ما زلنا قادرين على تخيّل عالمنا دون "صناعة التشفير"

عندما يتحوّل التشفير إلى لعبة للأطفال.. يكون قد فاز فعلاً
عندما يتحوّل التشفير إلى لعبة للأطفال.. يكون قد فاز فعلاً المصدر: غيتي إيمجز
Leonid Bershidsky
Leonid Bershidsky

Leonid Bershidsky is Bloomberg Opinion's Europe columnist. He was the founding editor of the Russian business daily Vedomosti and founded the opinion website Slon.ru.

تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

التشفير في كل مكان هذا العام، فالقيمة السوقية الإجمالية لكل العملات المشفرة ما زالت أعلى من تريليونَي دولار، رغم بعض الخسائر الأخيرة. وفي عام 2021 أنفق الناس أكثر من 44 مليار دولار على الرموز غير القابلة للاستبدال، أو حقوق الملكية الافتراضية للأشياء الرقمية، وهو مبلغ اقترب من الحجم الإجمالي لمبيعات التحف والأعمال الفنية عالمياً في عام 2020. كذلك ارتبطت فكرة الجيل الثالث من الإنترنت أو "ويب 3" بقوة بالتشفير خلال العام الماضي تقريباً.

مع ذلك، وبعد 13 عاماً من تعدين أول عملة "بتكوين"، لا يسعني التفكير في أنه لن يتغير كثير بالنسبة إلى الغالبية العظمى منا إذا استيقظنا ذات صباح ووجدنا أن ظاهرة التشفير بأكملها قد اختفت إلى الأبد.

اقرأ أيضاً: أكبر ثروة عملات مشفرة في العالم بدأت بلعبة بوكر ودّية.. كيف؟

تخيّل لو أن الإنترنت أو "الويب" (عندما كان "ويب 1"، وكانت "فيسبوك" لا تزال باسمها الأول "فيسبوك") اختفت في عام 2004، أي بعد 13 عاماً من إطلاق "تيم بيرنرز لي" للشبكة العنكبوتية العالمية الخاصة به وإتاحتها أمام الجمهور. حتى في ذلك الحين، أي قبل بدء بث "يوتيوب" (2005) و"نتفلكس"(2007)، كان انتهاء الإنترنت ليمثل صدمة كبيرة وخسارة فادحة: أيُعقل ألا يكون هناك "غوغل" أو "ويكيبيديا" أو "سكايب"؟!

بالتالي، أيُعقل ألا تكون هناك عملات مشفرة في عام 2022؟ من يهتم؟ إلا إن كنت واحداً من أصحاب الملايين من جيل الألفية الذين لديهم أكثر من 50% من أصولهم في العملات المشفرة.

اقرأ المزيد: رئيس بورصة لندن للمعادن يستقيل للعمل في العملات المشفرة

مقارنة مع عام 2004

يمكن للمرء أن يطّلع على الإحصاءات الخاصة بتبنّي واستخدام التكنولوجيا الجديدة من قِبل الجمهور، ليكتشف أن التشفير اليوم هو تماماً في المرحلة ذاتها التي كان عليها الجيل الأول من الإنترنت أو "ويب 1" في عام 2004. يوجد نحو 71 مليون عنوان لحسابات "إيثريوم"، ونحو 40 مليون عنوان لحسابات "بتكوين" بأرصدة غير صفرية. هذه الأرقام، وبالترتيب ذاته، هي نفسها التي أبلغت عنها شركة المزادات على الإنترنت "إي باي" (eBay) في عام 2004: 56 مليون مستخدم نشط اشتروا أو باعوا شيئاً ما من خلال موقع في ذلك العام، والتي أبلغت عنها "باي بال" (PayPal): 20 مليون حساب نشط في قطاع الدفع الخاص بها، جزء منها كان من "إي باي".

اقرأ أيضاً: موجة بيع تضرب العملات المشفرة.. و"بتكوين" عند أدنى مستوى في 6 أشهر

كذلك تُعَدّ "كوين بيس غلوبال" (Coinbase Global) اليوم أكبر بورصة عملات مشفرة في الولايات المتحدة، ولديها نحو 2.8 مليون مستخدم نشط شهرياً. في عام 2004 أعلنت شركة "إي تريد فاينانشال كورب" (E*Trade Financial Corp)، وهي واحدة من أوائل وسطاء الإنترنت، عن 3 ملايين حساب وساطة نشط، فيما تفاخرت شركة "تي دي أمريترايد هولدينغ كورب" (TD AmeriTrade Holding Corp)، وهي شركة أخرى في هذا المجال، بـ2.6 مليون حساب. فضلاً عن ذلك، وصلت القيمة السوقية للشركات المدرجة على مؤشر "ناسداك 100"، وهو مرآة صناعة الإنترنت الناشئة، إلى 2.5 تريليون دولار في نهاية عام 2004، أي تقريباً ما يعادل حجم العملات المشفرة اليوم.

فروق كبيرة

لكن حتى أكثر التقديرات سخاءً لعدد مستخدمي العملات المشفرة -نحو 200 مليون اليوم- تبقى بعيدة كل البعد عن أكثر من مليار مستخدم للإنترنت في ديسمبر 2004. كان الناس في الواقع يشترون أشياء على "ويب 1" -الكتب وتذاكر الطيران والبيتزا– فيما بعد 13 عاماً لا يستخدم كثير منهم "ويب 3" لشراء الأشياء. تتعامل "بيت باي" (BitPay)، أحد أكبر معالجات الدفع بالعملات المشفرة، مع نحو 66 ألف معاملة شهرياً، مقارنة بـ17 مليار لـ"فيزا" أو نحو ذلك.

طالع أيضاً: طفرة في عدد مبرمجي التشفير رغم هبوط العملات الرقمية

هذا بالطبع هو نتيجة عدم قدرة عالم العملات المشفرة على خفض تكاليف المعاملات، بمتوسط 1.4% لكل من "بتكوين" و"إيثريوم". هذا أكثر من متوسط التكلفة الحالية للتحويل الدولي للأموال إلى أذربيجان أو جورجيا، وفقاً لـ"البنك الدولي". شركة التحويل "وايز" (Wise) التي لا تستخدم التشفير، تحوّل الأموال بتكلفة تقل عن 0.35%، حسب العملة. من هنا، لا توجد فائدة كبيرة للتحول إلى التشفير من النظام المصرفي التقليدي إلا إذا كان المرء يبحث -ربما عبثاً، في حالة اهتمام السلطات به- عن مزيد من إخفاء الهوية على حساب مزيد من المخاطر (عالم التشفير سيئ السمعة بسبب عجزه عن التصدي للاحتيال).

وعد التكنولوجيا

مع ذلك، هناك ما هو أكثر من معدل التبنّي الأقل لـ"ويب 3" مقارنة مع "ويب 1" بعد 13 عاماً. إن الوعد التكنولوجي الذي يحمله عالم التشفير، رغم ما يقوله مؤيدوه وداعموه، يبقى محدوداً أكثر بكثير مما كان عليه الويب في مراحله الأولى. مقابل كل تطبيق واقعي من "بلوكتشين"، يمكنك تسمية عديد من تطبيقات "ويب 1" التي جرى إطلاقها، وعديد منها في مناطق تؤثر إلى حد كبير في الحياة اليومية للجميع. في بدايات عام 2004، كانت شبكة الإنترنت هي المصدر الرئيسي لأخبار الانتخابات لـ18% من الأمريكيين. من الصعب العثور على مثال مشابه يتضمنه قطاع التشفير اليوم.

هذا أحد أسباب عدم انعكاس تقدم الإنترنت في جيلها الثاني "ويب 2" على العملات المشفرة. فمجالات العمل والحياة بشكل عام التي يتطلب تقنية "بلوكتشين" هي أقل بكثير من تلك التي تتطلب تطبيقات "ويب1 " و"ويب2 ". وحتى هذه المجالات الجديدة ستتبنى "بلوكتشين" فقط إذا كان بإمكانها القيام بعمل أفضل من تقنية "ويب1 " و"ويب2 " الحالية. هذا أبعد من أن يكون متاحاً في هذه المرحلة، على الأقل في الوقت الراهن الذي تكون فيه الطاقة المنفقة على معاملة "إيثريوم" واحدة كافية لتشغيل أكثر من 100 ألف معاملة "فيزا".

لا تزال المعدلات الحالية لتبنّي التشفير، التي يمكن مقارنتها في بعض الحالات بالدفع عبر الإنترنت واعتماد تكنولوجيا التداول في عام 2004، مدفوعة بالمضاربة التي تحدث في نوع من الحدائق المحاطة بأسوار (مجموعة محدودة من التكنولوجيا أو معلومات الوسائط المقدمة). وعلى الرغم من الفضول الكبير في عالم التمويل التقليدي حول أصول التشفير الجديدة والمربحة في كثير من الأحيان، فإنه كان فضولاً سطحياً فقط. وُصف استثمار شركة "بلاك روك" (BlackRock) بقيمة 6.5 مليون دولار في عقود "بتكوين" الآجلة بأنه تقدم كبير، وهذا أقل من حصص "بلاك روك" في شركة الأمن السيبراني "مكافي" (McAfee) في الربع الثالث من عام 2004.

استثمارات ومخاطر

وفقاً لـ"كوين غيكو" (CoinGecko) فإن قيمة أكبر حيازة لـ"بتكوين" من قِبل شركة مساهمة عامة، وهي تلك التي تملكها شركة "مايكروستراتيجي" (MicroStrategy)، بلغت بلغت 5.1 مليار دولار، تليها "تسلا" بقيمة مليارَي دولار، و"غالاكسي ديجيتال" (Galaxy Digital) بـ1.3مليار دولار، فيما كانت بقية حيازات "بتكوين" و"إيثريوم" أصغر بكثير. على النقيض من ذلك، كانت استثمارات شركات الإنترنت في عام 2004، والشركات الناجية من أزمة "دوت كوم" مثل "أمازون" أو "إي باي"، شرعية حتى لو كانت محفوفة بالمخاطر، كما كان الوضع عندما صُنّفت سندات "أمازون" بدرجة أقل من الدرجة الاستثمارية في عام 2004. وإذا تذكّر المرء طفرة شركات الـ"دوت كوم" نفسها فإن الهيجان في الأسواق المنظمة بالكاد يقابله الاهتمام الحذر الحالي بعالم التشفير.

يمكنك أن تنحو باللائمة في شأن حالة الانعزال التي يشهدها قطاع التشفير اليوم، وبالتالي افتقاره إلى المخاطر النظامية على النظام المالي العالمي، على الحذر الذي تتوخاه الجهات التنظيمية تجاه حالة الفوضى هذه، وعلى ظاهرة القرصنة في عالم التشفير، وعلى الخطاب المناهض للحكومة. لكن روّاد الجيل الأول من الإنترنت "ويب 1" جسّدوا نفس الروح الفوضوية، إذ إنهم أيضاً أرادوا كسر وتحطيم القواعد. ربما أفادت حالات الانهيار في أوائل القرن الحادي والعشرين المستثمرين بشيء، وهي أنها علّمتهم أمراً عن شراء كثير من مما هو جديد.

كيف يتحقق الاختراق

لن يتحقق الاختراق الحقيقي لعالم التشفير إلا إذا كان لا يمكن تخيل العالم من دونه، أو عندما لا يمكن تخيل العالم من دونه، كما كان لا يمكن تخيله من دون الإنترنت في عام 2004. حتى بعد 13 عاماً من بدء كل شيء، هذا الإحساس بالثورة التكنولوجية التي لا رجعة فيها -ثورة تستحق لقب "ويب 3"- لا تزال تتطلب بعض القفزات التكنولوجية، حتى في المجالات التي تكون فيها استخدامات "بلوكتشين" واضحة، مثل المدفوعات أو إنشاء العقود. لكن نقطة التحوّل لن تأتي في شكل أدلة إحصائية ساحقة، أو كحدث واحد، مثل تحوّل مستثمر تقليدي رئيسي إلى "عقيدة التشفير" أو اعتماد دولة كبرى لعملة قائمة على "بلوكتشين"، بل سيأتي على شكل شعور بأن "ويب 3" قد غيّر العالم كثيراً، لدرجة أن فقدانه سيترك ندبة. فهذا الشعور هو أكبر جائزة عندما يتعلق الأمر بالثورات التكنولوجية.