أسباب بشرية وراء أزمة البحوث المالية

هل حفيف العشب موثوق به بما يكفي من الناحية الإحصائية لكي يقفز الغزال ويجري هارباً؟
هل حفيف العشب موثوق به بما يكفي من الناحية الإحصائية لكي يقفز الغزال ويجري هارباً؟ المصدر: غيتي إيمجز
Matthew Brooker
Matthew Brooker

Matthew Brooker is an editor with Bloomberg Opinion. He previously was a columnist, editor and bureau chief for Bloomberg News. Before joining Bloomberg, he worked for the South China Morning Post. He is a CFA charterholder.

تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

يدخل البحث المالي مرحلة شائكة، حيث وضع واحد من الأساتذة المؤثرين، تقديراً بأن نصف الإستراتيجيات الخاصة بالتغلب على مستويات السوق التي يجري نشرها في المجلات العلمية الرائدة، يعتبر فاشلاً. لا يجب أن يقسى الأكاديميون بشدة على أنفسهم. يعود الأمر في مشاهدة أنماط الاستثمار وبناء سرديات تحيط بأحداث عشوائية أساساً إلى الطبيعة البشرية فقط – تماماً كما يدرك الصحفيون ذلك جيداً، من بين آخرين.

اقرأ أيضاً: هذا الباحث يتوقع استمرار الأسهم الأمريكية بالزئير و5000 نقطة لمؤشر "S&P500"

منذ منتصف العقد الأول من القرن الـ21، بدأت الشكوك المحيطة بالتمويل الأكاديمي تنعكس صورتها في "أزمة النسخ" الأوسع على صعيد مجال البحث العلمي. في حال ثبتت صحة نتائج الدراسة، فمن المفترض أن يكون بإمكان الباحثين الآخرين استنساخها. في مجالات تتضمن علم النفس والطب، جرى اكتشاف أن أوراق بحثية عديدة لا تجتاز ذلك الامتحان. لم تأت عملية التدقيق ذاتها المطبقة على البحوث في القطاع المالي، أقل تسامحاً.

اقرأ المزيد: "جي بي مورغان": توقعات بتعافي الاقتصاد العالمي لكنها محفوفة بمخاطر

وفقاً لما كتب كامبل هارفي، الذي يعمل أستاذاً في جامعة "ديوك"، وهو محرر سابق في "المجلة المالية" المصنفة من المستوى الأول، في بحث له يحمل عنوان: "عليك أن تكون متشككاً في أبحاث إدارة الأصول"، فإن نصف النتائج الصادرة عن أبحاث تجريبية خاصة بمجال التمويل –تناولت ما يزيد على 400 عامل مؤثر افتراضي للتغلب على مستويات السوق- كانت خاطئة.

تأثير الحوافز

يقوم هارفي، الذي يعمل أيضاً مستشاراً لشركات إدارة أصول، ومن بينها "ريسيرش أفيليتس" (Research Affiliates)، بإلقاء اللائمة على التأثير المشوّه للحوافز. تدفع حاجة المؤلفين إلى حصولهم على ترقية وتثبيتهم وتقدمهم على نحو أكثر إلى نشر الأبحاث. يتشجع الباحثون بفضل ذلك على تغيير الخيارات الخاصة بهم حول البيانات والمنهجية البحثية لاستخلاص نتائج لافتة للانتباه، من أجل اجتياز اختبار الأهمية الإحصائية للبحث -وهو عمل يطلق عليه "تعقب الدلالة" باستخدام مصطلح الإحصائيين.

لا تعد بالضرورة النتيجة ذات الدلالة الإحصائية ذات معنى أو يمكن الوثوق بها. هي تصف فقط القيمة الاحتمالية، في ظل درجة شائعة من الدلالة تكون 0.05، احتمالية وجود نتيجة بالصدفة. كلما اختبرت وغيّرت في متغيراتك، ارتفعت احتمالية استخلاص نتيجة تبدو مقنعة، بيد أنها واقعياً عبارة عن صدفة بحتة. نشر موقع "فايف ثيرتي إيتي" ( FiveThirtyEight) رسماً بيانياً تفاعلياً كشف بطريقة واضحة عن عدم منطقية عمليات "تعقب الدلالة". يستقرأ الرسم البياني مسألة تدور حول تحقيق اقتصاد الولايات المتحدة أداء أفضل أثناء تولي الجمهوريين أو الديمقراطيين سدة الحكم، وذلك باستعمال بيانات ترجع لسنة 1948. المزحة هي أن القراء يمكنهم استخلاص نتيجة ذات دلالة إحصائية (تكون القيمة محتملة 0.05، بحيث تكون كافية لنشرها في مجلة أكاديمية)، مظهرين أن كلا الفرضيتين البحثيتين صحيحتان، بناء على المتغيرات التي يقومون باختيارها.

التلاعب بمنهجية البحث

قال هارفي إنه بإمكان الباحثين الأكاديميين التلاعب بالمنهجية، وتوجد ممارسات عديدة تندرج تحت قاعدة تعقب الدلالة تعد بمثابة سوء سلوك بحثي. ربما يوجد تفسير معتدل على نحو أكثر بالنسبة إلى بعض الحالات على أقل تقدير. رغم ذلك، وفي الواقع من المحتمل للغاية، أن يؤمن الباحثون الماليون بنظرياتهم ويطورونها بنية حسنة حيث جرى فقط تضليلهم من خلال الأدمغة البشرية الخاصة بهم وهي عرضة للخطأ.

نحن مبرمجون على متابعة الأنماط وبناء الروايات وإيجاد العلاقات السببية الموجودة في البيئة الخاصة بنا. توجد أسباب تطويرية قوية لحدوث ذلك. يوجد عالم معقد هناك، والبشر غارقون وسط معلومات عرضية وعشوائية. يعتبر التعرف على الأنماط من خلال بيانات غير مكتملة طريقة تسمح بتبسيط بيئتنا، وجعلها قابلة للإدارة - وفي بعض الأحيان البقاء على قيد الحياة.

عليك أن تتخيل غزالا وسط حشائش السافانا وهي تسمع صوت الحفيف وسط الحشائش وتهرب. يمكن أن يكون ذلك الصوت ناجماً عن حركة الريح فقط. تسبب التعرف غير الصحيح على الأنماط في حدوث خطأ في التعرف على صوت فهد. ومع ذلك، سيظل هذا الغزال حياً لمدة زمنية أطول مقارنة بذلك الغزال الذي لم يتعلم أن يقوم بالركض بمجرد سماع خشخشة الحشائش. تبقى الخسارة الناجمة عن مشاهدة نمط غير موجود أقل بطريقة هائلة مقارنة بتداعيات عدم رؤية نمط موجود بالفعل. لا يبالي هارفي كثيراً بالحجة التطويرية (جاء مثال الغزال في واحدة من خطاباته المهمة). يقوم باستعمالها لضرب المثل على سبب بروز عوامل عديدة غير ناجحة بالنسبة إلى الأبحاث المالية: توجد لدينا نزعة تطويرية نحو الأخطاء التي تأتي كخطأ على نحو إيجابي (النوع الأول من مصطلح الإحصاء)، عوضاً عن التي تأتي كخطأ على نحو سلبي (النوع الثاني).

انتقادات نسيم طالب

وضع نسيم نيكولاس طالب كتاباً عن تلك الظاهرة بالكامل تحت عنوان "مخدوع بالعشوائية: الدور الخفي للفرصة في الحياة والأسواق"، والذي وجه نقداً شديداً لميل الصحفيين المتخصصين في المجال المالي لعرض تفسيرات سببية لتحركات السوق التي هي في أساسها عبارة عن ضوضاء ببساطة. بينما النقد الموجه من طالب يعد قوياً من الناحية الإحصائية، إلا أنه يعوزه التنامي عملياً للتطوير الحتمي الذي يتعرض له صحفيو الأخبار المالية فوراً، والذين ربما لا يملكون وظائف لمدة زمنية طويلة في حال كان بإمكانهم فقط كتابة أن السوق قد تحرك خطوة ليست ذات أهمية دون وجود سبب.

يقوم البشر بسرد الروايات لأنها أسلوب فعال في جعل العالم بسيطاً ونشر المعرفة داخل الفئات الاجتماعية المتفوقة، إلى جانب أسباب أخرى. يعتبر القيام بأي عملية سرد منشأة تحت ضغط من ضيق الوقت حتماً، عملية تبسيطية باستعمال المعرفة الأفضل المتوافرة في الوقت الراهن، ومن الممكن توقع القيام بتدقيقها مع توافر مزيد من المعرفة. بيد أنه إذا كانت لدى كتّاب التاريخ الأوائل أحقية في بعض التراخي، فهل بالتأكيد لا يكون لدى الباحثين الأكاديميين، الذين يخضعون لتدقيق أكثر شدة، مثل ذلك العذر؟

إثبات الخطأ

لا يعد ذلك صحيحاً. ربما توجد أزمة في جودة البحوث الأكاديمية في المجال المالي (يتنازع البعض فيما بينهم حول ادعاء هارفي) بيد أن هذا لا يبرز بطرقة حاسمة عبر حقيقة أن نتائج عديدة تفشل في التماسك. لا تتقدم العلوم من خلال التأسيس لحقائق وقناعات لا تكون قابلة للتحدي، ولكن عبر مراجعة نفسها بطريقة مكررة. تعتبر أي فرضية ذات طبيعة مؤقتة، وتكون مقبولة على أساس صحتها فقط لحين ظهور فرضية أفضل منها تتمتع بقوة تفسيرية وتنبؤية متفوقة عليها. وعلى حد قول العالم الفيزيائي ريتشارد فاينمان: "نحاول أن نقوم بإثبات أننا على خطأ في أسرع وقت ممكن، لأن ذلك هو الأسلوب الوحيد الذي يجعلنا قادرين على إحراز تقدم".

في إطار ذلك، فإن القيام بالكشف عن نتائج عديدة خطأ للأبحاث في مجال التمويل، يستوجب معه القيام بالاحتفال. ووفقاً لهذه النتيجة، بات لدينا ذكاء في ما يرتبط بالأسواق أكثر بالمقارنة بما كنا عليه قبل إثبات عدم صحتها. يهتم مستهلكو الدراسات المتعلقة بطريقة التغلب على مستويات السوق بطريقة قوية بالتطوير الخاص بتلك العملية. في حال عدم نجاح هذه الإستراتيجية، فسيفقدون المال. وفي ظل استمرار وجود الحوافز، يعد ذلك شيئاً مهماً. في هذه الأثناء، من المحتمل أن تكون نصيحة هارفي حول البحوث الخاصة بإدارة الأصول جيدة. عليك أن تكون متشككاً.