غابات الأمازون تقترب سريعاً من نقطة اللا عودة

غابة سابقة في ولاية روندونيا
غابة سابقة في ولاية روندونيا المصدر: بلومبرغ
المصدر: بلومبرغ
تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

في شهر أبريل، اجتمع المشرعون في ولاية روندونيا في البرازيل داخل مبنى مصمّم على شكل مكعّب، ظلّ مهجوراً لأشهر، وذلك للتصويت على مشروع قانون عاجل.

تُعتبر مدينة بورتو فيلهو، العاصمة الإسمنتية للولاية، من أشدّ المناطق تأثراً بفيروس كورونا في العالم، وهي مثل كلّ شيء آخر في المنطقة نُحتت من صُلب غابات الأمازون المطيرة. لكن بعد ظهر ذلك اليوم الماطر، وبينما كانت المدينة تخضع للإغلاق التام، بدا أن المشرعين غير قادرين على تحمُّل الانتظار أكثر لتمرير مشروع قانون جديد. فقد شعروا بحاجة ماسّة إلى التصديق على مشروع قانون يقلّص حجم محمية غابات "جاسي بارانا" المطيرة في الولاية، بالإضافة إلى غابة أخرى في الجنوب منها.

اقرأ أيضاً: بسبب قلّة النتائج.. حملة إنقاذ غابات الأمازون تغيّر خططها

فهذه المحمية التي كانت في يوم من الأيام تمتد على مساحة شاسعة، تخترقها جداول المياه المتعرجة وتنتشر فيها أشجار الماهوغني والجوز البرازيلي الشاهقة، تحوّلت اليوم في جزء كبير منها إلى مزراع للماشية، تنتهك فيها الطرقات المتقاطعة الطين الأحمر الساطع، لتربط ما بين مئات المزارع التي تحتوي على نحو 120 ألف رأس ماشية.

صحيح أن هذه المزارع غير شرعية، لكن القانون الجديد سيغيّر هذا الواقع. فلن يصبح المالكون مضطرين إلى إخفاء مصدر ماشيتهم حتى يتمكنوا من بيعها لشركات إنتاج اللحوم. والأهم أن الأشخاص الذين استولوا على هذه الأراضي سوف يحظون بالفرصة للحصول على صكوك ملكية.

اقرأ المزيد: إعصار "إيدا" وحرارة البرازيل يرفعان أسعار البن

الجدير بالذكر أن نحو نصف المشرّعين في الولاية هم من المزارعين أو أشخاص جرى انتخابهم بواسطة إيرادات التجارة في مجال الزراعة، ولطالما عملوا على قوننة وضع قاعدتهم الانتخابية الريفية، واليوم باتوا يملكون الدعم لتحقيق ذلك في داخل القصر الرئاسي في برازيليا.

ضغوط بايدن

ظلّ الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترمب صديقاً لنظيره البرازيلي جايير بولسونارو لسنتين، فيما كان الأخير يعمل على إزالة القيود التي تحمي الغابات المطيرة، إلا أن الرئيس جو بايدن لن يكون صديقه قطعاً، فخطة المشرعين قد تنهار في حال صعّد بايدن ضغوطه على البرازيل.

في ذلك الاجتماع، توجّه المزارع والمشرّع إزيكيل نييفا إلى زملائه بالقول: "اسمعوني جيداً، هذه واحدة من فرصنا الأخيرة للتصويت". وبالفعل، جرى التصديق على مشروع القانون بالإجماع، ووقّع حاكم روندونيا كورونيل ماركوس روشا، الحليف المقرب من بولسونارو، عليه في 20 من مايو ليصبح قانوناً نافذاً (يجري حالياً النظر بالطعن المقدّم ضدّه في المحكمة).

اقرأ أيضاً: أزمة المياه تفاقم قنبلة التضخم الموقوتة في البرازيل

في الماضي، كانت محمية "جاسي بارانا" واسعة بما يكفي لتبتلع مدينة مكسيكو، إلا أن حجمها تقلّص بنسبة 89% ولم يتبقَّ منها إلا قطعة أرض في الجانب الغربي. أما المحمية الأخرى التي وردت في مشروع القانون فهي "غواجارا–ميريم" التي فقدت 50 ألف هكتار، أي ما يوازي 124 ألف فدان من مساحتها.

بعد يومين من التصويت على مشروع قانون روندونيا، لم يخيّب بولسونارو أمل المزارعين، فقد بدا متحدياً حين تحدث مع الرئيس جو بايدن عبر تقنية الفيديو في قمة القادة حول المناخ، إذ أثنى بولسونارو على العمل الذي تقوم به البرازيل من أجل حماية غابات الأمازون، متهماً العالم المتقدم المُدمِن للوقود الأحفوري بتحمل المسؤولية الرئيسية عن التغير المناخي. كما أعرب عن أسفه لما وصفه بـ"مفارقة الغابات المطيرة" التي تعدّ أعظم مورد طبيعي على الأرض، سواء لما تحتويه من مواد أو لدورها في إنتاج الأكسجين وتنقية الهواء. مع ذلك فإنّ معظم السكان البالغ عددهم 24 مليونًا، الذين يعيشون في هذه الغابات أو بالقرب منها، يعانون من الفقر.

ودعا بولسونارو إلى الاعتراف بـ"قيمة الغابة القائمة"، وأضاف: "لا بدّ من دفع مبلغ عادل مقابل الخدمات البيئية التي تقدمها مناطقنا الحيوية للكوكب بشكل عام". إذاً كانت رسالة الرئيس البرازيلي واضحة للعالم: ادفعوا لنا كي نترك غابات الأمازون وشأنها، وإلا سوف تجد البرازيل طريقتها الخاصة للاستفادة منها.

دور الحكومة

ثمّة أدلة واضحة تؤشر على أن الحكومة بدأت بالفعل القيام بذلك، إذ خلصت مراجعة لآلاف المستندات العامة وعشرات المقابلات مع المدّعين العامّين وحراس الغابات وبعض الأشخاص المقربين من بولسونارو، إلى أن الحكومة البرازيلية منخرطة في حملة نشطة من أجل فتح غابات الأمازون أمام برامج الخصخصة والتطوير، في البداية من خلال غض الطرف حيال الغزو الذي تتعرض له الأراضي العامة والمحمية التي تُقطع الأشجار فيها، ثمّ من خلال العفو الممنهج عن الأشخاص المسؤولين عن هذه الأعمال ومنحهم صكوك ملكية بالأرض المسلوبة.

ليست حكومة بولسونارو هي التي اخترعت هذه الممارسة، بل تتجذر هذه السلوكيات في دستور البرازيل العائد إلى عام 1988، وكان رئيسان قبل بولسونارو قد فرضا تغييرات أدت إلى العفو عن نحو 25 ألف شخص استوطنوا أملاكاً عامة، حسب مراجعة لسجلات الأراضي في البرازيل، إلا أن بولسونارو وفريقه يسعون إلى تسريع هذه العملية أكثر من أي وقت مضى، من خلال توفير تسهيلات للمزارعين الكبار حتى يلتحقوا بالركب. وقال لويس أنطونيو نبهان غارسيا، المسؤول عن سياسة الأراضي في إدارة بولسونارو: "كلّ استصلاحات الأراضي في الأمازون حدثت بشكل قانوني". وأضاف: "هكذا حصل في الولايات المتحدة وهكذا حصل في أستراليا، حين استولى المستعمرون على الأراضي العذراء. كلّ ذلك حصل بإذن من الدولة".

استعمار الأدغال

نبهان غارسيا البالغ من العمر 63 عاماً هو مزارع أيضاً، فهو وبولسونارو ترعرعا في السبعينيات حين كانت الحكومة العسكرية في البرازيل تسعى إلى تحويل المساحات الشاسعة في غابات الأمازون إلى مدن ومزارع ومناجم بهدف تعزيز الأمن القومي. وكان الحكم الدكتاتوري الذي استمر حتى عام 1985 قد أنشأ قواعد عسكرية ومنشآت للطاقة وشبكة طرق في قلب الأدغال الكثيفة. وقد أسهمت برامج البنى التحتية التي نفذها النظام الحاكم في صعود ما يعرف بـ"المعجزة البرازيلية"، وهي حقبة شهدت نمواً اقتصادياً بنسبة 10%، لا يزال ينظر كثيرون إليها على أنها الحقبة الذهبية في عمر الأمة. مع ذلك، شكلت المرحلة الأكثر ظلاماً في عمر الغابات المطيرة.

ففي تلك الحقبة نزح ملايين السكان من المدن الساحلية نحو الأراضي الداخلية، فبنوا مساكن ومراكز صناعية ضخمة في الأدغال. وفي خلال أربعين سنة، فقدت غابات الأمازون مساحة تصل إلى حجم ولاية كاليفورنيا نتيجة قطع الأشجار. ويحذّر بعض العلماء من أن غابات الأمازون تقترب من نقطة التحول الحرجة من غابة مطيرة إلى سافانا، وبالتالي سوف تبدأ بضخ الغازات الدفيئة إلى الغلاف الجوي بدل تنقية الجوّ، وسوف يؤدي ذلك إلى جفاف الرطوبة المتجمعة في الهواء التي يطلق عليها اسم "الأنهار الطائرة"، التي تجلب الأمطار إلى القارة، ما يهدد بانقراض ما يصل إلى 10 آلاف جنس حيّ.

بولسونارو.. والنظرية القديمة

منذ توليه سدّة الرئاسة في يناير 2019، أعاد بولسونارو، النقيب السابق في الجيش، إحياء هذه الرؤية التي تعود إلى ما قبل خمسين سنة، والقائلة إنّ تطوير الأمازون وازدهار البرازيل يترافقان جنباً إلى جنب. انطلاقاً من ذلك، عيّن مزارعين ومربي ماشية يشاركونه رؤيته في عديد من هيئات إدارة الأراضي الأساسية والوكالات البيئية. وما قضية "جاسي بارانا" إلا مثال جديد، ولكن طبعاً ليس الوحيد، على سعيه لتطبيق هذه الرؤية.

تقع "يونياو بانديرانتيس" في شرق "جاسي بارانا"، وهي عبارة عن تجمع صغير مغبر من المزارع وتقاطع لحفنة من الطرقات الترابية وبعض العشرات من الأبنية المحاطة بمزارع البنّ ومراعي الماشية. قبل عقدين من الزمن، لم تكن هذه المنطقة موجودة، فلم يكن هناك أي طرقات أو مزارعين، بل كانت غابة مطيرة فقط. واليوم باتت نموذجاً يحتذيه المستولون المحتملون على الأراضي في روندونيا.

يتفاخر إدمو فيريرا بينتو البالغ من العمر 49 عاماً بمسؤوليته عن هذا التحوّل. بسرواله الجينز المنسّل وقميصه الضيق ذي الأزرار، بدا حذقاً ومفعماً بالحيوية وهو يجلس في حانة راقية مؤخراً في بورتو فيلهو ليروي كيف تسلّل وأصدقاؤه إلى الأدغال واستولوا على أرض لم يكونوا يملكونها. فيصوّر نفسه كروبن هود يسرق من الدولة حتى يعطي الفقراء. وقال: "ما زلت أتذكر ما حصل، ولا أصدق أننا نجحنا في ذلك".

دعاية حكومية للغزو

كان فيريرا بينتو المعروف باسم "ديم–ديم" (تُنطق "جين–جين") في الثانية عشرة فقط من عمره حين استقلّ مع والديه وإخوته الأربعة وعائلتين أخريين الصندوق المفتوح لشاحنة لنقل الفاكهة، واجتازوا مسافة 2500 كيلومتر من ولاية باهيا الساحلية نحو ولاية روندونيا. كان ذلك في منتصف الثمانينيات، وكان سائق الشاحنة يجني قوته من المال القليل الذي يتقاضاه عن كلّ راكب في إطار عمله في نقل النازحين مثل عائلة فيريرا بينتو إلى الأمازون.

طوال سنوات، وعدت الدعاية الحكومية عبر التليفزيون والإذاعة والصحف كلّ الأشخاص المستعدّين للقيام بهذه الرحلة بالحصول على قطعة أرض والتمتع بحياة رغيدة، فقد روّج الإعلان للأمازون على أنها "أرض من دون رجال لرجال من دون أرض". فلبّى الملايين النداء لغزو "الجحيم الأخضر"، وسرعان ما ارتفع عدد سكان روندونيا من 115 ألف نسمة في عام 1970 إلى 1.1 مليون نسمة في عام 1990.

يقف خلف هذه الطفرة المعهد الوطني للاستيطان والإصلاح الزراعي (إنكرا)، وهو عبارة عن وكالة حكومية أنشأها النظام العسكري بغية تسريع الثورة الصناعية في البرازيل.

استغرقت تلك الرحلة أسبوعاً من الزمن، جلس خلالها الركاب على مقاعد خشبية تحت ظلّ شادر يقيهم أشعة الشمس الحارقة. ومثل الملايين من النازحين المتوجهين إلى الغرب المتوحش البرازيلي، شقّ فيريرا بينتو وعائلته طريقهم عبر طريق سريع جرى تشييده بدعم من البنك الدولي في إطار مشروع إنشاء طرقات في داخل الأدغال. ولدى وصولهم إلى روندونيا، نزلت العائلة لدى أحد الأعمام الذي كان قد خاض الرحلة ذاتها قبل عقد من الزمن، وحصل على قطع أرض كمكافأة، ولكن حين أتت فيريرا بينتو كانت الأمور قد تغيرت.

تزوير المستندات

بعد أن حلّ النظام الديمقراطي مكان الحكم العسكري، جرى تكليف "إنكرا" بمهمة جديدة. فبدل استيطان غابات الأمازون من خلال المزارع الصناعية والمعامل، طُلب من الوكالة استعادة كل الأراضي التي لم يجرِ تطويرها بعدُ، وتقسيمها إلى قطع أرض صغيرة لمنحها الفقراء البرازيليين من أجل ممارسة زراعة الكفاف، ما يعتبر واحداً من أكبر برامج تقديمات الرعاية الاجتماعية في التاريخ، إلا أن التنفيذ جاء متعثراً. فوكالة "إنكرا" التي افتقدت دعم النظام العسكري، فشلت في فرض تطبيق قوانينها عند اندلاع نزاعات حول الأراضي، إذ سارع الناس إلى وضع أيديهم على أي قطعة أرض لا تبدو مملوكة لأحد. وخاض المالكون الأثرياء الذين حُرموا أراضيهم معارك قضائية أمام المحاكم من أجل استعادة ممتلكاتهم، ما ترك الأراضي معلقة لعقود. كما أن المستندات كانت قابلة للتزوير أو التعديل بسهولة، فجرى تصوير سندات الملكية المزيفة على أنها حقيقية. وازدهرت سوق سوداء لبيع المستندات المزيفة، حتى إن بعص الوثائق المزورة جرى تناقله بين مالك وآخر مرّات عدّة، إلى حدّ لم يعُد من الممكن معرفة المالك الحقيقي لبعض الأراضي.

بعد عقد على وصولهم، وجد والدا فيريرا بينتو مكاناً لهم في مستوطنة تابعة لـ"إنكرا" في مزرعة ضخمة كانت قد مُنحت لتكتل شركات في خلال الحقبة الدكتاتورية، ثمّ صُودرت بعد أن فشل التكتل في تطوير هذه الأرض. نظر فيريرا بينتو الشاب إلى الناس المحيطين به، الموجودين في ذلك المكان منذ سنوات، فرأى أنهم لا يزالون يعيشون في أكواخ مغطاة بالشوادر من دون ماء أو كهرباء، فيما ينتظرون أن تقول لهم "إنكرا" أي قطعة أرض يمكنهم الحصول عليها.

قال فيريرا بينتو: "حين ترى ذلك تشعر بالألم. لا أعتقد بأن والدي سمح لذلك أن يؤثر فيه، أو على الأقل لم يظهر ذلك. ولكن بالنسبة إلي، أشعرني الأمر بالألم".

بحلول ذلك الوقت، كان فيريرا بينتو قد كان قد قضى معظم حياته في الانتظار إلى جانب أصدقائه الذين كانوا قد جاؤوا أيضاً برفقة ذويهم بحثاً عن قطعة أرض. وحين سمعوا عن قطعة أرض فارغة في شرق "جاسي بارانا" أعدّوا خطتهم.

ملء الفراغ

في يوم الثالث من ديسمبر عام 1999، وهو يوم لا يزال ينظر إليه عديد من السكان المحليين على أنه نوع من عيد الاستقلال، توجه فيريرا بينتو وآخرون في ثلاث حافلات مكتظة بالركاب إلى طرف الغابة المطيرة، وأقاموا معسكراً، ثم أنشؤوا أكواخاً صغيرة، ثمّ بدؤوا يشقون الطرقات ويقطعون الأشجار كيفما توجهوا. استغرقوا سنة كاملة حتى وصلوا إلى المنطقة في الغابة المطيرة التي تشكل اليوم قلب "يونياو بانديرانتيس" (أي اتحاد الرواد). وفي طريقهم، استعانوا بمسّاحي أراضي ومحامين وبنائين وإداريين، جميعهم كانوا يتطلعون لملء الفراغ الذي تركته الحكومة وأن يستولوا هم أيضاً على حصة من الأراضي العامة.

اعتُقل فيريرا بينتو مرتين على خلفية التورط في نزاعات والتعدي على أراض، ولكن لم تثبت إدانته بأي جريمة. وفي نهاية المطاف، تمكنت مجموعته من توطين نحو 1800 عائلة حسب تقديره. يسمح القانون الحالي لأي شخص طوَّر أرضاً قبل عام 2008 بطلب العفو. لقد جازف سكان "يونياو بانديرانتيس"، ونجح رهانهم.

يمتطي إيفيرالدو باندولفي ظهر حصانه عند تقاطع طريقين ترابيين، فيما يراقب ابنه وهو يعتني بالماشية ضمن أرض مسيجة. يقول: "كلّ هذا ملكه الآن"، وهو يشير بإصبعه نحو حقل واسع أمامه، حيث الرؤوس المسننة لا تزال تبرز في جذوع الأشجار المحروقة المترامية بين العشب الطويل. خلفه قطعة أرض أخرى نقلها إلى ابنته، وإلى يساره حقل يملكه ابنه الآخر. تتجاوز المساحة المشتركة لهذه الأرض 200 هكتار. وقال: "كانت هذه غابة مطيرة صرفة، قطعتها كلّها".

بن وصويا

باندولفي البالغ من العمر 51 عاماً هو من المستوطنين الأوائل في "يونياو بانديرانتيس"، وكان قد دفع 250 ريالاً برازيلياً (نحو 80 دولاراً في حينها) إلى ماسح أراضٍ يعمل مع "ديم-ديم" من أجل تحديد نطاق مزرعته المستقبلية. ومن هذه النقطة اتبع المسار المعهود، فقطع في البداية الأشجار الضخمة التي يبلغ عمرها مئات السنين ويصل قطرها إلى 11 قدماً، بما أن هذه الأخشاب تجلب له المال السريع من المصدرين، ثم حرق الأرض بعدها من أجل إزالة الشجيرات الخفيضة، ثمّ زرع الأعشاب الكثيفة المستخدمة في قطاع تربية الماشية. بعد ذلك بنى منزلاً صغيراً مع حوضين للسمك وزريبة للخنازير في الخلف.

بعد بضع سنوات، يمكن أن تتآكل جذوع الأشجار المحروقة بما يكفي حتى يكسب المال الموعود، إذ سيتمكن من زرع البنّ أو حبوب الصويا.

"هذا هو حلمنا"، حسب قول أحد جيرانه من المزارعين.

في جنوب الولاية حيث يحكم كبار المزارعين، بدأت فعلياً مرحلة التحول نحو حبوب الصويا. ولكن لركب هذه الموجة ثمة حاجة إلى استثمارات من أجل تأمين الريّ والمعدّات والأسمدة، وبالتالي صغار المزارعين نادراً ما ينجحون في تحقيق ذلك.

غرامات لا تُدفع

يدرك المعهد البرازيلي للبيئة والموارد الطبيعية المتجددة، وهو الهيئة الفيدرالية المنظمة، المعروف اختصاراً باسم "إباما"، واقع إزالة الغابات جيداً، إلا أنه لا يبذل ما يكفي من الجهد للتصدي لهذا الواقع. وقد أظهرت دراسة نُشرت في موقع "إنفو أمازونيا" المستقل أنه بين 1980 و2019 أصدر "إباما" غرامات بقيمة 75 مليار ريال برازيلي (14 مليار دولار) معدلة حسب معدلات التضخم، إلا أنه لم يتمكن من تحصيل إلا ما نسبته 3.3% من المبلغ الإجمالي. باندولفي نفسه فُرضت عليه غرامات ثلاث مرات، تصل قيمتها إلى 600 ألف ريال، إلا أنه لا يعتزم تسديدها أبداً. وسأل: "كيف يمكنني أن أدفع مثل هذا المبلغ؟"، فيما جلس حافي القدمين على شرفة منزله في وقت متأخر من بعد الظهر، ينظر مباشرة إلى أراضٍ في الغابة المطيرة مخصصة للسكان الأصليين.

جلس باندولفي ذو الشعر الأشقر والبشرة المسمرة متربع الساقين، فيما بدا غير مكترث ومُضحكاً قليلاً وهو يتحدث عن كيفية التفافه على الغرامات المفروضة عليه حتى يتمكن من بيع ماشيته إلى كبار منتجي اللحوم الذين يعتمدون سياسات تحظر الشراء من مزيلي الغابات. وقال: "لم أترك أي شيء باسمي، لا سيارتي ولا منزلي ولا الأرض".

يبيع باندولفي الماشية إلى واحد من أكبر المسالخ في المنطقة من خلال تسجيل التعاملات تحت اسم مزارع آخر. وتعتبر هذه الممارسة شائعة جداً، إذ جرى اكتشاف مثل هذه اللحوم "المغسولة" في سلسلة إمدادات كبريات شركات تغليف اللحوم مثل "جي بي إس" (JBS) و"مارفريغ غلوبال فودز" (Marfrig Global Foods)، بالإضافة إلى سوبرماركت "كارفور". إلا أن هذه الشركات أكدت أنها تدقق بشدّة بمورديها المباشرين، وهذه الحالات لا تمثّل إلا نسبة قليلة جداً من اللحوم التي يشترونها.

الفقر والطلب العالمي

من السهل اعتبار باندولفي الشرير في القصة وتصويره سارق أراض حاقداً، لم يُبالِ بتدميره جزءاً ثميناً جداً من الغابة المطيرة، إلا أنه وجيرانه يرويان جانباً آخر للحكاية، إذ إنّ السياسات الحكومية والفقر والطلب العالمي النهم على السلع، دفعتهم إلى اتخاذ الخيارات التي قاموا بها. فالطريقة الوحيدة لكي يحصلوا على أموال من المقرضين هي من خلال رهن الماشية أو الأرض، حتى إذا كانوا لا يملكون صك ملكية بهذه الأرض. فالأسواق العالمية لا تشتري ما يكفي من المواد الغذائية المنتجة بشكل مستدام مثل المكسرات البرازيلية ونخل الآساي حتى يتمكن الناس من كسب رزقهم، فيما نرى شهية العالم مفتوحة على اللحوم والحبوب والأخشاب (في عام 2020 صدّرت البرازيل فول الصويا ومسحوق فول الصويا وزيت فول الصويا بقيمة 35.2 مليار دولار، فيما اقتصرت قيمة المكسرات التي صدرتها على 128.3 مليون دولار). في غضون ذلك، يشجع السياسيون، ابتداءً من أعضاء المجالس المحلية وحتى رئيس الدولة، على هذا التدمير للغابات المطيرة. ولدى المقارنة بين قواعد بيانات السياسيين والغرامات الصادرة عن "إباما"، يظهر أن نحو ألف مسؤول منتخب وموظف معيّن سياسياً ترد أسماؤهم في القوائم السوداء الحكومية للجرائم البيئية.

أوضاع معيشية صعبة

في الواقع، الفقر هو العامل الحقيقي الذي يقف خلف الدعوات لتطوير الغابات المطيرة، سواء من اليمين أو من اليسار. فثلث البرازيليين يعانون من الفقر، بينهم 13% يعيشون على أقل من دولارين في اليوم، حسب البنك الدولي. ففي شمال البلاد حيث تقع الغابات المطيرة، يعيش الناس في فقر مدقع، إذ تُعتبر المياه النظيفة والإمدادات الصحية والتيار الكهربائي من الرفاهيات، كما أن ثلث السكان هناك من الأمّيين، غير القادرين على تلبية حاجاتهم اليومية من القراءة والكتابة. وقد جاء وباء كورونا ليضيف إلى المشكلات الصحية الكثيرة التي تعاني منها المنطقة، مثل الملاريا وحمى الدنك وفيروس زيكا.

أسهمت طفرة السلع في منتصف الألفية في حدوث موجة ازدهار لم يستفد منها إلا القليل من البرازيليين، ولكن الانهيار الذي تلاها كان تأثيره كبيراً في الجميع. واليوم، عادت أسعار السلع إلى الارتفاع، وتسارعت معها الخطط للاستيلاء على مزيد من الأراضي. الفرق أن اليوم باتت هذه الخطط جريئة أكثر ومنظمة أكثر وعنيفة أكثر.

يسير كارلوس رانجيل دا سيلفا في غابة "باكاس نوفوس" الوطنية في وسط روندونيا، تاركاً خلفه العشب الطويل الذي يصل ارتفاعه إلى الخصر، وأشعة الشمس المدارية الحارقة في مراعي الماشية، متوجهاً إلى الظلّ الكثيف تحت أشجار الغابة المطيرة. فجأة توقف وأشار بمنجله نحو شيء ما أمامه، فتوقف عناصر الشرطة الثمانية المسلحون وحراس الغابات الثلاثة الذين كانوا برفقته بانتظار أمر منه. أشار إلى بعض العشب الذي بدا أنه جرى الدوس عليه قليلاً، وتبدو آثار خفيفة على الطريق الترابي، وقال: "إنها دراجة نارية، ربما يسعى أحد إلى قطع الأخشاب أو يستكشف المنطقة". توجه قائد الحرس للتحقق في الموضوع يرافقه عنصران من الشرطة يحملان أسلحتهما الهجومية.

القانون والحماية

كان الأمر إنذاراً خاطئاً، ولكن ثمة سبب وجيه لبقاء رانجيل متيقظاً، فقد حذّرهم المخبرون من أن المستوّلين على الأراضي يتحضرون لشنّ هجوم واسع آخر على "باكاس نوفوس"، وهي غابة وطنية شاسعة تضمّ وادياً على شكل هلال ومنحدرات شاهقة وشلالات مرتفعة.

تتداخل المحمية مع أراضي قبيلة الـ"أورو–أو-وو–وو"، وهي قبيلة من السكان الأصليين لم تتواصل مع العالم الخارجي قبل عام 1980، ولا تزال تحافظ على مسافة مع العالم الخارجي حتى اليوم. على الورق، بما أن هذه الأرض مصنفة غابة وطنية ومحمية للسكان الأصليين، فيُفترض أن تحصل على حماية مزدوجة بموجب القانون البرازيلي. ولكن حسب رانجيل "هذا الأمر لا يعني كثيراً، بالأخص في هذه الأيام".

في سنّ الـ72، قد يكون رانجيل أكبر مشرف على الغابات في البرازيل. ويضمّ فريقه تسعة رجال إطفاء يعملون أيضاً حراس غابات يقومون بدوريات في غابة حجمها أكبر بمرتين من ولاية رود أيلند. هو يزاول هذه المهنة منذ عشرين سنة، ويحلم بالتقاعد وتأليف كتاب يصنَّف على قائمة الأكثر مبيعاً في البرازيل، إلا أن الأسماء التي يقترحها رؤساؤه في برازيليا للاستبدال به تافهة جداً برأيه، فهم يريدون استبدال موظف بيروقراطي به، في حين أن العمل الذي يقوم به رانجيل مجهد جسدياً ويتطلب أن يتجول والعناصر التابعة له في الغابة، وأن يناموا في خيام بين الأفاعي السامة والبعوض. وقال: "تحتاج إلى أحد مستعدّ للقتال".

تهافت المشترين

قبل بضع سنوات، اكتشف رانجيل خطة عالية التنظيم من أجل الاستيلاء على 60 ألف هكتار من مساحة الغابة. كانت تلك الخطة بقيادة مزارع محلي يدعى ستابل كيروش وشقيقيه وجدته فيكتوريا باندو دو سوزا البالغة من العمر 92 سنة، حسب الشكوى الجنائية المقدمة أمام المحكمة الفيدرالية، إذ كانت عائلة باندو قد حصلت على حق جمع المطاط من الغابة في عام 1917، وزعم المتهمون أن تلك الوثائق تمنحهم الحق في شراء وبيع الأرض. وحسب الشكوى المقدمة ضدهم، حاول المتهمون تقسيم الأرض إلى قطع صغيرة وبيعها إلى أي أحد يسعى إلى إقامة مزرعة. وقد عينوا محامياً من أجل إنشاء جمعية، وأرسلوا أشخاصاً إلى الغابة من أجل إنشاء مكتب للمبيعات. هرع المئات من المشترين المحتملين، معظمهم من عمّال المزارع الفقراء في المنطقة للاستفادة من العرض، فقد كان كيروش يحلم بإنشاء قرية زراعية جديدة يطلق عليها اسم "ريو بونيتو" أو "النهر الجميل"، إذ سيكون العمدة بحكم الأمر الواقع.

كشف المسؤولون الفيدراليون الذين يراقبون صور الأقمار الصناعية المخطط وأبلغوا رانجيل، إذ يمكن لحطّاب يحمل منشاراً أن يقطع أكثر من هكتارين من الأراضي في يوم واحد، فيما كان يرافق كيروش فريق كامل. انتشر هذا الدمار بسرعة، وقد جلس رانجيل يخطط لمدّة أشهر للمداهمات التي سيقوم بها من داخل مكتبه في كامبو نوفو، وهي قرية نائية تضمّ نحو 14 ألف نسمة، حيث يعيش حراس الغابات ومزيلي الغابات جنباً إلى جانب.

مواجهات داخل الغابات

هيأ رانجيل عدداً من دوريات الشرطة مؤلفة من عناصر مبتدئين تطوعوا لهذه المهمة مقابل 180 ريالاً برازيلياً إضافية في اليوم، وكانوا كلّما خرجوا لأداء مهامّهم تعرضوا للتهديد والوعيد. حذّر كيروش في رسالة صوتية جرت الإشارة إليها في الوثائق المقدمة أمام المحكمة أنه "من الآن وصاعداً سنتعامل مع الأمر بالحديد والنار"، مضيفاً: "من الآن فصاعداً سوف تحترموننا أو سوف تواجهون العواقب". استغرقت القيادة على الطريق الوعر والمليء بالعوائق نحو 12 ساعة من أجل اجتياز 20 كيلومتراً فقط، وحين وصل رانجيل وفريقه إلى المكان الذي ينشط فيه قاطعو الأشجار، تمكّن أفراد العصابة من الفرار بسهولة إلى داخل الأدغال الكثيفة.

وفي إحدى المرات، حين تمكّن رانجيل وفريقه من اعتقال أحد أفراد العصابة، نصب لهم كيروش و30 شخصاً فخاً على طريق العودة إلى كامبو نوفو. كانوا مسلحين بقنابل المولوتوف وحاصروا سيارات الشرطة، مهدِّدين بإشعال النار بهم إذا لم يفرجوا عن زميلهم، حسب الإفادة التي قدمها رانجيل بعد قَسَم اليمين. استمرت المواجهة نحو ساعة من الوقت، تمكن رانجيل وقائد حرس الغابة من تهدئة كيروش، إلا أنهم أفرجوا عن المعتقل.

جرى تقديم الشكوى ضد كيروش ورفاقه في أكتوبر عام 2019، وقد أنكروا في ارتكابهم أي ذنب، وأُفرج عنهم في الربيع قبل موعد المحاكمة في إطار سعي الحكومة لإفراغ الزنازين نتيجة تفشي الوباء، فيما وُجّهت لهم أوامر بالبقاء بعيدين عن الغابة. ولكن إذا تعلّم رانجيل أي شيء في خلال السنوات العشرين الماضية، فهو أنه يوجد دائماً أحد ما يترصد بالغابة، بانتظار أن يشيح الحراس بنظرهم.

بؤرة ساخنة

تحت أشعة الشمس الحارقة، يحتمي عدد من المراقبين في ظلّ كوخين، يتدلى بينهما حبل يشكل البوابة المفترضة لغابة "جاكوندا" الوطنية، وهي محمية تمتد على مساحة 220 ألف هكتار تحولت إلى بؤرة ساخنة في إطار الحرب على الأرض. بعد الحبل، ينحدر الطرق إلى وادٍ ضيّق، حيث يجري نهر متعرج تحت جسر متين شُيّد باستخدام أخشاب أشجار عملاقة. هناك، يقفز الأطفال من الجسر إلى الماء، فيما تتولى امرأتان الصيد بواسطة شبكة بلاستيكية، وتغسل حفنة من النساء الأخريات الملابس على بُعد بضعة أمتار في مجرى المياه. يعود المسار ليرتفع ويقود إلى مخيم "تيرا بروميتيدا"، وتعني "أرض الميعاد"، حيث استقرت 200 عائلة في داخل الأدغال المحمية.

عند مدخل المخيم، تتمدد فيرناندا سانتانا البالغة من العمر 20 عاماً والحامل في شهرها الثامن على كرسي بلاستيكي في داخل كوخ مؤلف من غرفتين، يغطي فيه سعف النخيل السطح والجدران. تتمتع فيرناندا بشعر بنيّ أملس ينسدل إلى تحت كتفيها، وأظافر صناعية من الأكريليك، وتبدو هادئة رزينة. في الغرفة الثانية، يوجد كرسي طبيب أسنان أخضر اللون وبعض المعدات، ففي الخارج يعمل بعض الرجال على بناء عيادة سوف توضع فيها كلّ هذه التجهيزات.

نشأ هذا المخيم بسرعة، فلم تكَد تمرّ خمسة أشهر على وصول المستولين إلى الأراضي حتى بنوا كنيسة مزودة بمكبر للصوت، ونحو مئتي كوخ بتصميم متشابه ومنسق بشكل منظم. يضمّ المخيم أيضاً برجاً للإنترنت، ومولداً كهربائياً، ومدرسة، وحديقة خضراوات، وحمامات للنساء (الرجال يستحمون في النهر). وفي الكافتيريا يُعِدّ نحو ستّة طهاة طعام الغداء المكوّن من الأرز والحبوب واللحم والخضار، في أقدار حديدية منبعجة على موقدين خشبيين، وقد عُلّق جدول توزيع العمل على جذع شجرة يشكّل دعامة للسقف. أمّا غرفة المؤونة فهي مليئة بالمواد الغذائية التي جرى شراؤها بالجملة. ولدى سؤالها عن كيفية سداد تكلفة كلّ ذلك، قالت سانتانا إن كلّ شخص يسهم حسب قدرته.

لدى الانتهاء من تحضير الطعام، تخرج إحدى النساء وتنادي الآخرين، فيسارع نحوها العشرات حاملين أطباقهم البلاستيكية.

مواجهة الشرطة

تعرف سانتانا معظم هؤلاء الأشخاص منذ نعومة أظافرها، فهي تتحدر من قرية صغيرة تقع على مقربة من الغابة، غادرها جميع سكانها اليوم. وقالت سانتانا: "جميعهم هنا". بالنسبة إلى سكان القرية، بدت "جاكوندا" والأدغال العذراء المحيطة بها أشبه بتحدٍّ، فأقاموا معسكرات لعدة ليالٍ في الحقول على طرف الغابة وهم يناقشون الاستراتيجيات، بانتظار انضمام ما يكفي من العائلات إليهم حتى يضعوا أيديهم على الأرض، فقد رؤوا أنه كلما شارك أناس أكثر في الغزو أصبح من الأسهل عليهم محاربة محاولات الإخلاء القسرية. وكانوا على حق في ذلك، فبعد بضعة أشهر من استقرارهم في المكان أتت الشرطة وطلبت من الجميع المغادرة، فما كان من السكان إلا التجمع على الطريق الضيق واجتياز الجسر الخشبي، ثم لاقوا عناصر الشرطة وجهاً لوجه عند الحاجز. راح المحتشدون يرددون شعار "الأرض، الأرض، الأرض". ولدى مواجهة هذا الحشد الذي يفوقهم عدداً، عاد عناصر الشرطة إلى مركباتهم وغادروا المكان.

تتسم آلية قطع الغابات في البرازيل بالتعقيد، إذ يستحيل معرفة من يوجّه هذه الأعمال بالضبط. بالطبع يقف خلف جزء كبير منها المواطن البرازيلي العادي الطامع في الأرض، ولكن ذلك وحده لا يكفي لشرح حجم الدمار الضخم وتطور نوعية الهجمات مؤخراً. قبل بضعة عقود، حين أمكن الاستيلاء على الأراضي غير المملوكة من أي طرف، كان من السهل لأي مزارع أن يغرس بعض الأوتاد في الأرض ويعلن وضع يده عليها، إلا أن هذه الأراضي استُنفدت اليوم، ولم يبقَ من روندونيا إلا المحميات.

عصابات إجرامية

يتحدث المدّعون العامّون الذين يتولون قضايا بيئية عن عملية تحوّل البرازيليين الفقراء إلى جنود مشاة لصالح العصابات الإجرامية وشركات الأخشاب وقطاع الزراعة الصناعية، فما يجري هو أشبه بالحبكات الروائية التي يحلم كارلوس رانجيل بكتابتها لو سنحت له الفرصة للتقاعد.

قالت المدعية العامة السابقة في الولاية، أيدي ماريا موسير توركواتو لويز، إن "الأشخاص على الأرض لا يملكون الموارد المالية اللازمة لمثل هذه العمليات التي تراها". وأضافت: "هناك طرف ما يمولّهم". وبعد أن حاولت لمدة عقدين أن تتصدى للمستولين على الأراضي في "جاسي بارانا"، استسلمت في نهاية المطاف وغادرت الأمازون.

يقع في صلب عملية التزوير هذه نظام إدارة الأراضي البيزنطي الذي تركته "إنكرا" في خلال فترة التحول الفوضوي من الديكتاتورية إلى الديمقراطية. وقالت تاتيانا دي نورنونها فيرسياني ريبيرو، المدعية العامة الفيدرالية الرئيسية في قضية كيروش: "يوجد تفاوت هائل بين الواقع على الأرض وما يرد في وثائقنا". وأضافت: "اكتشفت العصابات الإجرامية كيف تزوّر الوثائق وتستغلّ الإرباك الحاصل".

ففي البداية، تتحقق العصابات الإجرامية من السجلات بحثاً عن ثغرات، مثل رخصة استخراج المطاط البالغ عمرها 100 سنة لصالح كيروش. وبعد الاستحصال على وثائق لا قيمة لها، يجنّدون عائلات يائسة ويقنعونها أنّ الأرض بانتظار من يضع يده عليها. ثم ينقلونهم إلى المحميات النائية ويعدونهم بتأمين التجهيزات والمواد الغذائية لهم. بالطبع، تواجه هذه العائلات اعتراضاً في المحاكم على استحواذهم على الأراضي، لكن الدعاوى تبقى معلقة لسنوات. وخلال هذا الوقت يتسع المعسكر ليتحول إلى قرى، ويصبح إخلاء مئات العائلات والأطفال أمراً بالغ التعقيد سياسياً. في غضون ذلك، ينهب العقل المدبر أخشاب الغابة، وحين ينتهي ينتقل إلى الهدف التالي. وبما أن كثيراً من العائلات لا يستطيع الاستمرار من دون داعم، تضطر هذه العائلات إلى التخلي عن الأرض التي قاتلت من أجلها بشراسة أو تُجبر على بيعها بأسعار بخسة لكبار المزارعين الذي يعملون في زراعة فول الصويا ويسعون إلى إنشاء إمبراطوريات من المزارع.

تقول سانتانا إنّ معسكر "تيرا بروميتيدا" ليس لديه أي قادة، وتضيف: "يريد هؤلاء الناس ببساطة ما يملكه الآخرون". ويأتي أشخاص من كلّ صوب للانضمام إليهم، فأحد الحراس وهو رجل في الخمسينيات من العمر، يرتدي نظارات بسلك، أتى من فنزويلا، البلد المنهار اقتصادياً.

تقسيم الأراضي

تقول كبيرة الطهاة في الكافيتيريا، وهي سيدة من بورتو فيلهو تُدعى إليسانجيلا (رفضت الكشف عم اسم عائلتها) إنها كانت تنتظر هذه الفرصة طوال حياتها. وأضافت: "ما إن سمعت عن ذلك حتى تركت كلّ شيء خلفي". وكان كثيرون قد سمعوا عن "تيرا بروميتيدا" من مجموعات على تطبيق "واتساب"، وتوجّه البعض منهم إلى هناك بعد مشاهدة قناة "يوتيوب" الخاصة بالمعسكر.

هم يخططون لتقسيم الأدغال إلى قطع أرض من عشرين هكتاراً، يجري تحويلها إلى مزارع عائلية، ويصرّون على حقهم في الحضور في هذه الأرض. وللدلالة على ذلك، تشير سانتانا بكلّ حماسة إلى علامة حديدية مجعدة مغروسة في الأرض في الفناء الخلفي لأحد الأكواخ وتحمل شعار "الأرض: 4، العلامة: 7"، كانت قد وضعتها "إنكرا". فربما كانت هذه العلامة جزءاً من مستوطنة في يوم من الأيام أو علامة من أيام مسح الأراضي، إلا أنها فقدت على الأرجح أي شرعية لدى تصنيف الغابة على أنها محمية. في الجهة المقابلة من المعسكر، تظهر الأخشاب المقطوعة والأرض المخترقة. وتبرز صور الأقمار الصناعية التي جمعتها مؤسسة "مراقبة الغابات الدولية" فقدان نقاط ساخنة من الغطاء الشجري على امتداد المحمية.

تقرّ سانتانا بأنه تُنهَب الأخشاب من الغابة، لكنها تؤكد أن المستوطنين ليسوا من يقف خلفك ذلك. وقالت: "ثمة منشرة أخشاب ضخمة قريبة، وهم يستخدموننا كعذر".

يُعرف نبهان غارسيا، مسؤول شؤون الأراضي في إدارة بولسونارو ضمن وزارة الزراعة، على أنه متحدث جريء، يتميز بشاربه الكثيف وميله إلى ارتداء سترات الصيد باللون الكاكي. في أحد أيام شهر يونيو توجه إلى حفل شواء يقيمه المزارعون في أرض المعارض "جي–بارانا" في روندونيا، حيث تجمّع الحشد تحت مظلة طويلة وسط صيحات التشجيع. كان مرأب السيارات المغبر مكتظاً بمركبات "تويوتا هيلوكس" و"فورد رينجر" رباعية الدفع، وإلى جانبها تُشوى عشرة الذبائح ببطء على الفحم.

سياسيون أصحاب إمبراطوريات

ضمّ الحشد سياسيين ومسؤولين في قطاع التعدين ومزارعين وسّعوا أنشطتهم لتشمل قطاع الطاقة الشمسية والبناء. ففي المجتمع البرازيلي الذي يُعتبر من الأكثر افتقاراً إلى العدالة في توزيع الثروة في العالم، هؤلاء هم الأشخاص الذين حققوا طموحاتهم، وشيدوا إمبراطوريات شاسعة. توجّه إليهم نبهان غارسيا بالقول: "احملوا البرازيل على أكتافكم وحافظوا عليها بعرق جبينكم". يمتلك بعض أولئك الحاضرين أراضيَ تمتد إلى عشرات الآلاف من الهكتارات، وما كانوا ليتمكنوا من الاستحواذ على مثل هذه المساحة الواسعة من الأراضي إلا من خلال حصولهم عليها في خلال الحقبة الدكتاتورية، أو استحواذهم عليها من المزارعين الصغار الذين فشلت مشارعهم أو سيطرتهم على أرض ليس فيها أي صكّ ملكية. هؤلاء هم الأشخاص الذين يريد بولسونارو أن يدعمهم.

فبموجب تشريع تقدم به الرئيس في عام 2019، ويُناقَش حالياً في المجلس الوطني، سيتمكن المزارعون على المستوى الصناعي من الاستفادة من غسل الأراضي القانوني والاستحصال على سندات ملكية أراضٍ عامة كانت مخصصة في الأصل للمستوطنات أو المحميات. ويفتح اقتراح القانون هذا الباب أمام مزيد من المزارعين الذين يحتلون أراضيَ تتراوح مساحتها بين 300 و2500 هكتار. وتبلغ مساحة الأراضي مجتمعة 16 مليون هكتار إضافية من أراضي الأمازون التي يمكن إصدار سندات ملكية فيها، بينها أراض أُزيلت الغابات فيها في عام 2012، إلا أن التغيير الأخطر حسب راووني راجاو، خبير إدارة الأراضي والبيئة في الجامعة الفيدرالية في ميناس غيريس، يتمثل في سعي الحكومة لإلغاء إلزامية التحقق من الأراضي، ما يعني أن المسؤولين في "إنكرا" لن يعودوا مُلزَمين الذهاب إلى الميدان للتحقق من العقارات قبل إصدار صكوك الملكية، بل سيعتمدون فقط على صور الأقمار الصناعية. وقال راجاو: "من صالح المستولين على الأراضي أن تتوقف (إنكرا) عن القيام بعملها"، وأضاف: "ذلك دافع لهم ليستمروا في سرقة الأراضي".

انطلاقاً من موقعه سكرتيراً خاصاً لشؤون الأراضي، يقود نبهان غارسيا الاندفاعة نحو حشد الدعم لمشروع القانون. وعلى الرغم من عدم امتلاكه أي خبرة سياسية سابقة باستثناء محاولة ترشح فاشلة لعضوية المجلس الوطني في عام 2006، فإنه تمكّن من حشد أتباع يكادون يقدسونه في أوساط زملائه المزارعين، بالإضافة إلى تمتعه بنفوذ واسع لدى الرئيس، إذ كان الاثنان قد بنيا صداقة خلال حملة بولسونارو الرئاسية في عام 2018 انطلاقاً من حبهما للأسلحة وكرههما للحكومات الأجنبية التي يقولون إنها تشعر بالتهديد من القدرات الزراعية الفائقة للبرازيل.

أهداف جيوسياسية

يقول نبهان غارسيا إن "خلف كلّ هذا، كلّ هذه الأكاذيب عن الأمازون، تخاض حرب قذرة تغذيها الجيوسياسات والنفاق". ويضيف: "لا توجد أي دولة أخرى في العالم قادرة على تنمية الإنتاج بما يوازي قدرة البرازيل، وهذا يخيف الآخرين".

وكانت مثل هذه الحجج والذرائع قد تكرر كثيراً في حفل الشواء في "جي–بارانا"، فقد تحدث أحد المزارعين عن صناعة الحليب والأجبان المزدهرة في جنوب البرازيل التي لا تريد أن ينافسها الشمال، فيما يقول آخر إن مزارعي فول الصويا الأمريكيين مستاؤون لأن نظراءهم البرازيليين باتوا يهددون الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين، لذا يُشهِّرون بالبرازيل، فهُم يرون أنه لا يُصوَّر الوضع في الأمازون بشكل عادل أمام العالم، وأن نسبة الأراضي المحروقة ليست بالسوء الذي تقدمه وسائل الإعلام، وأن الطريقة الأفضل لحماية الغابة هي في تعيين ملاك الأراضي الخاصة الذين يملكون الموارد مسؤولين عن هذه الغابة. وقال روشا، عمدة روندونيا، في مقابلة خلال حفل الشواء: "حين يكون لديك صكّ ملكية وتستطيع قول (هذه الأرض لي)، يمكن لذلك وحده أن يضع حداً للحرائق غير القانونية".

كان من بين رعاة الحفل رابطة مالكي الأراضي الريفيين برئاسة أديليو باروفالدي، أحد عمالقة صناعة اللحوم الذي يملك مزارع تمتد إلى مساحة نحو 40 ألف هكتار. وكان قبل بضعة أيام من حفل الشواء قد زار أرضاً يملكها تمتد إلى مساحة 9 آلاف هكتار كانت في الماضي أرضاً فيدرالية عامة، وشرح أنه استحوذ عليها قبل ثماني سنوات من مزارعين صغار تخلّوا عنها. واليوم يُعِدّ لبناء حظائر تتسع لـ15 ألف رأس ماشية.

ينطلق مؤيدو الملكية الخاصة من ذريعة محورية بأن المالكين سوف يصبح لديهم الحافز لتطبيق قانون الغابات البرازيلي. فبموجب القانون، على مالكي الأراضي أن يحافظوا على 80% من أرضهم، فيما يتيح قطع الغابات في الأرض المتبقية. في حالة باروفالدي، تمثل هذه المساحة 30 ألف هكتار من الأدغال التي يقول إنه يدفع المال من أجل الحفاظ عليها، ويوظف حراساً من أجل حمايتها من عصابات الغزاة الذين يحاولون تدميرها. وقال: "أنا أدفع مقابل الأمن والضرائب عن تلك الأرض التي لا تحقق لي أي أرباح".

نزاعات بين المالكين

هذا وكانت النزاعات العنيفة على الأراضي الخاصة قد تصاعدت في الآونة الأخيرة، وقبل بضعة أيام فقط من حفل الشواء، جرى استدعاء الحرس الوطني لروندونيا لأداء مهمة لمدة 90 يوماً. وهنا يشددّ نبهان غارسيا والمزارعون المؤيدون له على ضرورة التمييز لدى الحديث عن المستولين على الأراضي. فبرأيهم ثمة فارق كبير بين المزارعين الذين يضعون أيديهم على أراض عامة، والمتشددين اليساريين الذين يستهدفون أراضاً خاصة، بغض النظر عما إذا كانت فيها صكوك ملكية أو لا.

يُذكر أن اسم نبهان غارسيا كان قد ورد في تحقيق في المجلس الوطني عام 2005 على خلفية الاشتباه بتورطه مع ميليشيات طاردت محتلّي مزارع في مسقط رأسه في ساو باولو، إلا أنه نفى التهمة، فيما لم توجَّه أي تهم رسمية إليه. مع ذلك، هو يدافع بشدّة عن استخدام القوة، وقال: "أرض الإنسان هي حياته وحياة عائلته. في حال تعدى شخص ما على أرضك، فإنك تملك الحق بالتصدي لهذا التعدي، وحتى قتله".

طلبات ملكية بالآلاف

في غضون ذلك، ينتظر 167 ألف طلب صكوك ملكية قراراً يصدر عن "إنكرا" للبتّ في وضعها، مع العلم أن ما يصل إلى 12% من هذه الطلبات تتعلق بمزارع لا يسمح القانون حالياً بإنشائها، وتغطي مساحة 60% من الأراضي المطالب بها. حتى إن 30% من الأراضي لم تكن تستخدم قبل عام 2018، ما يعني أن تعديل القانون لا يهدف إلى منح الأمان للعائلات التي تعيش في هذه الأماكن منذ عقود، حسب راجاو. بدل ذلك، يهدف القانون إلى العفو عن تعديات أحدث وأكبر حجماً. وحين توافق "إنكرا" على إصدار سندات الملكية، فهذا يعني أن المالك اشترى الأرض من الحكومة الفيدرالية. مثلاً في إحدى البلديات في ولاية بارا، لا يتعدى سعر هكتار الأراضي من "إنكرا" 46 ريالاً برازيلياً، إلا أن سعر الأرض أغلى بـ100 مرة في السوق المفتوحة.

وحسب قاعدة بيانات "إنكرا"، يطالب باروفالدي بصك ملكية 470 فداناً من الأراضي الحكومية في غرب بورتو فيلهو. وكان نحو 200 سياسي في الأمازون قد تقدموا بطلبات للاستحصال على سندات ملكية أراضٍ خاصة، بينهم عضو في برلمان الولاية في روندونيا كان قد صوت لصالح مشروع "جاسي بارانا". كما أن اثنين على الأقل من المطالب العالقة يخصّان أراضيَ في داخل الغابات الوطنية، حتى إنّ أحد أعضاء المجلس الوطني البرازيلي كان قد أدرج الأراضي التي تنتظر إصدار صكوك الملكية ضمن برنامجه الانتخابي.

لا يزال أمام تحليل طلبات سندات الملكية كثير حتى ينتهي، وذلك يعود بشكل أساسي إلى صعوبة الاستحصال على البيانات حول الأراضي. وكانت حكومة بولسونارو قد استخدمت الوباء من أجل التغطية على مساعيها للحدّ من إمكانية الاطلاع على المعلومات العامة المتعلقة بالاستيلاء على الأراضي، وبدت ولاية روندونيا بين الأكثر تشدداً في إخفاء الوثائق.

تسارع الدمار

الأمر الأكيد هو أن الدمار يتسارع. في السنوات الماضية، كلّف بولسونارو وزارة الزراعة الإشراف على الهيئة المنظمة البيئية، وخفف من ميزانية الإطفاء والإدارة، وألغى خططاً لحماية مساحات واسعة من الأراضي المأهولة بالسكان الأصليين، واقترح فتح أراضي السكان الأصليين أمام أنشطة التعدين.

جرى تدمير ما يصل إلى نحو 10500 كيلومتر مربع من الغابات المطيرة في الأشهر الستة الأولى من عام 2021، ما سيتجاوز المساحة المدمرة الأقصى خلال 11 عاماً التي كانت قد سجلت في عام 2020.

وكانت دراسة صدرت في يوليو عن المعهد الوطني لبحوث الفضاء في البرازيل قد أظهرت أن المناطق التي شهدت الحرائق الأسوأ في الأمازون قد تحولت إلى بواعث صافية للكربون، وباتت تسهم بالتغير المناخي بدل المساعدة في التصدي له. تجدر الإشارة إلى أن كثيراً من عمليات الاستحواذ على الأراضي يتجاوز حتى ما كانت إدارة بولسونارو تعتزم الإعفاء عنه. بالتالي، فإن الاطمئنان إلى أن منح صكوك ملكية مغسولة بيئياً في الغابات الوطنية هو أمر غير وارد حالياً، وما هي إلا مسألة وقت حتى يتغير. ففي ظلّ غياب أي عواقب حقيقية أو تطبيق للقانون، ما الذي يمنع من الاستيلاء على الأراضي الآن؟

وقال راجاو: "المذهل أن هذه جرائم اعترف بها المرتكبون"، وأضاف: "يقول شخص ما سوف أستولي على هذه الأرض، ويُكافأ لأن المشرعين يواصلون تعديل القانون ليتناسب مع ذلك".

يسير إتمار لوبيس مانويل لمسافة نصف كيلومتر على طريق ترابي قرب رقعة من الغابة لا تزال صامدة في "جاسي بارانا". وكان مانويل البالغ من العمر 54 عاماً قد اشترى الأرض التي تبلغ مساحتها 100 هكتار في عام 2005 مقابل 1200 ريال برازيلي من رجل لم يكن له الحق في امتلاكها أصلاً. وقد أُبرمت الصفقة بمصافحة وليس من خلال أي توثيق رسمي. وهو يقول إنه لم تكن لديه أي فكرة بأن الأرض تقع ضمن محمية تابعة للولاية، ولكن من ناحية أخرى لم يطلب أحد منه المغادرة.

غياب العدالة

قام مانويل بإنشاء مرعى صغير، إذ يرعى جاره أبقاره مقابل 25 ريالاً عن الرأس في الشهر، إلا أن تركيزه ينصبّ حالياً على قسم الغابات في أرضه. وقال: "هنا تبدأ أحلامي"، فالمكان يتسع لبستان يضمّ 3 آلاف شجرة كاكاو ستمكّنه من كسب رزق جيد، بالإضافة إلى تربية الدجاج والخنازير والبقر الحلوب، بما يمكّنه من الاعتناء بعائلته، إلا أنه لا يرغب في ذلك بطريقة غير شرعية من خلال قطع الأشجار وحرق الأرض (بالأخص لأنه لا يريد تغريمه من قِبل إباما)، لكن حلمه قد يضيع منه، إذ يقول: "هم لا يمنحوننا القروض من أجل إنتاج الكاكاو، بل فقط الماشية... لا يمكن إنتاج الماشية في الأدغال، يمكن إنتاج الكاكاو لا الماشية".

غالباً ما يقول المشرعون الداعمون لتطوير الأمازون إنهم يسعون إلى مساعدة أشخاص مثل مانويل، إلا أنهم يكررون هذا القول منذ عقود، وفي غضون ذلك تستمر فجوة العدالة في الاتساع. ففي ظلّ غياب البرامج الحكومية التي تدعم المواطنين للاستفادة من الأرض من خلال أنشطة مستدامة بيئياً، على الأرجح سوف يستسلم مانويل وغيره في نهاية المطاف، فيقطعون كامل الأشجار أو يتخلون عن الأرض. وقد بدأ بالفعل إدماج المزارع في النصف الشرقي من "جاسي بارانا" وتحويلها إلى مزارع صناعية ضخمة.

قال مانويل: "معظم المزارع الصغيرة يُباع في النهاية إلى المزارع الكبرى.. نحن غير قادرين على الاستمرار، أمّا هم فقادرون على ذلك".