سوق السندات ترفض قبول الواقع الاقتصادي

لقطة مقربة تظهر صورة الرئيس بنجامين فرانكلين على العملة الأمريكية فئة 100 دولار
لقطة مقربة تظهر صورة الرئيس بنجامين فرانكلين على العملة الأمريكية فئة 100 دولار المصدر: بلومبرغ
تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

على مدى العقود الأربع الماضية، أظهرت السندات مساراً أكثر قابلية للتوقع في أسواق المال. فمنذ عام 1982، لم يشهد مؤشر "بلومبرغ الإجمالي للسندات الأمريكية" انخفاضاً إلا في أربع سنوات فقط؛ ولم يكن من بينها عامان متتاليان.

رغم ذلك، وبعد انخفاضه بنسبة 1.54% في العام الماضي، تراجع المؤشر 1.62% في الأيام الأولى القليلة من عام 2022. فهل هذه هي نهاية طريق النجاح؟

للإجابة على هذا السؤال، ينبغي أن ندرك أن المستثمرين في السندات مازالوا يتوقعون اقتصاداً نشطاً يوشك أن يتعثر تحت ضغط زيادة أسعار الفائدة، حتى ولو بنسب محدودة. وتمكن قراءة ذلك بوضوح في الفارق بين العائد على السندات طويلة وقصيرة الأجل، فيما يعرف بمنحنى العائد، الذي يتجه نحو الاستقامة مع توقع المستثمرين زيادة أسعار الفائدة من قبل الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي هذا العام.

على مدى السنوات الأربعين الماضية، استخدمت البنوك المركزية أسعار الفائدة كأداة أساسية للتأثير على الاقتصاد. فإذا ارتفع التضخم بمعدلات سريعة، ترفع أسعار الفائدة. وإذا تعثر أداء الاقتصاد، تخفض أسعار الفائدة. ويؤثر تغيير أسعار الفائدة مباشرة على إقبال القطاع الخاص على الائتمان ويعيد تقييم الاقتصاد وفق ما يقتضيه الحال.

هذا الاعتماد على السياسة النقدية كان من تأثيره تحفيز القطاع الخاص إلى زيادة عبء الدين بصورة دائمة. ورغم ذلك، اكتشفنا في عام 2008 أنه حتى تخفيض أسعار الفائدة إلى صفر لم يتمكن البنك المركزي من إغراء القطاع الخاص بزيادة الاقتراض. ورداً على ذلك، صاغت البنوك المركزية سياسات نقدية غير تقليدية مثل سياسة التيسير الكمي، والسيطرة على منحنى العائد. بل إن بعض البلدان جربت تطبيق أسعار فائدة سلبية.

ورغم أن كثيرين من المشاركين في السوق ساورهم القلق من أن تؤدي السياسات الجديدة إلى تفاقم معدلات التضخم، لم يحدث ذلك. وبدلاً منه، تعثر النشاط الاقتصادي مسجلاً أبطأ وتيرة للتعافي في العصور الحديثة. وعلى مدى العقد التالي، أدركت السوق أن سياسات التحفيز النقدي غير التقليدية لا تحدث أثراً يذكر في الاقتصاد الحقيقي عندما يواجه القطاع الخاص ركوداً في مركزه المالي، حيث تسقط السيولة النقدية الجديدة في فخ داخل النظام المالي وينتج عنها نمو اقتصادي محدود.

هذا الدرس مسؤول جزئياً عن الاستجابة الاقتصادية المختلفة تماماً في مواجهة أزمة كوفيد-19. فبدلاً من أن تترك الحكومة الأمريكية مهمة رفع الأعباء الثقيلة للاحتياطي الفيدرالي، شاركت بنفسها بأقوى برنامج للتحفيز المالي منذ الحرب العالمية الثانية. وصاحب هذا "الإنفاق الهائل بالعجز" برنامج غير مسبوق من التيسير الكمي تولى تنفيذه الاحتياطي الفيدرالي. وعلى عكس ما توقع كثير من خبراء السوق عند بداية الجائحة، حققت كل من السندات والأسهم مكاسب في عام 2020 بعد تكبدها في البداية خسائر فادحة. وأدهشت سرعة تعافي السوق الجميع باستثناء أشد المحللين تفاؤلاً، نتيجة الاستجابة الحكومية المختلفة تماماً في مواجهة الأزمة الاقتصادية.

لكن السوق تفترض أن هذا الانتعاش سيشبه ذلك الذي حدث في الفترة من 2009 إلى 2012. فكثير من مديري المحافظ النقدية يساورهم القلق إزاء قدرة الاقتصاد على تحمل ارتفاع أسعار الفائدة أكثر من انشغالهم بتسارع النمو الاقتصادي. ويشيرون إلى التراجع الوشيك عن سياسة التحفيز المالي المتواكب مع تغيير اتجاه التوسع النقدي للقول بأن الاحتياطي الفيدرالي سيواجه صعوبات في زيادة أسعار الفائدة زيادة ذات شأن قبل أن تقع مشكلة اقتصادية أو متعلقة بالسوق.

اقرأ أيضاً: بعد إنهاء التيسير الكمي.. الأسواق تترقب فيضاناً من معروض السندات

يتقبل المشاركون في سوق السندات فكرة أن الاتجاه الذي استمر 40 عاماً واقتضى رفع أسعار الفائدة لمرات قليلة في كل دورة اقتصادية، هو اتجاه سليم. وفق منحنى عقود مبادلة أسعار الفائدة لليلة واحدة لأجل شهر واحد، يبلغ سعر الفائدة "الطبيعي" للاحتياطي الفيدرالي نحو 1.85%، مقارنة بسعر الفائدة الحالي الذي يبلغ 0.25%. ومعنى ذلك أن السوق تتوقع أن يرفع الاحتياطي الفيدرالي أسعار الفائدة بنحو 50 نقطة أساس إلى 75 نقطة أساس؛ أي أقل عن أعلى مستوى بلغته في الدورة السابقة قبل أن تفرض الأسواق وأوضاع الاقتصاد دورة تيسيرية أخرى.

قبل أزمة كوفيد، كان الاحتياطي الفيدرالي يواجه كل أزمة اقتصادية بتشجيع القطاع الخاص على التوسع في الائتمان. وقد أصبح ذلك أشد صعوبة بكثير مع تفاقم ديون القطاع الخاص بما يتجاوز الدورة السابقة، مما يعني أنه انتهج تخفيض أسعار الفائدة بهدف تشجيع زيادة الاقتراض، كما استلزم رفع أسعار الفائدة مرات قليلة من أجل كبح نشاط الاقتصاد.

غير أن الزيادة الهائلة في العجز المالي الناتج عن مواجهة الجائحة كان لها تأثير دراماتيكي على ميزانيات القطاع الخاص. وكثير من محللي وول ستريت ينفرون من العجز المالي عند الحكومة، غير أنها معادلة محاسبية تقضي بأن عجز الحكومة يصبح فائضاً عند القطاع الخاص. بمعنى آخر، إن العجز في القوائم المالية للحكومة هو فائض لدى القطاع الخاص.

أثناء الأزمة المالية، كان كثير من المتعاملين في السوق يساورهم القلق من أن يؤدي التوسع النقدي الاستثنائي إلى ارتفاع قوي في معدلات التضخم. غير أن معدل دوران النقود انهار بسبب انخفاض الطلب عليه، بل وانخفاض المعروض منه بسبب تشديد شروط الائتمان.

لا يبدو أن هناك من يساوره قلق إزاء ارتفاع التضخم بصورة دائمة حالياً إلا قلة من المستثمرين، لأنهم يفترضون أن معدل دوران النقود سيظل راكداً وضعيفاً. ولكن، ماذا لو أن تحسناً في ميزانيات القطاع الخاص غرس بذوراً للتوسع الكبير القادم في الائتمان؟

كثير من المستثمرين يركزون على انخفاض معدل المواليد بين جيل الألفية باعتباره عاملاً ساهم في اتجاه انحسار التضخم في الماضي. وقطعاً، كان نقص فرص التطور المهني والأعباء المالية يشكلان ضغطاً شديداً على جيل الألفية. غير أن سوق العمل تقترب حالياً من نقص في معروض الأيدي العاملة لم نشهده منذ عقود، كما شهدت ميزانيات المستهلكين تحسناً كبيراً بسبب التحفيز المالي.

انخفضت قيمة ديون الأسر الأمريكية كنسبة من إجمالي الناتج المحلي مما يقرب من 100% عند الخروج من آخر ركود اقتصادي إلى نحو 75% حالياً. وإذا أضفنا إلى ذلك انخفاض أسعار الفائدة، فإن خدمة الديون كنسبة من الدخل القابل للإنفاق لم تشهد هذا المستوى المتدني منذ أكثر من 40 عاماً.

كثير من محللي السوق يركزون على أبناء جيل فترة الرخاء الطويل لأنهم يملكون الجانب الأعظم من الثروة، غير أن الجماعة المتجانسة الأكبر من حيث حجمها هي جيل الألفية. فإذا كان أبناء هذا الجيل على وشك أن يشرعوا في عهد رخاء يخصهم، فقد يعني ذلك أن نمو الائتمان الاستهلاكي الخاص يوشك على الانطلاق.

التغير الآخر الذي أحدثه كوفيد على الاقتصاد هو أنه كشف عن أن الاتجاه الذي امتد عقوداً نحو نقل بعض عمليات الإنتاج إلى الخارج يعد نقطة ضعف من ناحية تأمين سلاسل التوريد. وقد جعل الرئيس جو بايدن مسألة إعادة خطوط الإنتاج الصناعي إلى داخل الولايات المتحدة أولوية من أولوياته، وربما تكون تلك واحدة من القضايا القليلة التي يمكن أن يتفق عليها الحزبان.

سيعني ذلك زيادة كبيرة في الإنفاق الرأسمالي في الأعوام القادمة، وإتاحة الفرصة لتحقيق تعافٍ اقتصادي أقوى كثيراً من التعافي من الدورات السابقة.

أنا لا أعرف ما سيكون مفاجئاً أكثر من الآخر، انتعاش اقتصادي يتجاوز التوقعات أم انخفاض لعامين متتاليين في مؤشر "بلومبرغ الإجمالي للسندات الأمريكية". غير أن فرص تحقق كل منهما أعلى حالياً مما يدرك كثير من مستثمري السندات.

عائدات السندات الحكومية