وتعزيز الانتعاش الاقتصادي". والجدير بالذكر أن ليوست نوّه بأن المراجعة التالية للنفقات المتعلقة بكوفيد وشيكة.

أمريكا اللاتينية

في أمريكا اللاتينية، جرى الإبلاغ عن تحقيقات تجري بشأن اختلاس أموال الإغاثة من تداعيات كوفيد في بوليفيا والبرازيل وكولومبيا ودول أخرى. وبالتأكيد وُثقت أيضاً قضايا فساد تتعلق بجهود الحكومة للإغاثة من كوفيد في دول لا تقترض عادةً من صندوق النقد الدولي، مثل الولايات المتحدة والمملكة المتحدة.

تقول سارة سعدون، كبيرة الباحثين في مجال الأعمال وحقوق الإنسان لدى منظمة "هيومن رايتس ووتش"، إنّ المراجعة المحاسبية للإنفاق الحكومي وسَجْن المسؤولين يُعتبران من العلامات على التقدم المحرز في التصدي للفساد".

لم يبدأ صندوق النقد الدولي التركيز على "الحوكمة المحسنة" إلا من خلال إيضاح إطار ضوابط مكافحة الفساد في عام 2018، وقد بدأت ثمار هذه الجهود في الظهور الآن، خصوصاً أن الدول ترغب في الحصول على مزيد من القروض، وفقاً لسعدون التي عملت أيضاً مع منظمة الشفافية الدولية لتتبع قضايا الفساد المتعلقة بكوفيد.

تقول سعدون: "عندما تكون هناك أزمة كبيرة، ستحتاج إلى تقديم الأموال.. وهذه الأموال ستكون عرضة للفساد بكل الطرق الممكنة. لكن على الأقل تُظهِر حالات الاعتقال نوعاً من المحاسبة"، مشيرة إلى أن هذه الجهود "مجرد غيض من فيض".