النقد يحتضر لكننا لم نستعد لدفنه بعد

لن تتمكن السلطات من حماية المستهلكين من الاستغلال إن كانت الأموال المتداولة خاصة وتسيطر عليها التجارة الإلكترونية ومنصات التواصل الاجتماعي

أوراق نقدية للين الياباني والدولار الأمريكي
أوراق نقدية للين الياباني والدولار الأمريكي المصور: كيث بيدفورد / بلومبرغ
Andy Mukherjee
Andy Mukherjee

Andy Mukherjee is a Bloomberg Opinion columnist covering industrial companies and financial services. He previously was a columnist for Reuters Breakingviews. He has also worked for the Straits Times, ET NOW and Bloomberg News.

تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

زوال الأوراق النقدية بات وشيكاً، لكن علينا كمستهلكين أن نأمل بألا تأتي نهايتها بأقرب مما يجب.

لم تكن جائحة كوفيد-19 وراء اضمحلال وسيلة الدفع الرائجة، بيد أنها سرعت من سيرنا باتجاه كنّا ماضين فيه. بدأ ستيف جوبز بقتل الحاجة للأوراق النقدية حين أماط النقاب عن أول "أيفون" في 2007، كما ستدق السيارات ذاتية القيادة والثلاجات التي تطلب البقالة ذاتياً وصورنا الافتراضية في ميتافيرس المسامير الأخيرة في نعش النقد.

كما حوّلت الجائحة 5 تريليون دولار من مبيعات التجزئة عالمياً من التسوق المباشر إلى الشراء عبر الإنترنت. إلى حد أن التعامل بجزء كبير من هذا المبلغ كان نقداً (47% في منطقة اليورو) لكن فكرة أن العملة الصادرة عن البنك المركزي ضرورة لشراء الحاجات اليومية تلقت ضربة موجعة.

بعد تقاضي راتبه بـ"بتكوين".. عمدة ميامي يسعى لتوسيع استخدام العملة المشفرة

أدت القيود المفروضة على التنقل والخوف من التقاط الجراثيم نتيجة التعامل بالعملة الورقية إلى تغيير العادات بعد طفرة في تجميع النقد احترازياً في البداية.

أصبح ملايين المستهلكين وآلاف التجار مستخدمين جدداً لأنظمة الدفع عبر الإنترنت في الأماكن التي أعطت فيها الحكومات قسائم لزيادة الإنفاق، كما هو الحال في هونغ كونغ، وذلك للاستفادة من التوزيعات. يُرجح أن يستمر الكثيرون باستخدام هذه الطرق الجديدة لتسديد الفواتير.

الصين والهند

لكن ما مدى أهمية هذه التغييرات في المخطط العام للأشياء؟ يُوفّر المسار المختلف للأوراق النقدية في الصين والهند تجربة طبيعية لقياس الأهمية النسبية للصدمات المؤقتة والتغير التقني المطرد.

يُشار إلى أن الاستخدام النقدي في الهند انخفض بعدما ألغى رئيس الوزراء ناريندرا مودي 86% من العملة القانونية المتداولة بين ليلة وضحاها في تجربة اقتصادية فاشلة. كان ذلك قبل خمس سنوات. أما راهناً فالدفع الرقمي في ازدهار، إلا أن النقد عاد ليشكل 14% من الأموال الواسعة المتداولة في الاقتصاد، كما كان الحال قبل خفض عدد الأوراق النقدية. في الصين، حيث انحسرت أهمية العملة الملموسة بسبب الانتشار المتزايد لاستخدام تطبيقات "علي بيه" (Alipay) و"وي تشات بيه" (WeChat Pay)، فإن سندات دين البنك المركزي نسبة للحساب العام تبلغ 4% فقط من الأموال.


هبوط بتكوين يسلِّط الضوء على مخاطر تقاضي الرواتب بالعملات المشفَّرة

يفتقر التقدم التقني إلى دراما الصدمة السلوكية، إلا أنه ليس أقل إثارة. كما يُذكّرنا جيريمي بالكين ونيها واتاس من شركة "جيه بي مورغان تشيس أند كو"، فإن أسرع طريقة لنقل الأموال من نيويورك إلى لندن في 2010 كانت ركوب طائرة من مطار جون كينيدي إلى مطار هيثرو وتسليمها شخصياً. يُشير تقريرهما، الذي يحمل عنواناً استفزازياً "المدفوعات تلتهم العالم"، إلى تحولات عديدة تحدث بانسجام تام. في الصين، غيرت منصات التطبيقات الفائقة شكل المال. أما في أماكن أخرى، فيؤدي ظهور الاقتصاد القائم على إنشاء المحتوى والعمل الحر لتحقيق ذلك. يقوم 50 مليون شخص عالمياً بالتدوين أو إنشاء مقاطع فيديو قصيرة أو تقديم النصح حول ما يمكن شراؤه عبر الإنترنت، وهم يحصلون على الأموال عبر الإنترنت أيضاً.

جيوب ومحافظ

تنتشر المحافظ الرقمية في كل مكان، ولكن ما يُخزن فيها يتغير بسبب ثورة تقنية أخرى وهي البلوكتشين. حيث تعاونت شركة للتقنية المالية "سيركل" (Circle) مع شركة "فيزا" لتمكين عملاء الأعمال من إنفاق عملة "يو إس دي كوين" (USD Coin)، وهي عملة على بلوكتشين إيثريوم تربط قيمتها بالدولار، عبر 70 مليون تاجر. من الظواهر التي لا تقل أهمية هي آلية "الدفع اللاحق للشراء"، التي تقحم التمويل والمدفوعات غير النقدية حتى في المعاملات منخفضة القيمة كشراء أحمر شفاه على ثلاثة أقساط.

قروض "اشتر الآن وادفع لاحقاً" تستأثر قلوب معظم المتسوقين حول العالم

انتظروا حتى يتمكن كل جهاز من أجهزة إنترنت الأشياء الـ 15 التي تخصنا بالتسوق باستخدام نقد رقمي قابل للبرمجة يصدر عن البنك المركزي بحيث يُدفع فقط حين الحصول على المشتريات الصحيحة. فيما يحدث كل ذلك في العالم الحقيقي، يمكن أن يصل تدفق الاستهلاك الموازي الجديد كليةً في الواقع البديل للميتافيرس إلى 390 مليار دولار بحلول 2025.

يُعدّ الابتكار في المدفوعات ظاهرة أكبر في الأسواق الناشئة منه في الاقتصادات المتقدمة. أدّت التطبيقات المستندة إلى الهواتف الذكية الشهر الماضي، التي تعمل على مرفق عام مشترك لتصفية ما يعادل 100 مليار دولار من المدفوعات الهندية المحلية، ارتفاعاً من أقل من 15 مليون دولار قبل خمس سنوات، وهذه ليست سوى البداية. كما طورت "غوغل" تابعة "ألفابت"، التي عالجت وحدها 38 مليار دولار من هذه التحويلات الفورية، هاتفاً ذكياً عمل بنظام أندرويد بسعر أقل من 100 دولار. الفكرة هي جعل الإنترنت عبر الهاتف في أسفل الهرم الاستهلاكي في الهند.

نظري أم حقيقي؟

لا شك أن النقد ما يزال وسيلة مرغوبة، لا سيما في اقتصاد غير رسمي بدرجة كبيرة مثل اقتصاد الهند. إلا أن أهميته كوسيلة دفع آخذة في التراجع. استخدم في 2003 النقد في 35% من المعاملات المحلية في منطقة اليورو. انخفض هذا الرقم إلى ما يُقدّر بنحو 20% في 2019. انتهى مطاف ما بين ثلث ونصف الأوراق النقدية الى الخارج، بينما يختزن الباقي في منطقة اليورو. بالنسبة لبعض المستثمرين الالتزام السيادي الآمن ذو الفائدة الصفرية أفضل من السندات الحكومية ذات العائد السلبي.

"باي بال": إعادة فتح الاقتصادات لن يؤثر على التسوق عبر الإنترنت

مع اختفاء النقد في الخزائن والافتقار لعملة بنك مركزي رقمية تحل محله، قد تصبح ثقة الجمهور في قابلية تحويل الودائع إلى أموال رسمية "بناءً نظرياً أكثر من كونها تجربة يومية"، وفقاً لورقة بحثية حديثة كتبها أولريش بندسيل وآخرون من البنك المركزي الأوروبي. يمكن لهذا أن يزعزع استقرار الأنظمة المالية بأكملها.

إذا كانت جميع الأموال المتداولة خاصة وتسيطر عليها التجارة الإلكترونية ومنصات التواصل الاجتماعي، فلن تتمكن السلطات من حماية المستهلكين من الاستغلال. هذا هو السبب في أنه حتى في البلدان التي حولت فيها التقنية النقود إلى زائدة عتيقة، لا يمكن السماح للنقود بالاندثار قبل أن تجهز عملات البنوك المركزية الرقمية.