ماكس فيبر وحتمية التطعيم الإلزامي ضد "كورونا"

عودة انتشار الفيروس تثير ذعر أوروبا
عودة انتشار الفيروس تثير ذعر أوروبا المصدر: بلومبرغ
Andreas Kluth
Andreas Kluth

Columnist at Bloomberg Opinion. Previously editor-in-chief of Handelsblatt Global; 20 years at The Economist. Author of "Hannibal and Me."

تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

هذه مقايضة من الحياة الواقعية أريدك أن تفكر فيها ملياً. لنفترض أنك صانع سياسة وأنك مثلي، ليبرالي كلاسيكي، أي شخص يعطي بشكل عام قيمة استثنائية للحرية الفردية. أنت الآن تتعامل مع موجة أخرى من عدوى فيروس كورونا وتنظر إلى السيناريوهات التي وضعها مستشاروك أمامك.

أولاً، عليك أن تحافظ على أن تكون التطعيمات ضد "كوفيد-19" طوعية تماماً، لحماية حرية الأشخاص في اتخاذ قراراتهم بأنفسهم، سواء كانت تلك القرارات سليمة أو غير سليمة، لكن النماذج الإحصائية تقول إنّ هذا المسار يؤدي إلى نسبة تلقيح غير كافية، وزيادة في حالات العلاج في المستشفيات من شأنها أن ترهق المراكز الصحية، وتتطلب من الأطباء اتخاذ قرارات فرز قاسية.

سيتعين على المستشفيات أن تختار من ستعالجهم من بين مرضى "كوفيد"، وأيضاً بينهم وبين المرضى الذين يعانون من جميع الحالات الأخرى. على سبيل المثال، سيتعين عليهم تأجيل رعاية مرضى السرطان لأنه لا توجد أسرّة أو أطقم عمل كافية. تخبرك إحصائياتك أن عديداً من هؤلاء الأشخاص سيموتون في حالة وفاة يمكن منع حدوثها دون قرار منهم.

اقرأ أيضاً: ضربة جديدة لسلاسل التوريد العالمية بسبب انتشار "دلتا" في آسيا

لتجنب هذا السيناريو يمكنك تجاوز "غرائزك الليبرالية"، وفرض التطعيم الإلزامي إما لمهن معينة وإما لجميع السكان، باستثناء أولئك الأشخاص الذين -لأسباب طبية مثبتة- لا يستطيعون الحصول على اللقاحات. بالتالي سيعني ذلك تبني الإجبار الذي تكرهه بالأساس، والذي قد يؤدي أيضاً إلى مظاهرات واضطراب اجتماعي، وهو آخر ما تريده.

ما زلت أنت صاحب القرار، وعليك أن تزِن حريات وحقوق كل فرد في مجتمعك. ليس في بعض الكتب الفلسفية، بل هنا والآن.

أزمة النمسا

هذا هو الخيار الذي يواجهه الآن صناع القرار في النمسا وسلوفاكيا وألمانيا ودول أخرى تعاني من أسوأ تفشٍّ لفيروس "كورونا" حتى الآن. قررت النمسا هذا الشهر في البداية فرض إغلاق جديد على الأشخاص غير المطعمين فقط، ثم وسّعته ليشمل جميع السكان. في فبراير، ستصبح النمسا الدولة الأولى التي تجعل اللقاح إلزامياً، تفكر سلوفاكيا في نفس الخطوة، مثل بعض أجزاء ألمانيا، ودول أخرى في المنطقة. من غير المفاجئ أن الأوروبيين يحتجّون مرة أخرى في الشوارع، من فيينا إلى بروكسل، وصولاً إلى روتردام.

اقرأ أيضاً: النمسا تأمر بإغلاق وطنيّ رابع وتطعيمات إجبارية ضد كوفيد

هل كنّا لنتخذ أنا أو أنت، كمحبّين للحرية، هذه الخطوة النمساوية؟ عندما فكرت في هذا السؤال في شهر يونيو قلت إنه في حين أن لقول "نعم" حجة أخلاقية وقانونية قوية، كان من الحكمة الاستمرار في التطعيم بشكل طوعي. ولا يزال عقلي يخبرني أن هذه هي الطريقة الأفضل، لكن قلبي الآن يقول شيئاً آخر.

هذا الصراع الداخلي لديّ وصفه عالِم الاجتماع الألماني ماكس فيبر بأفضل ما يكون في خطاب ألقاه في مكتبة ميونيخ عام 1919، عندما كانت ألمانيا مهددة بالانزلاق إلى الفوضى الثورية التي أعقبت الحرب، إذ وصف فيبر مقاربتين للسياسة، تُرجمتا بشكل غريب إلى حد ما على أنهما "أخلاقيات القناعة" و"أخلاقيات المسؤولية".

معسكر القناعة

لاحظ فيبر أن صانعي السياسة في معسكر القناعة يهتمّون قبل كل شيء بطهارتهم الأيديولوجية أو الأخلاقية، إذ يريدون أن يكونوا على صواب، بغضّ النظر عن العواقب المترتبة على قراراتهم في العالم الحقيقي. وعلى حد تعبير فيبر، "إذا أدى فعل حسن النية إلى نتائج سيئة، فعندئذٍ، في نظر الفاعل، ليس هو ولكن العالم، أو غباء الرجال الآخرين، أو إرادة الله التي خلقتهم على هذا النحو، هي المسؤولة عن الشر".

على النقيض من ذلك، فإن أولئك الذين يتمتعون بعقلية المسؤولية، "يأخذون في الاعتبار بدقة متوسط أوجه القصور لدى الأشخاص". ولا يتمتع الأشخاص المسؤولون حتى "بالحق في افتراض صلاحهم وكمالهم مسبقاً". بدلاً من ذلك، هم يفهمون أنه يجب عليهم أن يتحملوا المسؤولية عن جميع عواقب قراراتهم، بما في ذلك القرارات غير المقصودة والتي لا يمكن التنبؤ بها.

في ظروف اليوم، يشمل متوسط أوجه القصور قابلية تأثر كثير من الناس بنظريات المؤامرة والمعلومات المضللة. يمكن التعبير عن العواقب في المقايضات الفعلية، مثل السيناريو الذي تحدثت عنه أعلاه.

اقرأ أيضاً: ميركل: ارتفاع إصابات فيروس كورونا "أسوأ من أي شيء رأيناه"

هناك كثير من المقايضات الأخرى التي يجب مراعاتها. على سبيل المثال، إذا أدى فرض التطعيم الإلزامي إلى إبطاء حالات العلاج في المستشفيات بوتيرة يمكن التحكم فيها، فسيؤدي عندها إلى منع تجديد إغلاق المدارس.

تذكّر أنه طَوال فترة الوباء لم يسأل أحد الأطفال على الإطلاق قبل تعليق حقوقهم. لقد كانوا يعانون، إذ تخلّف كثير منهم، لا سيما أولئك الذين ينتمون إلى أُسَر فقيرة، كثيراً عن الركب الأكاديمي، ويواجهون آفاقاً أسوأ في حياتهم العادية والمهنية. بالنسبة إلى بعضهم، ربما كانت المدرسة بالنسبة إليهم وسيلة للهروب من أُسَر مُختلّة، بسبب الإساءة إليهم. على الصعيد العالمي، تضاعف الاكتئاب والقلق بين الأطفال خلال الجائحة إلى ما يقدر بنحو 25.2% و20.5% على التوالي.

اقرأ أيضاً: "كوفيد" سرق 28 مليون سنة من حياة سكان 31 دولة في العام الماضي

لا يمكن أن يكون التطعيم الإلزامي هو الكلمة الفصل. يجب أن يكون مثل هذا القرار الصعب جزءاً لا يتجزأ من آلاف الخطوات الأخرى، بدءاً من تقييم كيفية تطبيق المتطلبات إلى بناء قدرة المراكز الصحية وإيصال المعلومات المتعلقة بعلم التطعيم سريع التغير.

ومع ذلك يبدو أنه لا توجد طريقة لتجنب تفويضات التطعيم الإلزامي في بعض أجزاء العالم، إذا أردنا هزيمة هذا الفيروس في مرحلة ما. قد تنفر قناعاتنا من تلك الخطوة، لكن إحساسنا بالمسؤولية يجب أن يسود. أنا متأكد من أن ماكس فيبر سيتفق مع ذلك.