عمالقة الصناعة في سنغافورة يعيدون صياغة استراتيجياتهم الخاصة

يقف العمال بالقرب من الرافعات على سطح "فلوتيل انترناشيونال"، تم بناؤها وتطويرها من قبل مجموعة تكنولوجيا المياه العميقة "كيبل أوفشور آند مارين" ، في سنغافورة
يقف العمال بالقرب من الرافعات على سطح "فلوتيل انترناشيونال"، تم بناؤها وتطويرها من قبل مجموعة تكنولوجيا المياه العميقة "كيبل أوفشور آند مارين" ، في سنغافورة المصدر: بلومبرغ
المصدر: بلومبرغ
تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

تواجه سنغافورة صدمة ثلاثية مكونة من الوباء والاضطرابات المرتبطة بالابتكارات وتغير المناخ، وهي صدمة تدفعها نحو إعادة صياغة أحد أكثر النماذج الاقتصادية نجاحاً في العالم.

على مدى العامين الماضيين، أعلنت ثماني شركات على الأقل مرتبطة بالدولة عن عمليات ضخمة من الاندماجات أو الاستحواذات أو بيع الأصول أو الخصخصة، في خطوة تعتبر بمثابة أكبر إصلاح صناعي في الجزيرة منذ عقدين من الزمان.

سنغافورة.. جزيرة بَنتها الثروات تعرف عليها

يتجه صانع الحفارات النفطية "كيبل" (Keppel) نحو الطاقة النظيفة، بينما تخلت شركة "سيمبكورب إندستريز" (Sembcorp Industries) عن أعمالها في مجال الحفر تماماً. كذلك، تدخل شركة سنغافورة للاتصالات (Singapore Telecommunications) عالم الخدمات المصرفية الرقمية.

إعادة هيكلة

قال كينيث تانغ، مدير محفظة في شركة "نيكو أسيت مانجمنت" (Nikko Asset Management): "أقارن ما نمر به الآن بمرحلة إعادة هيكلة التكتلات السنغافورية في بداية عقد الـ 2000" في أعقاب فيروس سارس وفقاعة الإنترنت. وتابع: "كانت هذه الأوقات عصيبة للغاية على سنغافورة، لكنها أصبحت عاملاً محفزاً على التغيير".

عملت الحكومة السنغافورية على مدى عقود زمنية على العناية بالمستقبل الاقتصادي للأمة من خلال مجموعة من الشركات المملوكة للدولة، ما أدى إلى تغير تلك الشركات لاتجاهها حسب الحاجة للحفاظ على أهميتها في الاقتصاد العالمي. لكن ربما تكون إعادة صياغة الخطط الصناعية في البلاد أكثر صعوبة في ظل مواجهة الشركات العملاقة للمنافسين الذين غالباً ما يكونون أحدث وأكثر مرونة.

اقتصاد سنغافورة ينتعش في 2021 بأسرع وتيرة منذ 2010

جدير بالذكر أن الحكومة كانت تضخ مليارات في الأعوام الأخيرة لإدخال تغييرات على 23 قطاعاً، بما فيها التصنيع والخدمات المالية والعقارات، وبالتالي تتمكن من مواجهة تحديات الرقمنة. وفي الوقت نفسه، وضعت سنغافورة خارطة طريق لعام 2030 لتصبح مركزاً إقليمياً لتجارة الكربون والتمويل الأخضر.

كذلك، خصصت الحكومة حوالي 25 مليار دولار سنغافوري (18.4 مليار دولار) حتى عام 2025 لإجراء بحوث في مجالات مثل الصحة والعلوم الطبية الحيوية وتغير المناخ والذكاء الاصطناعي. ودعمت أيضاً إنشاء مجموعات صناعية لاستكشاف الفرص في مجالات مثل الروبوتات والتجارة الإلكترونية ورقمنة سلسلة الإمداد.

بالنسبة إلى "كيبل" و"سيمبكورب إندستري" و"سيمبكورب مارين"، فإن تغير الاقتصاد العالمي يعني محاولة التخلص من الأعمال التجارية المرتبطة بالنفط أو دمجها والتركيز على الطاقة المتجددة مثل الرياح البحرية والهيدروجين.

سنغافورة تخطط لزيادة حجم القطاع التصنيعي 50% خلال 10 سنوات

مما لا شك فيه أن هذا يشكل تحولاً كبيراً بالنسبة لواحدة من أكبر مدن العالم في مجال تجارة النفط وتكريره، خاصة في فترة تشهد ارتفاع سعر الوقود. ويشير الموقع الإلكتروني لإدارة التجارة الدولية الأمريكية إلى أن قدرة سنغافورة على تكرير النفط تبلغ 1.5 مليون برميل يومياً. كما تقول إدارة معلومات الطاقة الأمريكية إن سنغافورة تعد خامس أكبر مركز لتكرير النفط وتصديره في العالم.

قاطرة جديدة

رغم أن "كيبل" عززت تركيزها على الطاقة المتجددة، إلا أنها تعمل أيضاً على توسيع نشاطها في مجال الغاز الطبيعي المسال. كذلك، تجري محادثات لدمج عملياتها لبناء منصات الحفر النفطية مع منافستها الأصغر حجماً "سيمبكورب مارين"، التي تحولت أيضاً للطاقة النظيفة في الأعوام الأخيرة مع استمرارية العمل في مشاريع الوقود الأحفوري.

عن ذلك، قال ماك يوين تين، الأستاذ المساعد في المحاسبة بجامعة سنغافورة الوطنية: "إنهم يحاولون بناء قطار جديد بينما يبقون على قطار النفط قيد التشغيل".

تعمل "سيمبكورب إندستريز" على مشاريع الطاقة الشمسية وطاقة الرياح في جميع أنحاء الهند والصين والمملكة المتحدة، لكنها لا تزال تحصل على أغلبية الإيرادات من بيع الطاقة من المصادر التقليدية مثل الفحم والغاز الطبيعي.

مع ذلك، فإن صناعة تكرير النفط في سنغافورة لن تتلاشى، ويرجع ذلك جزئياً إلى أن العديد من منتجات النفط الثانوية ما زالت منتشرة في كل مكان، وتُستخدم في كل شيء بدءاً من معجون الأسنان إلى الألياف الصناعية.

سنغافورة تخاطر بمستقبلها بالتخلف عن ركب الوقود النظيف

قال سونغ سينغ وون، الاقتصادي في مجموعة "سي آي إم بي برايفت بانكينغ" (CIMB Private Banking)، إن المصافي "توضح في الأساس أننا ما زلنا بحاجة إلى كل هذه الأشياء في حياتنا اليومية، لكن كيف نجعل إنتاج المنتج الثانوي أكثر كفاءة من حيث استهلاك الطاقة". ورجح أن تكون أكبر صادرات سنغافورة من مصادر الطاقة المتجددة من سلع مثل أشباه الموصلات والخدمات لصالح الشركات التي تسعى إلى الوصول لكفاءة استخدام الطاقة.

كذلك، تعمل الحكومة على تعزيز الخدمات الصديقة للبيئة في مجالات مثل التكنولوجيا الزراعية وإدارة النفايات.

في هذه الأثناء، تأتي سنغافورة ضمن أوائل الدول التي أنشأت منصة لتبادل تعويضات الكربون المدعومة من البورصة الوطنية، لكنها تواجه منافسة من شركة "سي إم إي غروب" (CME Group) التي أضافت تداول العقود الآجلة لتعويضات الكربون العام الماضي.

التحول الرقمي

كما أن أحد التغييرات التي تصدرت العناوين الرئيسية لوسائل الإعلام، والتي تلجأ إليها الدولة المدينة لتحويل اقتصادها تأتي في مجال التمويل، حيث تعمل على فتح المجال المصرفي أمام الوافدين الرقميين.

كانت شركة الاتصالات "سنغتل" ضمن الفائزين الأربعة بتراخيص الخدمات المصرفية الرقمية في ديسمبر 2020، بالشراكة مع شركة "غراب هولدينغز" العملاقة لخدمات تشارك الركوب وتوصيل الطعام. كما أن البنوك التقليدية الثلاثة في البلاد، مثل "دي بي إس غروب هولدينغز" المدعومة من "تماسيك هولدينغز"، تتبنى الخدمات الافتراضية.

تعليقاً على الأمر، قال هيو يونغ، مدير الصندوق المخضرم لدى شركة "أبردن"، إن كافة الشركات "تتحرك في الاتجاه الصحيح، لكن دعونا نرى ما إذا كان بإمكانها جني أي أموال من ذلك وكيفية تكيفها مع مختلف البيئات التنافسية". وأوضح أن "شركة (ريفولوت) ستكون المنافس الرئيسي لـ (سنغتل) في مجال الأعمال المصرفية"، في إشارة منه إلى شركة التكنولوجيا المالية سريعة النمو التي شارك في تأسيسها المتداول السابق نيكولاي ستورونسكي في عام 2015.

سنغافورة تخطط للتحول إلى مركز عالمي للعملات المشفرة

من المؤكد أن بعض هذه الشركات تقر بأن التغيير سيكون تدريجياً، حيث تتوقع شركة "كيبل" أن يستغرق الأمر عامين أو ثلاثة أعوام لإعادة هيكلة أعمالها الخارجية والبحرية.

كذلك، يتبنى المستثمرون موقف التريث والانتظار، حسبما قال بنجامين جوه، رئيس البحوث في جمعية مستثمري الأوراق المالية بسنغافورة. وحتى الآن، كان لإعادة الهيكلة تأثير متفاوت على أداء أسهم الشركات، رغم أن الطاقة النظيفة والتكنولوجيا كانت كلمات رنانة في الأعوام الأخيرة. كما أنها فشلت في تعزيز السوق برمته.

انخفض مؤشر "ستريتس تايمز" (Straits Times) بنسبة 3.1% خلال العامين الماضيين مقابل ارتفاع بنسبة 34% في مقياس الأسهم العالمية. كما يتم تداول مقياس سنغافورة بحوالي 13 ضعف الأرباح المقدرة، مقارنة بحوالي 18 ضعفاً لنظيره العالمي.

قال ثيلان ويكراماسينغ، المحلل في شركة "ماي بنك كيم إنغ سيكوريتاس" (Maybank Kim Eng Securities Pte)، إن "التحولات الاستراتيجية التي نشهدها من التحول الرقمي وخفض الانبعاثات والتحول إلى نماذج أعمال مستدامة تتطلب مسارات طويلة".