"أوميكرون" يغرق المستشفيات.. ماذا عن فرز المصابين؟

فرز المصابين.. قرارات لا يودّ أحد أن يتخذها
فرز المصابين.. قرارات لا يودّ أحد أن يتخذها المصدر: غيتي إيمجز
Andreas Kluth
Andreas Kluth

Columnist at Bloomberg Opinion. Previously editor-in-chief of Handelsblatt Global; 20 years at The Economist. Author of "Hannibal and Me."

تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

بعد أن أصبح كبيراً للجراحين في جيش نابليون، كان دومينيك جان لاري في مرحلةٍ ما يمشي في ساحات القتال الغارقة بالدماء، وينتقي الجرحى الذين يمكن إنقاذهم. وعادة ما كان يحدث ذلك عبر بتر أطرافهم على الفور. بمرور الوقت، طوّر جان لاري نظاماً لفرز الضحايا وفصلهم، يُطلَق عليه بالفرنسية اسم "ترييه" (trier) أي "الفرز"، وهو لا يعطي الرتبة أو الجنسية أهمية، بل الأهمية فقط لمن يملك فرصة أكبر للبقاء على قيد الحياة. طريقته تلك باتت تُعرف باسم "فرز المصابين" أو (triage).

اقرأ أيضاً: منظمة الصحة العالمية: من الخطأ وصف أعراض "أوميكرون" بأنها "خفيفة"

في أسوأ السيناريوهات، يُعَدّ فرز المصابين مقبولاً في الوقت الحاضر بشكل شبه عالمي، باعتباره ضرورياً ومبرراً. مع ذلك لا تزال الفكرة قائمة على القسوة، فالأمر قاسٍ على الضحية، وأيضاً على الطبيب الذي يتخذ القرار. فغالباً ما يستلزم الأمر السماح لشخص ما بالموت من أجل تقنين الرعاية التي قد تسمح لشخص آخر بالعيش.

اقرأ المزيد: حالات الإصابة الأسبوعية بكورونا ضِعف الرقم القياسي العالمي

تُعتبر جائحة كورونا اليوم هي السيناريو الأسوأ، فعلى مدار عامين تقريباً كان على الأطباء والممرضين في بعض المناطق اتخاذ خيارات مؤلمة تتعلق بالحياة والموت. في بعض الأحيان كان لديهم عدد كبير جداً من مرضى "كوفيد"، وعدد قليل جداً من أجهزة التنفس الصناعي، وفي أحيان أخرى كانت لديهم أعداد من المصابين بفيروس كورونا أكبر بكثير من أن تجعلهم قادرين على علاج أولئك الذين يموتون بمرض السرطان أو أمراض أخرى. والآن، باتت سلالة "أوميكرون" -التي تبدو أكثر اعتدالاً إلى حد ما، ولكن أكثر عدوى- تهدد بإغراق المستشفيات مرة أخرى.

فتح النقاش

في ظل هذه الخلفية، قدّمت مجموعة من تسعة ألمان معروفاً لنا جميعاً عبر إطلاق نقاش كان قد حان موعده منذ وقت طويل، فقد رفع هؤلاء قضية في المحكمة الدستورية في مدينة كارلسروه، بحجة أنهم تعرضوا للتمييز، وبالتالي لخطر الموت، في أثناء حالات فرز المصابين، لأنهم يعانون من إعاقات. إحدى الحالات تعود إلى شخص يبلغ من العمر 30 عاماً، أصيب بسكتة دماغية بعد الولادة مباشرة ولا يستطيع المشي أو الوقوف أو الكلام، فيما كان آخرون يعانون من ضمور في عضلات العمود الفقري يعقّد عملية التنفس. أما أكبرهم، وهو في العقد الثامن من العمر، فكان يعاني من أمراض القلب والسكري.

وفقاً للإرشادات الحالية في ألمانيا، الصادرة عن جمعية طبية، يجب ألا تكون للإعاقة من الناحية النظرية علاقة في أثناء الفرز، أي كما هي الحال مع العمر أو الجنس أو العرق. الشيء الوحيد الذي يهم هو ما إذا كان مريض واحد في موقف معيَّن مصاباً بمرض معيَّن لديه فرصة أفضل لإنقاذه من مريض آخر.

مع ذلك فإنه من الناحية العملية يميل الأطباء الواقعون تحت الضغط إلى النظر إلى نقاط الضعف التي يعاني منها الأشخاص ذوو الإعاقة على أنها "أمراض مصاحبة"، وبالتالي ذات صلة. شرحت نانسي بوزر، إحدى المدعيات، الموقف على هذا النحو: لو وصلت إلى المستشفى على كرسيها المتحرك وهي مصابة بنوبة قلبية، فستحصل على نتيجة فرز أسوأ من تلك التي سيحصل عليها مدخن مصاب بفيروس "كوفيد-19" يصل في الوقت ذاته. فهو سيحصل على سرير، فيما هي لن تحصل عليه. هذا يعني أنها "كانت لتموت فعلياً".

تشريع الفرز

في الأسبوع الماضي، أصدر القضاة في كارلسروه حكماً لصالح المدعين، من خلال مطالبة البرلمان بإقرار تشريع بسرعة يحكم قرارات الفرز المستقبلية. إصدار حكم تمييز غير دستوري هو الجزء السهل بالطبع. أما الجزء الصعب فيتمثل في سنّ قوانين تمنح الأطباء الأمان القانوني، وتكون منطقية في الوقت ذاته في العالم الحقيقي، بدلاً من مجرد التسبب في مشكلات جديدة.

مع احتدام المناقشات، يطالب بعض الخبراء بالفعل بجعل الفرز أكثر إنصافاً بشكل عام. في هذا الهدف خطر، إذ لا يمكننا الاتفاق على ما هو "عادل" حتى في مجالات السياسة الأخرى، مثل الضرائب، وبالتأكيد لن نتفق في هذا السياق.

لنبدأ بهذا الموقف الحساس: كيف يجب على الأطباء معالجة المرضى غير المحصنين في الفرز؟ ما يقرب من تسعة من بين كل عشرة من أولئك المصابين بفيروس كورونا الذين جرى نقلهم إلى المشافي في ألمانيا هم أشخاص لم يلقَّحوا. ولو جرى تلقيحهم جميعاً لما تعرضت وحدات العناية المركزة لمثل هذا الضغط، ولما كانت هناك حاجة إلى الفرز على الإطلاق.

أولوية للملقحين

بالنسبة إلى بعض الناس، يشير هذا إلى أن المرضى الذين جرى تطعيمهم، مع تساوي الأشياء الأخرى، لديهم الأولوية، ويجب على غير الملقحين انتظار الأسرّة. يؤكد مارتن هوفمان، أستاذ الفلسفة، أن هذا الأمر لن يكون له علاقة بـ"معاقبة" غير الملقحين، إذ سيُأخذ بعين الاعتبار ببساطة أن الملقح قد عرّض نفسه بالفعل لخطر (ضئيل) -وهو التفاعل السلبي للجرعة- لحماية نفسه والآخرين، فيما لم يفعل الأشخاص غير الملقحين ذلك، وبالتالي يجب عليهم قبول مزيد من المخاطر لاحقاً.

قد يكون لهذا المنطق شعور حدسي، لكن الحدس يمكن أن يكون دليلاً سيئاً بالنسبة إلى قوانين الفرز. إنّ القيام بأي تقدير لحالة التطعيم، مثل الإعاقة، سيفتح "صندوق باندورا" المليء بالشرور وفق الأسطورة الإغريقية. تماماً كما لم يأخذ لاري الرتبة في الاعتبار، يجب ألا يخلط الطاقم الطبي مطلقاً الأحكام شبه الأخلاقية في قراراتهم، أي مدى "استحقاق" المريض، بناءً على السلوك السابق، وإلا فإن الأطباء سيضعون سوابق يمكن أن تؤدي بمرور الوقت إلى نقاشات جديدة حول: أي حياة تستحق العيش؟

قرارات يتخذها الأطباء

لذلك يجب على البرلمان الألماني والهيئات التشريعية الأخرى توضيح أن تخصيص الرعاية الطبية النادرة يجب أن يعتمد فقط على مزايا كل حالة فردية واحتمال النجاح النسبي، وذلك دائماً بهدف زيادة عدد الأرواح التي يجري إنقاذها. يمكن فقط للطاقم الطبي اتخاذ هذه القرارات.

لكن لضمان عدم حدوث أي تمييز، حتى تحت الضغط وخلال الغموض، يمكن للبرلمان أن يطلب من الأطباء السعي للحصول على آراء إضافية ومستقلة، ربما من مجلس طبي يمكن الاتصال به على مدار الساعة. قد يؤدي ذلك إلى زيادة البيروقراطية ولكنه قد يمنع بعض القرارات السيئة.

هذا يترك الأمر بعيداً عن القضية الشائكة المتعلقة بغير الراغبين في التطعيم، فالفرز ليس المكان المناسب للتعامل معها، لكن المجتمع له ما يبرره في محاولته لمنع أسوأ السيناريوهات التي تؤدي إلى الفرز في المقام الأول. يمكن توفير الجرعات المقدمة للجميع، وبالتالي فإنه من ضمن صلاحيات المجالس التشريعية المنتخبة ديمقراطياً فرض التطعيم الإلزامي.

مثل أي طبيب آخر، كان دومينيك جان لاري يفضّل علاج كل ضحية في ساحة المعركة. يجب أن يكون هدفنا العام في سياستنا اليوم هو المحافظة على هذا الخيار، من خلال جعل الفرز غير ضروري حيثما كان ذلك ممكناً، لكي يتمكن الأطباء من رعاية جميع المرضى.