أولوية بوتين.. بيع الغاز لا الحرب

الأولوية القصوى لبوتين
الأولوية القصوى لبوتين المصدر: غيتي إيمجز
Leonid Bershidsky
Leonid Bershidsky

Leonid Bershidsky is Bloomberg Opinion's Europe columnist. He was the founding editor of the Russian business daily Vedomosti and founded the opinion website Slon.ru.

تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

يطرح الحشد العسكري الروسي على الحدود مع أوكرانيا، وأزمة اللاجئين المستمرة على الحدود البيلاروسية البولندية والتي انحاز فيها الكرملين إلى بيلاروسيا، سؤالاً دائماً: ما الذي ينوي الرئيس فلاديمير بوتين فعله؟ وهل يمكن لهذه الحالة أن تنطوي على نوع من لعب أوراق القوة الذي تنشط فيه روسيا؟

بالنظر إلى غموض الكرملين الذي طال أمده، وتركّز السلطة في يد بوتين، فإن الإجابة عن هذا السؤال غالباً ما تبدو وكأنها تمرين لقراءة الأفكار. مع ذلك، يمكن لترتيب أهداف السياسة الخارجية للكرملين هذه المرة حسب الأولوية، أن يساعد في تهدئة قلوب المراقبين، على الأقل مؤقتاً.

اقرأ أيضاً: الحرب أكثر ما يقلق أوكرانيا مع تشغيل "نورد ستريم 2"

يبدو أن الولايات المتحدة قلقة حقاً من احتمال هجوم روسي على أوكرانيا، إذ تدعم بعض التحليلات الموثوقة هذا القلق. فقد نشر يوجين رومر وأندرو فايس من "مؤسسة كارنيغي" مؤخراً، مقالاً يصف أوكرانيا بأنها "عمل بوتين غير المكتمل"، بمعنى أنه يسعى إلى "استعادة هيمنة روسيا على أجزاء رئيسية من إمبراطوريتها التاريخية. ولا يوجد بند على جدول الأعمال هذا أكثر أهمية من عودة أوكرانيا إلى الحظيرة". كما يجادل رومر وفايس بأن قدرة بوتين على التنبؤ مبالغ فيها، وأنه قد يتصرف بطريقة عاطفية عند استفزازه، وأنه يشعر بالحاجة إلى ترسيخ إرثه باعتباره الرئيس الذي استعاد القوة الروسية، وأن المتطلبات الأساسية لضربة ضدّ أوكرانيا -سواء كانت محدودةً لتحقيق مكاسب إقليمية في جنوب شرق البلاد، أو هجوماً كاملاً– موجودة.

إنجاز يفتخر به

في الحقيقة، تعتبر هذه حجج مقنعة، حيث يعتبر بوتين أن ضمّ شبه جزيرة القرم هو أحد أكثر إنجازاته التي يفتخر بها. ولم تترك سياساته وتصريحاته إزاء كل من أوكرانيا وبيلاروسيا، الكثير من الشك في أنه يودّ أن يراهما تجتمعان "كشعب واحد". فضلاً عن ذلك، كلما تقدّم بوتين في السن، قلّ الوقت المتاح له لإنجاز ذلك.

اقرأ المزيد: رغم تهديدات بيلاروسيا.. روسيا مستمرة في تزويد أوروبا بالغاز

ما من شكٍ في أن السياسة الروسية الرسمية هي سياسة الصبر الإستراتيجي -كما كتب الرئيس السابق دميتري ميدفيديف مؤخراً: "تعرف روسيا كيف تنتظر. نحن شعب صبور". وفي أوكرانيا، يعني هذا الأمر، انتظار فشل الحكومات المتتالية المعادية لروسيا، وأن يشعر الأوكرانيون بخيبة أمل شديدة بسبب الترحيب الفاتر الذي يتلقونه من الاتحاد الأوروبي، وسوء المعاملة التي يتلقونها من الإدارات الأمريكية المتزعزعة، لدرجة أنهم سيريدون العودة إلى حظيرة روسيا. ويتضمن الانتظار استعراضاً تكتيكياً دورياً للقوة -حيث تهدف روسيا، وهي تنتظر بصبر، إلى منع الاندماج العسكري لأوكرانيا في منظمة حلف شمال الأطلسي. ولذا، فإن أي نشاط للولايات المتحدة أو الناتو في البحر الأسود أو في أوكرانيا، يتطلب أن تُحرّك روسيا أسلحتها رداً على ذلك.

صبر محدود

أما في بيلاروسيا، فيعني الصبر الإستراتيجي انتظار ديكتاتورية ألكسندر لوكاشينكو اليائسة، مع الحرص على ألا تقع الدولة في أيدي المعارضة الموالية للغرب؛ كما أن الأمل هو أنه، بعد لوكاشينكو، سيؤدي التطبيق الدقيق للضغط الاقتصادي والعسكري إلى إكمال تحوّل بيلاروسيا إلى جزء واقعي من روسيا، بموجب اتفاق دولة الاتحاد بين البلدين.

مع ذلك، لا يبدو أن بوتين يرى خليفة جديراً من بين أقرب حلفائه. ومن الواضح أنه شطب تجربة ميدفيديف في 2008-2012 باعتبارها تجربة فاشلة. وهذا يعني أن صبره الإستراتيجي قد يكون محدوداً بسبب إدراكه لحالته الجسدية؛ حيث قد يشعر بالحاجة إلى التحرّك قبل فوات الأوان بالنسبة إليه شخصياً. ويمكن أن يؤدي هذا النوع من الضغط العاطفي إلى تشويه حسابات بوتين لتكلفة الإجراءات.

أولوية الغاز

رغم كل ذلك، أنا أرى أن بوتين لا يأخذ زمام المبادرة الآن، حيث يُركّز على أولوية أخرى في السياسة الخارجية، ألا وهي مشروع الغاز الطبيعي، الذي لا يقل في حدّ ذاته أهمية بالنسبة إلى إرثه عن إعادة التوحيد المفترض لشعوب السلاف الأساسية في الاتحاد السوفيتي. كما تهدف الشبكة الجديدة من خطوط الأنابيب التي بُنيت في عهد بوتين -إلى تركيا والصين وألمانيا- إلى ختم تحالفاته الإقليمية والمحافظة على نافذة ألمانية مفتوحة على أوروبا. وهذا عنصر أساسي أيضاً في مسرحية التوحيد السلافية: تتمتع الحكومتان الأوكرانية والبيلاروسية الحاليتان بنفوذ كبير على روسيا، باعتبارهما ضامنين لصادراتها من الغاز باتجاه الغرب، وهو نفوذ من شأنه أن يُغري السياسيين المحليين دائماً بالسعي إلى مزيد من الاستقلال عن موسكو.

اقرأ أيضاً: عقبة تراخيص ألمانية على مسار "نورد ستريم 2"

علاوةً على ذلك، يحظى مشروع الغاز بالأولوية الآن لأن أحد أجزائه الرئيسية، وهو خط أنابيب "نورد ستريم 2" إلى شمال شرق ألمانيا، قد اكتمل وينتظر الضوء الأخضر من الجهات التنظيمية الألمانية لبدء ضخ الغاز للعملاء. وبالطبع، سيتعطّل "نورد ستريم 2" في حال شنّت روسيا هجوماً واسع النطاق على أوكرانيا؛ ومن المحتمل ألا تؤدي عملية على نطاق أصغر في شرق أوكرانيا إلى إنهائه تماماً، إلا أن المواعيد النهائية ستتحرّك مرة أخرى، وستضعف العلاقات المبنية بشقّ الأنفس، وستكسب الولايات المتحدة الوقت والحجج المقنعة في معركتها الحالية -التي تبدو فيها شبه وحيدة، ضدّ خط الأنابيب الروسي.

لعبة معقّدة

من أجل التأكد من بدء تشغيل "نورد ستريم 2" العام المقبل، وأنه سيكون من الصعب استبداله مع اكتسابه لعملاء أوروبيين، يجب على بوتين أن يلعب لعبة معقّدة، تجمع بين الضغط والتهديد، والموقف البنّاء على ما يبدو.

الجدير بالذكر أن ردّ بوتين على القفزة الأخيرة في أسعار الغاز الأوروبية، والنداءات اللاحقة بأن تلعب روسيا دوراً في تخفيف حدّة الأزمة، كان فاتراً بشكل واضح؛ حيث لم يكن حريصاً على نهي لوكاشينكو عندما هدّد بقطع نقل الغاز رداً على عقوبات الاتحاد الأوروبي. والهدف الحقيقي لبوتين -لجعل الأوروبيين يدركون أن خطوط الأنابيب المباشرة هي السبيل للمستقبل- ظهر في ردّه (والذي احتوى أيضاً على نسخة مشكوك في مصداقيتها من أزمة إمدادات الغاز السابقة المتعلقة بأوكرانيا):

"ربما يمكنه فعلها. هذا ليس بالأمر الجيد، وسوف أتحدّث إليه حول هذا الأمر بالطبع، إلا إذا قال ذلك مدفوعاً بالعاطفة. ولكن، حدث هذا من قبل مع أوكرانيا، في عام 2008، إذا كنت أذكر بشكل صحيح، حيث عانينا من هذه الأزمة، وفشلنا في الاتفاق مع أصدقائنا الأوكرانيين على المعايير الرئيسية لهذه العقود بسبب الخلافات التي لا تنتهي حول سعر الغاز ورسوم النقل. وانتهى الأمر بأوكرانيا بمنع وصول غازنا المخصص لأوروبا. ببساطة، كما يقول الخبراء، أغلقوا الصمام، وأوقفوا توريد الغاز الروسي إلى أوروبا. لقد حدث ذلك بالفعل".

لطالما ألقى لوكاشينكو بالحذر والدبلوماسية في مهبّ الريح، حيث لا يعتبره الأوروبيون ممثلاً عقلانياً، ومن المحتمل جداً أن بوتين لا يعتبره كذلك أيضاً –إلا أن المساعدة كانت جيدة جداً، بحيث لا يمكن للزعيم الروسي أن يُفوّتها. وبالنسبة إليه، فإن أزمة الحدود وعواقبها، ومتاعب سوق الغاز الأوروبية، وحتى التوترات المتعلقة بأوكرانيا، يمكن أن تكون كلّها حججاً لصالح "نورد ستريم 2". ومن غير الواضح إلى أي مدى يبتكر هذه الحجج- ومع ذلك، ليس هناك شك في أن يستخدمها بأفضل ما في وسعه.

الموقف الألماني

في الواقع، قد يبدو أن ألمانيا أصبحت مقاومة لجهود بوتين في إقناعها. وفي 16 نوفمبر، قامت وكالة الشبكة الفيدرالية الألمانية، وهي جهة تنظيمية تعتبر موافقتها ضرورية لتشغيل "نورد ستريم 2"، بتعليق الطلب. وبالنسبة إلى أصحاب العقلية السياسية، قد يبدو هذا وكأنه ردّ المستشارة المؤقتة أنغيلا ميركل على إهانة الاضطرار إلى الاتصال بلوكاشينكو المنبوذ، بناءً على إصرار بوتين، لمحاولة حلّ أزمة اللاجئين. ومع ذلك، يمكن أن تكون البيروقراطية الألمانية غير سياسية تماماً، وفي هذه الحالة بالذات، يبدو أن سبب التعليق بيروقراطي، حيث يريد المنظّم من مشغّل خط الأنابيب، المسجل حالياً في سويسرا، نقل أصوله وموظفيه إلى ألمانيا والدمج بموجب القانون الألماني -وهو طلب معقول لخط أنابيب تكون نقطة نهايته ألمانيا.

بالطبع لن يكون من الصعب على شركة "غازبروم"، مورّد الغاز الروسي، إنشاء شركة ألمانية -لكن التعليق على الأرجح يعني تأخيراً كبيراً، وهو ما يفسّر الارتفاع اللاحق في أسعار الغاز الطبيعي الفورية. وفي حين تأخذ العملية مجراها، يحتاج بوتين إلى السير في الخط الرفيع بين الاستمرار في الضغط وعزل الحكومة الألمانية -وهذا يعني أنه من المحتمل أن يمتنع عن أي تحركات مفاجئة في الأشهر المقبلة. وبطريقة ما، فإنه في مأزق -على الأقل طالما أن دخول "نورد ستريم 2" في الخدمة لا يزال نتيجة محتملة للغاية.