لا تتخلوا عن المدير التنفيذي الكاريزماتي

توماس ألفا إديسون، مبتكر ثوري وصاحب كاريزما
توماس ألفا إديسون، مبتكر ثوري وصاحب كاريزما المصدر: غيتي إيمجز
تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

على مدى ما يقارب 60 سنة خلت، عشنا في عصر الرأسماليين الكاريزماتيين، على رأسهم ستيف جوبز مؤسس شركة "أبل". صادف وجودي في روسيا حين توفي جوبز يوم الخامس من أكتوبر عام 2011، وأتذكر كيف رُفعت صورة ضخمة له على جانب ناطحة سحاب في موسكو، فيما تجمّع المواطنون الروس حولها بصمت يحملون الشموع والدموع تنهمر من عيونهم بين الحين والآخر.

اقرأ أيضاً: تعرّف على المرأة التي تسعى لتغيير مستقبل "كاديلاك" في سباقات السيارات

لكن الشخصيات الكاريزماتية كانت لمعت أيضاً خارج وادي السليكون. فقد حظي جاك ويلش من "جنرال إلكتريك" بمعاملة أنصاف الآلهة، على اعتبار أنه أعاد إحياء نموذج التكتلات الصناعية. كما تم تبجيل مايكل ميلكن (ولعنه أيضاً) لقدرته على تحويل سندات رديئة إلى ذهب، فيما حبك جيفري سكيلنغ رئيس "إنرون" (Enron) رواية ساحرة عن تحرير الغاز الطبيعي من "قيود الجزيئات والحركة". وفي الاحتفال بالذكرى الثامنة عشرة على تأسيس شركة "علي بابا هولدينغز غروب" (Alibaba Holding Group) ، ارتدى مؤسس الشركة، جاك ما، زياً مستوحى من ملابس المغني مايكل جاكسون ورقص على أنغام أغنية "بيلي جين" وسط تصفيق نحو 40 ألف موظف.

أكثر من استثنائيين

اقرأ المزيد: "أبل" أول شركة بالعالم تبلغ قيمتها السوقية 3 تريليونات دولار

في كتابه الجديد "نشوء قيادة الأعمال الكاريزماتية" (The Emergence of Charismatic Business Leadership)، يقول ريتشارد تيدلو، الأستاذ الأسطوري في كلية هارفرد لإدارة الأعمال، والذي انضمّ حالياً إلى أساتذة جامعة "أبل"، إن قادة الأعمال الكاريزماتيين هم أكثر من مجرد أشخاص استثنائيين. مثلاً، تعمّد سام والتون تبنّي أسلوب الرجل الودود والمتواضع، فيما بدا ميلكن أشبه بتلميذ الفصل المهووس بالمذاكرة.

اقرأ أيضاً: رحلة رائد أعمال من الفشل في وادي السيليكون إلى حصد المليارات في اليابان

يتسم هؤلاء القادة بمزيج من الجاذبية الشخصية والقدرة على تمويه الواقع. فترى نفسك ترغب في أن تتبعهم، حتى لو تعارض ذلك مع قناعتك. إذ يقول أحد الموظفين لدى ميلكن إن "شخصاً مثل ميلكن لا يظهر إلا مرة واحدة كل 500 سنة". تأسرك أيضاً نظرة هؤلاء الأشخاص إلى العالم، فيقول غاي "باد" تريبل، أحد الأعضاء الرياديين في الفريق الذي صمّم جهاز "ماك"، إنه بحضور جوبز "الواقع مكان مرن، يمكنه إقناع أي أحد بأي شيء تقريباً... كان من الخطر أن تعلق في مجال تمويه ستيف للواقع، ولكن ذلك كان الأمر الذي مكّنه فعلياً من تغيير الواقع".

البيروقراطية الرمادية

سطعت هذه الشخصيات الكاريزماتية في عالم الأعمال بعد حقبة من انحدار الرأسمالية نحو البيروقراطية الرمادية، إذ كان أعظم مدير في ذلك الزمن، ألفرد بي. سلون، يتفاخر بتمكنه من تحويل شركة "جنرال موتورز" إلى "مؤسسة موضوعية، تتميز عن النوع الذي يتوه في الطابع الذاتي للشخصيات". ويُعتبر كتاب "رجل المنظمة" لويليام إتش. وايت، الصادر عام 1956، الأكثر تعبيراً عن هذا الواقع، حيث تضمن جملة رائعة مقتبسة من فيلم وثائقي أنتج لصالح شركة "مونسانتو كيميكال كومباني" (Monsanto Chemical Company) للمواد الكيميائية، تقول: "لا توجد عبقرية هنا، بل مجرد أمريكيين عاديين يعملون معاً". كان ذلك زمن مكتب المدير في الزاوية المميزة من المبنى، والبزة الرمادية الأنيقة، والتحديث السنوي للمنتج القديم ذاته.

نشأت الرأسمالية الكاريزماتية عن القوى الأكثر شدّة في الرأسمالية الجديدة، التي أطلقتها ثورة ريغان – تاتشر. وقد مكّن الابتكار التكنولوجي بعض المحركين الأوائل للسوق، العباقرة وليسوا الأميركيين العاديين، من بناء إمبراطوريات عالمية ضخمة، تماماً كما فعل كلٌّ من أندرو كارنيغي وجون دي. روكفيلر في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. أجبر التخفيف من القيود الناظمة الشركات على اتباع نهج أكثر مرونة. وأدى تضخم رواتب المديرين التنفيذيين إلى ظهور قناعة لدى الرؤساء التنفيذيين العاديين بأنهم عباقرة يستحقون أن تتصدر صورهم غلاف مجلة "فوربس". وإلا ما هو مبرر تقاضي الرئيس التنفيذي العادي لأي واحدة من الشركات الـ350 الأولى من حيث المبيعات في الولايات المتحدة راتباً يوازي 386 مرّة معدّل رواتب الموظفين العاديين في شركته عام 2000، مقارنة بـ45 مرّة في عام 1989. كذلك، سمح تغيّر العادات والأعراف لأشخاص من مجموعات خارجية، أبرزهم أوبرا وينفري، بتحويل الكاريزما إلى ثروات طائلة.

ثقافة تزييف الأمور

هل نشهد اليوم نهاية الرأسمالية الكاريزماتية والعودة إلى الصوابية السياسية التي تحدث عنها وايت في "رجل المنظمة"؟ أدت إدانة إليزابيث هولمز إلى سيل من المقالات التي انتقدت ثقافة "تزييف الأمور إلى أن تصبح حقيقة" السائدة في وادي السليكون. تتسم قصة هولمز بميزة خاصة، لأنها لم تبدأ بتزييف منتجاتها، بل بتزييف أسلوبها القيادي الكاريزماتي من خلال ارتداء قميص بياقة عالية مستوحى من أزياء ستيف جوبز، وتخفيض صوتها بمعدل أوكتاف، لتبدو أكثر شبها به، مع احتراف عدم الرمش بعينيها.

لكن على أرض الواقع، ليست هولمز إلا مثالاً جديداً عن نهاية سيئة للكاريزما. في عام 2019، انهار حلم آدم نومان بتحويل "وي وورك" (WeWork) إلى شركة عامة، بعد أن كشفت أوراق الطرح الأولي للأسهم عن نفوذه المطلق وتضارب المصالح المتعددة. في عام 2017، استبدلت شركة "أوبر تكنولوجيز" ترافيس كالانيك، الرؤيوي المثير للجدل، بدورا خوسروشاهي التي لم يكن اسمها معروفاً خارج وادي السليكون. وفي عام 2006، حُكم على جيفري سكيلينغ بالسجن لمدة 24 عاماً، حين تبين أن شركة "إنرون" ما هي إلا ضرب احتيال ضخم. أما جاك ويلش، فقد تدهورت سمعته أسرع حتى من تدهور الرسملة السوقية لـ"جنرال إلكتريك".

الإجابة الأفضل عن سؤال ما إذا كنّا قد بلغنا نهاية الحقبة، هي تلك العبارة التي كان يرددها الموظف المطيع لدى بارون الصحافة الكاريزماتي في رواية "سكوب" لإيفلين ووه، والتي تقول: "إلى حدّ ما سيد كوبر".

تهميش الأسلوب الكاريزماتي

لا شكّ في أن الأسلوب الكاريزماتي يتعرض للتهميش حالياً. فالكثير من الشركات الكبرى التي تسهم في الثورة التكنولوجية يديرها اليوم الرديف المعاصر للرجال في البزة الرمادية الأنيقة، مثل سوندار بيشاي في شركة "ألفابت" وساتيا ناديلا في "مايكروسوفت" وتيم كوك في "أبل".

في غضون ذلك، أسهم قانون ساربانيس – أوكسلي (Sarbanes-Oxley) الصادر عام 2002 في أعقاب فضيحة "إنرون"، في زيادة العواقب المترتبة على السلوكيات المشينة، وعزز الطلب على البيروقراطيين في الشركات.

أمّا الصين، فقد أوضحت لرواد الأعمال أنها لا تتسع إلا لقائد كاريزماتي واحد. وها هو السيد "ما" اليوم يمضي وقته في لعب الغولف وقراءة كتب الفلسفة الطاوية، ويتعلم رسم اللوحات الزيتية بدل عقد لقاءات مع القادة العالميين.

في الغرب، يخشى معظم الرؤساء التنفيذيين من أن تتلاشى مسيرتهم المهنية نتيجة تصريح غير صائب. ولذا، إذا صدف وتكلموا بأنفسهم بدل الاعتماد على فرق العلاقات العامة، فهم يحصرون حديثهم ببديهيات تمنح شعوراً طيباً مثل "تبني التنوع في عالم يشهد تغيرات سريعة".

هذا لا يعني أن القادة الكاريزماتيين سوف يختفون عن الساحة، والسبب البديهي في ذلك هو أن الثورة التقنية لا تزال تكتسب الزخم وتتوسع إلى مجالات جديدة. إيلون ماسك الذي أنشأ أول شركة سيارات أمريكية ناجحة منذ "كرايسلر" عام 1925، ويقود أيضاً التحوّل الملحّ من محركات الاحتراق الداخلي إلى المركبات الكهربائية، دائماً ما تتم مسامحته على سلوكياته الغريبة ونوباته التي تكسر القواعد، وذلك بفضل نجاحاته المذهلة. ويحتمل أن نرى شخصيات مشابهة لماسك تظهر في شتّى مجالات الاقتصاد القديم، من الصناعات العسكرية المرجحة للخضوع لتغييرات، إلى الزراعة.

الأحلام الكبيرة

لكن هناك سبباً كامناً آخر وراء ذلك. ففي حِقَب التغيير، على القيادة أن تكون ذات مغزى بدل أن تحاول المحافظة على الفاعلية. القادة المبدعون هم من يحلمون الأحلام الكبيرة، مثل اختراع الـ"ميتافيرس" أو استعمار كوكب المريخ كخطة احترازية في حال دمار الأرض. كما عليهم أن يجذبوا أصحاب المواهب العالية للانضمام إليهم من خلال حبك روايات لا تقاوم، وبالتالي القيام بما وصفه تريبل بـ"تمويه الواقع"، وما وصفه سامويل تايلر كوليريدج بـ"تعليق الإنكار الإرادي". بالتالي، تُحوّل الكاريزما التبادل في السوق القائم على مفهوم "أنت تعمل وأنا أدفع لك"، إلى تبادل اجتماعي، قائم على مفهوم "اتبعني وستصبح إنساناً مكتملاً أكثر" بحسب توصيف تيدلو.

للأسلوب الكاريزماتي جوانب سلبية عديدة، من إنتاج مخادعين مثل إليزابيث هولمز، إلى تشجيع العباقرة مثل ميلكن على تجاهل الفرق بين القواعد الموجودة لمجرد عدم القدرة على تخيل غيرها، والقوانين الضرورية للمحافظة على السير الناجح للاقتصاد الرأسمالي. إلا أن الجانب الإيجابي أكبر بكثير، ويتمثل في إنشاء شركات قادرة على "تغيير الواقع" وإحداث ثورة، ليس على صعيد الإنتاجية فحسب، بل أيضاً قادرة على تخطي حدود الممكن.