الطلب العالمي المستعر على الرقائق.. مميت لعمّال ماليزيا

الابن الأصغر لهاني بن شعاري ينظر إلى صور والده في منزل العائلة في سانغاي رامباي، ماليزيا
الابن الأصغر لهاني بن شعاري ينظر إلى صور والده في منزل العائلة في سانغاي رامباي، ماليزيا المصدر: بلومبرغ
المصدر: بلومبرغ
تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

على مدى أكثر من عقدين من الزمن، ظل هاني بن شعاري يترقّى في الرتب في عمله في المنشأة التابعة لشركة "إس تي ميكرو إلكتورنكس" (STMicroelectronics) في ماليزيا، وكان يفتخر بعمله الجاد لإعالة زوجته وأطفاله الأربعة. وعندما ظلت أبواب مصنع الرقائق مفتوحة خلال موجة الارتفاع الحاد في حالات الإصابة بـ"كوفيد-19" هذا العام، استمر في أداء مهامّه الوظيفية.

في صباح أحد أيام شهر يوليو، استيقظ الرجل البالغ من العمر 43 عاماً مصاباً بالحمى، فاصطحبته زوجته نانسي إلى عيادة محلية، وطلبت إجراء اختبار فيروس كورونا له بسبب حالات العدوى في المصنع، وكانت نتيجة الاختبار إيجابية.

اقرأ أيضاً: الاقتصاد الماليزي يعاود الانكماش في الربع الثالث

سرعان ما وُضع هاني في الحجر الصحي في أحد المستشفيات، وفقد كثيراً من وزنه لدرجة أنه بدأ في تجنّب مكالمات الفيديو مع أسرته حتى لا يُشعرهم بالانزعاج. وعندما تحدّث الزوجان عبر الهاتف في وقت لاحق، كان هاني يتنفس بصعوبة. حثته زوجته حينها على الراحة، وكانت تلك المحادثة الأخيرة بينهما.

قالت نانسي، البالغة من العمر 41 عاماً، في مقابلة استخدمت خلالها لغة الملايو لوصف كلمة "أبي": "ابني يبلغ من العمر أربعة أعوام، ويستمر في السؤال: أين أبي؟ أين أبي؟".

كان هاني واحداً من 20 عاملاً على الأقل في منشأة "إس تي ميكرو" الواقعة في منطقة موار الماليزية، لقوا حتفهم إثر الإصابة بفيروس كوفيد-19 بعد انتشار متحور دلتا الفتاك في البلاد هذا العام. فقد أبقت الشركة مصنع تجميع الرقائق واختبارها قيد التشغيل فيما كان الفيروس يتسبب في مقتل العمال، إذ كانت الشركة تتسابق لتلبية الطلب المتزايد القادم من شركات صناعة السيارات والعملاء الآخرين.

اقرأ المزيد: العالم يهرع إلى الجرعة المعزِّزة ضد "أوميكرون" وسط تساؤلات حول فاعليتها

الأولوية للاقتصاد

مثلها مثل عديد من الدول الأخرى، أعربت السلطات في ماليزيا عن قلقها إزاء إبقاء اقتصادها على المسار الصحيح خلال فترة تفشي الوباء، كما أنها منحت صنّاع الرقائق إعفاءات في وقت كانت فيه غالبية البلاد مغلقة.

قالت نانسي: "أشعر بالاستياء حقاً، لأنه لو جرى إغلاق مصنع (إس تي) عندما أصيب الناس بالعدوى في يونيو، لا أعتقد أن زوجي كان ليموت".

بينما لقي ملايين الأشخاص حول العالم حتفهم إثر الإصابة بفيروس كوفيد-19، كانت الوَفَيَات في منشأة موار أعلى بكثير من المتوسطات في بقية البلاد والعالم بأسره. فقد تسبب الفيروس في وفاة واحد من كل 1100 شخص في ماليزيا منذ بداية الوباء، حسب وزارة الصحة في البلاد، فيما تُوُفّي واحد على الأقل من كل 210 عمال في المصنع، وفقاً لتقرير "بلومبرغ نيوز". والجدير بالذكر أن "إس تي ميكرو" رفضت التعليق على العدد المحدد للعمال الذين تُوُفّوا في موقع موار.

قالت الشركة في بيان لـ"بلومبرغ نيوز": "منذ بداية الوباء في يناير 2020، كانت إجراءات واستراتيجية (إس تي ميكرو) مدفوعة أولاً وقبل كل شيء بالإرادة الرامية إلى توفير الحد الأقصى من الوقاية من العدوى ودعم موظفينا وأُسَرهم". وأضافت: "للقيام بذلك، أعلنت الشركة اتخاذها مجموعة واسعة من التدابير في إطار تعاون وثيق مع سلطات الصحة العامة ذات الصلة في كل بلد تعمل فيه، واعتمدت أيضاً على إرشادات الخبراء التابعين لجهات خارجية".

القلق بشأن سلاسل التوريد

لم يقلق أحد كثيراً بشأن سلاسل التوريد العالمية قبل هذا العام، باستثناء المتخصصين في هذا المجال. وكان دور الدول النامية مثل ماليزيا والفلبين لا يستحق سوى القليل من الاهتمام، لكن تفشي الوباء كان بمثابة دعوة إيقاظ للرؤساء التنفيذيين ورؤساء الوزراء والمستهلكين حول العالم، إذ تسبب نقص الرقائق في تعطيل إنتاج كل شيء من هواتف "أيفون" وشاحنات "فورد إف-150" إلى أحذية "نايكي" الرياضية.

تُظهِر مأساة موار الخسائر البشرية المبهمة التي جرى تحمّلها نظير الحفاظ على عمل سلاسل الإمداد في أثناء الوباء، إذ يحث الساسة في واشنطن وباريس الموردين على زيادة إنتاج أشباه الموصلات، فيما يعطي المسؤولون الحكوميون في دول مثل ماليزيا الشركات القوية إعفاءات خاصة، لكنّ موظفين مثل هاني هم الذين يعرّضون حياتهم للخطر.

يقول زيد إبراهيم، وزير العدل السابق في ماليزيا، إنّ "واجب الحكومة هو رعاية مصالح العمال أكثر من مصالح الدولة أو الشركات". وأوضح أن "الفئة الأكثر عرضة للخطر من بين الثلاثة -الحكومة والشركات والعمال- هي العمال. أتمنى لو أننا تجنبنا هذه المآسي".

تُعَدّ ماليزيا بمثابة دراسة حالة في الصراع بين الناس والربح، فقد أمضت الحكومة عقوداً زمنية في جذب الاستثمار الأجنبي وتنويع اقتصادها بعيداً عن المطاط والقصدير، وتستحوذ البلاد الآن على 13% من عمليات اختبار وتعبئة الرقائق العالمية، وهي خطوة أساسية في إنتاج أشباه الموصلات التي تدخل في صناعة السيارات والهواتف الذكية وغيرها من الأجهزة. جرى توظيف نحو 575 ألف شخص في صناعة الأجهزة الكهربائية والإلكترونية في عام 2020، ليعملوا مع صناع الرقائق العالميين مثل "إس تي ميكرو" و"إنفنيون تكنولوجيز" (Infineon Technologies) و"إنتل" و"رينيسانس إلكيترونيكس" (Renesas Electronics).

قيود.. لكن لا إغلاق

كانت استجابة حكومة البلاد بطيئة للأزمة هذا العام. ومع ارتفاع حالات الإصابات بكورونا بداية هذا العام، قال رئيس الوزراء آنذاك محيي الدين ياسين في خطاب تليفزيوني إنه لن يفرض إغلاقاً كاملاً -رغم أن وزارة الصحة قالت إنّ ذلك سيكون أفضل طريقة لوقف انتشار الفيروس- لأن مثل هذه الخطوة ستكون لها تداعيات اقتصادية سلبية. ثم جاء متحور دلتا ليتسبب في رفع حالات الإصابة إلى رقم قياسي يزيد على 20 ألف حالة يومياً خلال فصل الصيف.

سارعت الإدارة إلى فرض مزيد من القيود، لكن الأوان قد فات إذ ارتفعت الوَفَيَات، وبالتالي استقال محيي الدين وحكومته بالكامل في أغسطس، بعد انتشار حالة من الغضب العام من تعامل الحكومة مع الفيروس والتناحر السياسي.

قال بيتر هانبري، الشريك في شركة "باين آند كو" (Bain & Co) في سان فرانسيسكو: "من الصعب تحقيق التوازن في ماليزيا، التي تعدّ صناعة الإلكترونيات فيها مصدراً اقتصادياً كبيراً للبلاد". وأضاف المتخصص في سلسلة إمداد أشباه الموصلات: "يصبح من الصعب جداً على الناس إجراء مكالمة" لاتخاذ قرار بين إغلاق المصنع أو إبقائه مفتوحاً.

كان لدى شركات مثل "إس تي ميكرو" كل الحوافز الممكنة لمواصلة العمل. ولا بد من أن تستجيب شركة تصنيع الرقائق الفرنسية والإيطالية لمطالب عملاء مثل "أبل" و"تسلا" وشركات تصنيع مكونات السيارات من المستوى الأول مثل "كونتيننتال" (Continental) و"روبرت بوش"" (Robert Bosch)، التي عانت كلها من ضغوط سلسلة الإمداد.

ضغوط عالمية

واجهت "إس تي ميكرو"، التي يديرها الرئيس التنفيذي جان مارك شيري، مزيداً من الضغوط هذا العام من جانب الساسة حول العالم، الذين شعروا بالقلق إزاء نقص الرقائق الذي يؤدي إلى إغلاق مصانع السيارات وغيرها من المصانع.

بالطبع يفيد إبقاء الأبواب مفتوحة الشركة من الناحية المالية، ففي اليوم الذي تُوُفّي فيه هاني، أعلنت شركة "إس تي ميكرو" عن تسجيل نتائج مالية قوية دفعت سهمها إلى مستوى قياسي مرتفع.

كانت عائلات الأفراد الذين لقوا حتفهم في موار ترفض الحديث علناً عن مأساتها، لكن نانسي قررت التحدث علناً لتكريم ذكرى زوجها، فهي ترى أن هاني كان رجلاً طيباً قُيد بين القوى الحكومية والشركات القوية، وأنه رجل كان يستحق الحياة.

تقع مدينة موار على الساحل الغربي لشبه جزيرة ملايو في منتصف الطريق تقريباً بين العاصمة كوالالمبور شمالاً وسنغافورة جنوباً. وُلد هاني بن شعاري على بُعد 25 كيلومتراً تقريباً في بوكيت غامبير، وهو ابن مُزارع أرز وربّة منزل، وكان هاني -الذي يُعرف بكل بساطة باسم هاني بن شعاري- الرابع من بين تسعة أشقاء.

تحوُّل البلاد

في عام 1981، بلغ هاني الثالثة من عمره وبدأ مهاتير محمد مهامّه رئيساً لوزراء ماليزيا لمدة وصلت إلى 22 عاماً، ليعلن عن إنجاز سياسي بارز يتمثل في خطة اقتصادية تستهدف تحويل ماليزيا من بلد زراعي إلى بلد صناعي.

لقد ساعدت الاستثمارات الأجنبية المباشرة القادمة من شركات مثل "إنتل" و"إنفنيون تكنولوجيز" و"إس تي ميكرو" في دفع النمو الاقتصادي السريع في فترة التسعينيات، فيما كان هاني على وشك الانتهاء من دراسته بالمدرسة. وقد بلغ متوسط نمو الناتج المحلي الإجمالي لماليزيا 9.2% في الفترة بين عامَي 1990 و1997، قبل الاضطرابات المالية الآسيوية في عام 1998.

كانت "إس تي ميكرو" من أكثر أرباب العمل شهرة في المدينة بالنسبة إلى شاب مثل هاني، فقد بدأت الشركة عملياتها هناك في عام 1974 وأصبح لديها الآن نحو 4200 عامل وموقع بمساحة 5.3 هكتار.

تقدّم هاني بطلب للحصول على وظيفة في "إس تي ميكرو" بعد حصوله على شهادة الهندسة الإلكترونية من إحدى مؤسسات التعليم العام التي أنشأتها الحكومة لتدريب الأشخاص في مجال الهندسة، ليبدأ متدرباً في الشركة في عام 1998، ثم سرعان ما انتهت حياته في الشركة.

التقى نانسي في مصنع الشركة، فقد كانت عاملة إندونيسية متعاقدة، تتكلم كثيراً في أثناء عملها على الآلة المجاورة له، فيما كان هو رجلاً قليل الكلام. لم تكن تخشى التحدث إليه عمّا يجول في خاطرها. في أول موعد لهما في ديسمبر 2000، قفزت على الدراجة النارية الخاصة بهاني وذهبا إلى الشاطئ، وتجولا على طول مضيق ملقا، وشاهدا غروب الشمس معاً. وعندما انتهى عقد نانسي الذي دام لعامين وعادت إلى إندونيسيا، اقترحت عليه الزواج بدلاً من إزعاج نفسيهما بعلاقة عاطفية ذات مسافات بعيدة. ردّ هاني على طلبها بابتسامة كبيرة، وقال: "حسناً!".

لقد بنى الاثنان حياة سعيدة معاً. وبعد انتقالهما إلى غرفة مستأجرة واحدة ليس بها سوى سرير وخزانة، تعهد هاني بأن يعمل بجد لشراء مكان خاص بهما يوماً ما. وُلد طفلهما الأول بعد عامين من زواجهما، ثم تلاه ثلاثة أطفال آخرون.

ركّزت نانسي على تربية الأطفال وإدارة الشؤون المالية للمنزل، فيما قضى هاني ساعات طويلة في "إس تي ميكرو"، كما أنها كانت تقاوم فكرة حصول العائلة على تلفاز حتى قبل عامين، عندما قدمته "إس تي ميكرو" هدية لهاني في ذكرى مرور 20 عاماً على عمله في الشركة.

شق هاني طريقه في مصنع تصنيع الرقائق، وأصبح في النهاية كبير الفنيين. وفي عام 2006، اشترى منزلاً لأسرته مقابل 35 ألف رينغيت ماليزي، أو ما يعادل 8300 دولار أمريكي تقريباً.

مع نجاحه، بدأ هاني في البحث عن أولئك الأقل حظاً في مجتمعه، وكان يقود الصلوات في حي سوراو، في دار عبادة للمسلمين. عندما تفشى كوفيد، نظم هاني برنامجاً لتوفير طعام مجاني للأشخاص الذين فقدوا وظائفهم أو احتاجوا إلى مساعدة من أجل إطعام أُسَرهم، كما تبرع بدمه بشكل منتظم بإجمالي 35 مرة.

تفشي الفيروس

شهدت ماليزيا ظهور أولى حالات الإصابة بفيروس كورونا في 25 يناير 2020، بعد قدوم ثلاثة مواطنين صينيين من ووهان إلى البلاد. جرى تحديد حالة الإصابة الأولى في مصنع "إس تي ميكرو" في مارس، وهو الشهر ذاته الذي سجلت فيه البلاد أول حالة وفاة بسبب الفيروس. وسرعان ما فرضت الحكومة قيوداً على مستوى البلاد، وأمرت الشركات بوقف عملياتها. وبحلول الأول من يوليو عام 2020، انخفض أعداد المصابين على المستوى المحلي إلى الصفر، لكن هذا النجاح لم يدُم، إذ دفعت موجات كوفيد اللاحقة حالات الإصابة اليومية إلى الآلاف في يناير ومرة أخرى في مايو.

هذه المرة، حثَّت رابطة صناعة أشباه الموصلات في ماليزيا (Malaysia Semiconductor Industry Association)، وهي مجموعة قوية تتألف من نحو 140 شركة دولية ومحلية، الحكومة مراراً وتكراراً على السماح لمصانع أشباه الموصلات والإلكترونيات بمواصلة العمل في أثناء الوباء، وبالتالي عندما فرضت الحكومة "إغلاقاً تاماً" لمدة أسبوعين بدءاً من الأول من يونيو، جرى استثناء الشركات الأساسية، بما في ذلك عمالقة التكنولوجيا.

قالت المجموعة التجارية، في بيان لها صدر في 27 مايو، إنّ الرابطة "ممتنة لأن الحكومة الماليزية وضعت مدخلاتنا في الاعتبار، وقررت عدم فرض إغلاق تام وسمحت لـ60% من القوى العاملة بمواصلة العمل".

تسهم مصانع الدولة بحسم في سلسلة الإمداد العالمية، إذ يجري تصنيع أشباه الموصلات الأكثر تطوراً في دول مثل تايوان وكوريا الجنوبية، ثم يجري شحنها إلى ماليزيا لاختبارها بشكل نهائي وتجميعها ضمن المكونات التي يمكن للعملاء استخدامها. وبعد ذلك يمكن إدماجها في المنتجات النهائية مثل السيارات من أجل ميزات مثل دفة القيادة والفرامل وأنظمة المعلومات الترفيهية.

جرس إنذار في الدول المتقدمة

مثلما كانت ماليزيا تسعى جاهدة للتصدي للارتفاع الثاني لحالات الإصابة بكوفيد، كان النقص الحاد في الرقائق يدق أجراس الإنذار في المناصب الحكومية العليا في الولايات المتحدة واليابان وأوروبا. فقد بلغت أوقات انتظار الرقائق 18 أسبوعاً. واقترح الرئيس الأمريكي جو بايدن أن تنفق بلاده 50 مليار دولار على القدرة المحلية لأشباه الموصلات.

في 30 يونيو، أعلنت شركة "فورد موتور" أنها ستوقف الإنتاج لمدة أسبوعين في مصنع ميشيغان الذي بدأ للتو في بناء سيارته الرياضية متعددة الاستخدامات "برونكو" التي يترقبها الجميع بشدة. وفي الوقت الذي قالت فيه رابطة صناعة أشباه الموصلات في ماليزيا إنه يتعين عليها القيام بدورها لمعالجة الأزمة، أكدت الرابطة في 7 يوليو أن "سلسلة الإمداد بهذه الصناعة تتسم بكونها شديدة التكامل، سواء كان ذلك ضمن صناعتها أو مع الصناعات الأخرى، وعلى الصعيد المحلي والعالمي على حد سواء، إذ تلعب صناعة أشباه الموصلات والإلكترونيات دوراً حاسماً في الاقتصاد العالمي".

ظلت أبواب مصنع "إس تي ميكرو" مفتوحة في موار، إذ أبلغت وزارة الصحة الماليزية عن تجاوز الإصابات اليومية بكوفيد حاجز 9 آلاف في أوائل يوليو.

تمكَّن بعض موظفي "إس تي ميكرو" من العمل من المنزل، لكن العمال في قسم الإنتاج، مثل هاني، اضطروا إلى الذهاب إلى العمل. وفي الواقع، عمل هاني لساعات إضافية حتى تتمكن الشركة من تلبية طلب العملاء، فقد كان يعمل 12 ساعة يومياً لمدة أربعة أيام متتالية، ثم يأخذ إجازة لمدة يومين، قبل الذهاب إلى النوبة الليلية التي تبدأ في الساعة السابعة مساء وتنتهي في السابعة صباحاً لأربعة أيام متتالية. وكانت الشركة تفرض إغلاقاً جزئياً فقط على منطقة بعينها لتعقيمها عند اكتشاف حالات إصابة مؤكدة.

التهاون مع الوباء

كانت "إس تي ميكرو" تتخذ تدابير فعلية للتصدي لكوفيد، لكنها لم تكن صارمة جداً بداية هذا العام، حسب عامل آخر في المصنع طلب عدم الكشف عن هويته خشية التعرض للانتقام. فعلى سبيل المثال، لم تقُم الشركة سوى بقياس درجات حرارة العمال عند دخولهم بدلاً من إخضاعهم للاختبارات، ولم يكن لديها أنظمة تتبع متقدمة لتحديد العمال الذين كانوا على اتصال وثيق بزملائهم المصابين.

في 9 يوليو، أكدت وزارة الصحة الماليزية وجود مجموعة تسمى "بيرسياران أغاس" (Persiaran Agas) -التي سُميت بهذا الاسم نسبة إلى عنوان منشأة موار التابعة لـ"إس تي ميكرو"- مع وجود 18 حالة إيجابية خلال الجولة الأولى من الفحص. وحتى ذلك الحين، كانت هناك حالتا وفاة على الأقل من عمال "إس تي مايكرو" بسبب كوفيد-19. وبعد ثلاثة أيام، عاد هاني إلى المنزل مصاباً بصداع.

رفضت "إس تي ميكرو" مناقشة تدابير السلامة المحددة المستخدمة آنذاك، قائلة إنّ تركيبة موقع موار، الذي يضمّ سبعة مبانٍ مختلفة، مكّنها من إغلاق بعض المباني كما هو مطلوب في أثناء تفشي الوباء "بتوجيه من السلطات الصحية الماليزية وموافقتها ومراقبتها".

يبدو أن معدل الوَفَيَات في المنشأة أعلى منه في الشركات المماثلة في ماليزيا. فعلى سبيل المثال شركة "يونيسيم" (Unisem)، وهي شركة محلية لتصنيع أشباه الموصلات، لم تشهد سوى ثلاث حالات وفاة من بين 3500 موظف -وهو ما يتوافق تقريباً مع المعدل الوطني- حسب رئيس مجلس الإدارة جون شيا.

خلال سنوات عمله العديدة في منشأة موار، طوّر هاني روتيناً يمكن التنبؤ به. عندما كان يعمل في مناوبة النهار كان يستيقظ في الخامسة صباحاً، ويغتسل ويصلي صلاة التهجد أو قيام الليل، وكانت نانسي تستيقظ معه وتعمل في المطبخ على تقليب الأرز المقلي لتحضير وجبة إفطاره المفضلة المعروفة باسم أرز نازي غورينغ الشهي.

كان يقول: "جومبا لاغي" (Jumpa lagi)، التي تعني "أراك قريباً" ويقبّلها قُبلة الوداع ثم يغادر المنزل في نحو الساعة السادسة إلا الربع.

كانت محطته الأولى بالقرب من سوراو لتأدية صلاة الصبح، وبعد وصوله إلى موقف سيارات انتظار الشركة، كان يتناول فطوره الذي أحضره معه من المنزل داخل السيارة قبل بدء يومه.

عندما عاد هاني إلى المنزل وهو مصاب بصداع في 12 يوليو، كان يعتقد أن السبب هو أنه علق تحت المطر، لذلك تناول عقار البنادول وذهب إلى الفراش مبكراً. وبحلول الصباح بدأت الحمى.

في غضون ذلك، بدأ الإحساس بالأزمة يفرض سيطرته فى ماليزيا، إذ تجاوزت حالات الإصابة الجديدة بكوفيد حاجز 11 ألف إصابة في اليوم الواحد في منتصف يوليو.

علّقت العائلات المتعثرة أعلاماً بيضاء خارج منازلها في إشارة إلى حاجتها إلى المساعدة، واكتسب هاشتاج benderaputih# -الذي يعني العَلَم الأبيض- زخماً على شبكات الإنترنت.

كذلك، جرى تأكيد إصابة نانسي وأطفالها بفيروس كورونا، ووُضعوا في الحجر الصحي في منشأة مختلفة. كانوا يخططون لإجراء مكالمة فيديو في مساء يوم 26 يوليو، لكن أحد الأطباء تحدث معها من المستشفى وقال إنّ هاني بحاجة إلى وضعه على جهاز التنفس الصناعي على الفور. وبعد ثلاثة أيام، استطاع المستشفى ترتيب موعد لنانسي لترى زوجها عبر مكالمة فيديو، إذ كان فاقداً للوعي ويُحتضَر في وحدة العناية المركزة، ثم تُوُفّي في 29 يوليو.

دعوات متأخرة

في يوم وفاته، تلقى ساسة الدولة دعوة لاتخاذ إجراءات للتصدي للوباء ومنع مزيد من الخسائر في مصنع "إس تي ميكرو".

نقلت وسائل إعلام محلية عن رئيس إحدى المنظمات غير الحكومية قوله: "لا نطلب من المصنع الإغلاق لمدة 14 عاماً، بل لمدة 14 يوماً فقط، حفاظاً على سلامة العامة".

في رسالة موجهة إلى "إس تي ميكرو"، دعا الاتحاد الدولي للصناعات (IndustriALL Global Union)، وهو اتحاد نقابي عالمي، الشركة إلى وضع العمال ضمن أولوياتها قبل الأرباح.

قال كان ماتسوزاكي، مدير الإلكترونيات في الاتحاد الدولي للصناعات، في الرسالة: "نحث (إس تي ميكرو) على المضي قدماً في استراتيجيتها للاستدامة، التي تؤكد وضع الأشخاص في المقام الأول وحماية حياة الجميع".

في ذلك اليوم، أمرت وزارة التجارة الدولية والصناعة في ماليزيا بإغلاق المصنع بالكامل حتى 4 أغسطس.

سجلت الدولة ذات الكثافة السكانية البالغة 32 مليون نسمة رقماً قياسياً قدره 21 ألف حالة إصابة يومياً في أغسطس، وهو أعلى متوسط للفرد في المنطقة. وهو أمر آثار غضب العامة، وظهرت هذه المرة حركة علم جديدة باسم benderahitam#، أو ما يُعرف أيضاً بالعلم الأسود، وهي حركة تدعو إلى استقالة رئيس الوزراء. وفي 21 أغسطس، أدى إسماعيل صبري يعقوب اليمين الدستورية بصفته ثالث رئيس وزراء لماليزيا خلال 18 شهراً.

قال ليم غوان إنغ، الأمين العام لحزب العمل الديمقراطي المعارض: "كان هناك كثير من الوَفَيَات، وكنا في فترة مظلمة للغاية".

عمليات التلقيح

بحلول منتصف أغسطس، جرى تطعيم نحو ثلث سكان ماليزيا بشكل كامل. ومن هذا المنطلق أعلنت وزارة التجارة الدولية والصناعة أن شركات التصنيع يمكنها استقدام 60% من عمالها وفقاً لنسبة الموظفين الذين تلقوا اللقاح.

في مؤتمر عُقد في سبتمبر، تطرق شيري، وهو الرئيس التنفيذي لـ"إس تي ميكرو"، إلى أسئلة المحللين بشأن الوضع في ماليزيا وآفاق العودة إلى طاقتها الكاملة.

قال: "أشعر بأنه يحق لي التحدث عن ماليزيا لأنني جئت هذا الصباح من ماليزيا. لقد واجهنا أياماً عديدة من الإغلاق الكلي أو الجزئي، وكان عديد من الأشخاص يخضع للحجر الصحي، وللأسف الشديد جرى تسجيل بعض الوَفَيَات".

أضاف شيري أن 99% من القوى العاملة في ماليزيا تلقوا اللقاح وأن المصنع طبّق نظاماً جديداً لتعقب الموظفين، كما أن العمال أصبحوا يخضعون الآن لاختبارات "تفاعل البوليميراز المتسلسل" (PCR) بانتظام. وقد قال عامل -طلب عدم ذكر اسمه- إنّ الإجراءات أصبحت أكثر صرامة منذ الصيف.

كانت التغييرات في سياسات الحكومة والشركات متأخرة جداً بالنسبة إلى كل من نانسي وهاني. تقول نانسي إن "إس تي ميكرو" -وكذلك وزير التجارة والصناعة الماليزي الدولي محمد عزمين علي، الذي سمح للمصنع بمواصلة العمل- جرّدوا أسرتها من حالة السعادة التي كانت تتمتع بها. ولم تردّ الوزارة على طلبات التعليق.

تعويضات الشركة

لم تقدم الشركة في البداية دعماً مالياً لبعض الأسر المنكوبة، على حد قول نانسي، التي أوضحت أن الحالات لم تكن بالضرورة مرتبطة بالمصنع. وبعد أن بدأت في التحدث علناً حول الأمر، عرضت عليها "إس تي ميكرو" بعض التعويضات، مثل 10 أشهر من راتب هاني الأساسي البالغ 3425 رينغيت (820 دولاراً)، بالإضافة إلى إعانة وفاة قدرها 5 آلاف رينغيت، ودفع تأمين على الحياة بقيمة 45 ألف رينغيت، ليصل الإجمالي بذلك إلى 20 ألف دولار تقريباً. وسيحصل أطفالها الأربعة على 120 دولاراً شهرياً لكل منهم حتى يبلغوا سن العشرين.

بعض عائلات العمال الذين لقوا حتفهم أخبروا نانسي بأنهم لم يتلقوا عروض المدفوعات ذاته إلا بعد أن حصلت على عرضها الخاص، إذ حددت شركة "إس تي ميكرو" مجموعة معايير خاصة بحزم التعويضات لأسر العمال الذين لقوا حتفهم بسبب كوفيد-19.

في أوائل أكتوبر، كتبت نانسي إلى إدارة "إس تي ميكرو" لتطلب مزيد من التعويضات، مثل راتب هاني الأساسي الشهري البالغ نحو 820 دولاراً حتى يبلغ 60 عاماً، بالإضافة إلى الرعاية الصحية لعائلتها. وبعد شهر، اتصلت بالشركة التي أخبرتها أن طلبها قد رُفض.

قدّم الرئيس التنفيذي تعويضات تصل قيمتها الإجمالية إلى 5.7 مليون دولار في عام 2020، أو نحو 16 ألف دولار في اليوم.

رفضت "إس تي ميكرو" التعليق على عروض تعويض محددة أو على توقيت اتخاذ قرارها بتقديم المدفوعات. وقالت الشركة: "نحن ندعم أسر زملائنا الذين ماتوا بسبب كوفيد بحزمة مالية شاملة تتضمن عدداً من الأشياء القياسية في جميع أنحاء الشركة العالمية، بالإضافة إلى اتخاذ تدابير محددة مع مراعاة وضع موظفينا في موار، خصوصاً دعم تعليم أطفال تلك الأسر المتضررة".

مآسٍ مخفيّة

رغم أن 20 حالة وفاة قد لا تبدو كثيرة، فإنّ الساسة والمسؤولين التنفيذيين في الشركات يحتاجون إلى إدراك الألم الكامن وراء مثل هذه الإحصاءات حتى يتمكنوا من فهم كيفية تسبب الوباء في تدمير وهلاك الأسر والمجتمعات، حسبما قال زيد، وهو وزير العدل الماليزي السابق.

أضاف زيد: "نادراً ما تُسرَد المآسي الإنسانية، وإذا لم تُفسَّر فإننا لن نتمكن من التعلم من أخطائنا. هذا درس للمستقبل".

كافحت نانسي للتعافي من كوفيد-19 بنفسها، وهي تصارع الآن الحزن والاكتئاب وتطلب السلوى من خلال زيارة قبر زوجها وسوراو، فقد كانت إحدى أمنياته الأخيرة أن تخزن نانسي ما يكفي من الطعام هناك من أجل الفقراء.

كانت الذكرى السنوية العشرين لعقد قران الثنائي في 3 أكتوبر الماضي. وقالت نانسي إنّ هاني كان سيشتري بعض الدجاج المقلي من "كنتاكي"، فيما كانت هي ستعد بعض الحساء والخضراوات للاحتفال مع أطفالهم في المنزل، كما اعتادوا أن يفعلوا عادة في المناسبات الخاصة. عن ذلك اليوم، قالت إنه "كان من الممكن أن يكون يوماً مليئاً بالسعادة".