ما الذي يقود مسار معدلات التضخم حقاً؟

السياسات النقدية المتشددة للفيدرالي تسعى لخفض التضخم على الأمد الطويل
السياسات النقدية المتشددة للفيدرالي تسعى لخفض التضخم على الأمد الطويل المصدر: بلومبرغ
المصدر: بلومبرغ
تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

خلال جلسة الاستماع التي عقدت في 11 يناير الحالي لاعتماد إعادة تعيين جيروم باول في منصبه على رأس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي لفترة ثانية تمتد لأربعة أعوام، أخبر باول اللجنة المصرفية بمجلس الشيوخ أن السياسة النقدية الأكثر تشدداً "ليس من المفترض حقاً أن تؤثر سلباً على سوق العمل".

ما الذي يحدد مسار التضخم؟

هذا التأكيد، كررته أيضاً لايل برينارد، وهي المسؤولة الثانية بعد باول، أثناء مثولها أمام الكونغرس الأمريكي خلال الأسبوع نفسه. وهو موضوع يضع صناع السياسة النقدية داخل الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي في خضم نقاش بين خبراء الاقتصاد يمتد لعقود من الزمن لفهم العلاقة بين معدلات الفائدة والتوظيف ومستويات التضخم. أو بعبارة أخرى، حول كيفية عمل مجموعة الأدوات التي يستخدمها البنك المركزي فعلياً للتأثير على الاقتصاد، وما هو الشيء المسؤول عن تحديد مسار التضخم.

إرث باول على المحك في صراع الفيدرالي مع التضخم

يمضي مسؤولو الاحتياطي الفيدرالي بحذر عند وضع الأساس لسلسلة من الزيادات في معدلات الفائدة، والتي من المحتمل أن تبدأ مع حلول شهر مارس القادم. في استجابة لدعوات تطالبهم بمحاولة السيطرة على أعلى مستوى تضخم في الأسعار التي يدفعها المستهلكون منذ 40 عاماً. في حين يسعى المسؤولون في الوقت نفسه لتفادي أن تظهر سياساتهم كنوع من العقاب للعمال، في وقت بات يمتلك فيه هؤلاء قوة صاعدة، ينظر إليها بشكل كبير على أنها قد طال انتظارها.

نظرية التوقعات

مفهوم توقعات التضخم الذي يسود الاقتصاد العام منذ فترة الثمانينيات من القرن الماضي، يوفر وسيلة محتملة واحدة لحل هذه الأزمة الصعبة. تتمثل الفكرة أنه في حال استطاع البنك المركزي إقناع الشركات والمستهلكين على حد سواء، بأنه سيبقي على معدلات التضخم منخفضة وثابتة، فإن الفيدرالي لن يحتاج لفعل المزيد بعد ذلك.

وذلك لأن التوقعات حول التضخم بحد ذاتها، تمثل أحد المحركات الرئيسية لتحديد معدلات التضخم نفسها. فوفقاً لهذا المنظور، في حال لم يتوقع العمّال صعود معدلات التضخم، فإنهم لن يطالبوا برفع الأجور لتعويض الخسارة التي لحقت في قوتهم الشرائية. ولن يكونوا على عجلة للخروج والتسوق بسبب توقعاتهم حول ارتفاع الأسعار، وهو الأمر الذي يقود إلى ارتفاع معدلات التضخم بصورة متواصلة.

ووفقاً لهذا المنظور، فإن الخطأ الذي ارتكبه الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي خلال فترة السبعينيات من القرن الماضي، تمثل بفقدانه السيطرة على الحيثيات السيكولوجية للتضخم عند الجماهير الأمريكية، إلى حد أصبح معه من الضروري للسيطرة على معدلات التضخم القيام برفع معدلات الفائدة بشكل صارم، وهو ما قاد إلى إغراق الاقتصاد في الركود وخسارة الملايين من الأشخاص لوظائفهم.

تقول إيمي ناكامورا، أستاذة الاقتصاد بجامعة "كاليفورنيا" في مدينة "بيركلي": "إذا كنا تعلمنا شيئاً من التاريخ فهو بالتأكيد أنه عندما يضع الناس توقعات معينة، فإنها تصبح مترسخة، ويصبح من الصعب إعادة التغيير مجدداً في الاتجاه المعاكس".

الوضع الراهن

في الوقت الحالي، يشير مقياس التضخم المفضل للاحتياطي الفيدرالي إلى ارتفاع مستويات التضخم إلى أعلى بكثير من الهدف المحدد له عند 2%، حيث يبلغ 6% تقريباً، ويصرّ صناع السياسات على ألا يضطروا لمواجهة نفس الموقف الصعب مرة أخرى. وبالنسبة للوضع الراهن فإن مسؤولي الفيدرالي يمكنهم الشعور بالارتياح إزاء كون التوقعات المتبعة للتضخم قد ارتفعت قليلاً، على غرار تلك الخاصة "جامعة ميشيغان" والبنك الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك، لكنها مع ذلك لم تصل إلى حد الارتفاع الذي حدث للأسعار.

التنبؤ بالتضخم.. علم كئيب فعلاً

يرى مسؤولو الاحتياطي الفيدرالي أن ارتفاع التضخم خلال العام الماضي كان مدفوعاً بعوامل مؤقتة خاصة بوباء كورونا، وهو الرأي الذي يشاركهم فيه بطريقة كبيرة أصحاب التوقعات في وول ستريت. حيث طبعت الحكومة الأمريكية تريليونات الدولارات وأودعتها مباشرة في الحسابات المصرفية للأمريكيين خلال العام الأول من تفشي فيروس وباء كورونا. بينما كافحت سلاسل التوريد التي أعاقها تفشي الفيروس العالمي من مواكبة الطلب المتنامي.

يتوقع عدة خبراء اقتصاد بأن معدلات التضخم ستعود إلى مستوياتها الطبيعة بطريقة كبيرة مع حلول نهاية عام 2022، في وقت تنفق فيه الأسر السيولة المالية الإضافية، ويشهد العالم انحسار تفشي الوباء وانفراجات في تعقيدات سلاسل التوريد.

رفع الفائدة والتضخم

مع ذلك، هناك مخاوف من أن تقود مستويات التضخم المرتفعة إلى رفع التوقعات. وبالتالي يعيق ذلك انخفاض معدلات التضخم من تلقاء نفسها.

عن ذلك تضيف ناكامورا: "أعتقد أنه حتى الآن، كان الاحتياطي الفيدرالي ناجحاً جداً في السيطرة على منظور فهم ما يحدث: وهو أنه توجد عوامل محددة، ومؤقتة في الغالب، هي مسؤولة عن صعود التضخم على المدى القصير، في حين أنه على المدى الطويل ليس على الناس تغيير رؤيتهم للأمور".

لذلك تم تصميم الدورات القادمة من رفع أسعار الفائدة للحيلولة دون حصول ذلك. فهذه الارتفاعات لا تهدف للحد من معدلات التضخم الحالية، بل هي مصممة لضمان ألا تصبح هذه هي المعدلات المستقبلية.

لكن هناك مشكلة كبيرة في هذا الموضوع. فبالرغم من الاعتقاد المؤكد لخبراء الاقتصاد ورؤساء البنوك المركزية، بأنه بالإضافة للتغيرات قصيرة الأجل في الأسعار، فإن التوقعات الخاصة بمعدلات التضخم، تعتبر العامل الأبرز الذي يقود التضخم، إلا أنه لا يوجد أحد يعلم بشكل مؤكد الطريقة التي تتشكل بها تلك التوقعات، فضلاً عن فهم كيفية تأثرها برفع أسعار الفائدة.

تقول جوليا كورونادو، وهي مؤسسة لشركة الأبحاث "مايكرو بوليسي برسبكتيفس": "لا يوجد ما يؤكد بشكل مطلق بأن توقعات التضخم تغذي سلوكيات تحديد الأسعار بأي وسيلة ثابتة أو يمكن مراقبتها".

في سبتمبر الماضي نشر جيريمي رود، كبير خبراء الاقتصاد في الاحتياطي الفيدرالي مناقشة تسبب بعاصفة من خلالها، حيث وجه انتقادات للفكرة التي تعتبر التوقعات المحرك الرئيسي لمعدلات التضخم، حيث قال إنها تأتي من بين افتراضات عديدة "يفترض الجميع أنها صحيحة، لكنها في واقع الأمر حماقة غير منطقية". (احتوت الورقة البحثية على بند إخلاء مسؤولية يشير إلى أن الآراء الواردة فيها تخص رود فقط ولا تعبر عن آراء مجلس محافظي الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي).

ماذا عن سوق العمل؟

هناك عامل آخر أكثر وضوحاً بالنسبة للسياسات المالية حول تأثيره على معدلات التضخم، وهو سوق العمل. فمع تراجع ​معدل البطالة، يتراجع ​​عدد العمالة المتاحة، وهو ما يسفر عن صعود في تكلفة القوى العاملة. فتقوم الشركات إثر ذلك برفع الأسعار للتعويض عن تكاليف الأجور الأكثر ارتفاعاً.

حينها، يمكن للبنك المركزي للسيطرة على الضغوط التضخمية، عكس هذه العملية من خلال رفع تكاليف الاقتراض في كافة أنحاء الاقتصاد، وهو ما يقلل من الطلب على العمالة، ويحد بالتالي من ارتفاع الأجور. وبالتالي يقود تراجع القدرة الشرائية إلى تقويض رفع الشركات لأسعار منتجاتها.

يرى كلا من جيروم باول ولايل برينارد، أن تشديد السياسة النقدية وفقاً لخطط الفيدرالي هي تدريجية للغاية، حوالي نسبتين مئويتين في كل زيادة، وذلك على عكس التشديد النقدي الذي حدث في عهد بول فولكر أوائل فترة الثمانينيات من القرن الماضي، حين تم رفع سعر الفائدة بشكل سريع لمستوى 20%.

يضاف إلى ذلك أن وتيرة نمو الاقتصاد الحالية سريعة للغاية، ويمكنها تحمّل بعض الاعتدال: فمع وصول معدل البطالة عند أقل من 4% خلال ديسمبر، لأول مرة منذ بداية تفشي الوباء، باتت الأجور تتصاعد بشكل متسارع، فيما تفتح الأعمال أعداداً قياسية من الوظائف الشاغرة، وهما يقولان إن الولايات المتحدة وصلت بالفعل إلى "مستويات توظيف قصوى".

نصف الشركات الأمريكية الصغيرة زاد الأجور في ديسمبر

يشكك جيه. دبليو. ماسون، أستاذ الاقتصاد في كلية "جون جاي" في نيويورك، في قدرة الاحتياطي الفيدرالي بالحد من ارتفاع الأسعار دون إحداث أضرار في سوق العمل. حيث يقول: "لا توجد وسيلة مباشرة وغير مؤلمة يمكن أن يتبعها الفيدرالي للتأثير على معدلات التضخم". ويضيف: "عليك بطريقة أو بأخرى خفض الطلب على المنتجات، أو خفض تكلفة عملية الإنتاج، أو لن يكون لديك أي تأثير على حركة الأسعار".

أما بالنسبة لسيث كاربنتر، كبير خبراء الاقتصاد العالمي في "مورغان ستانلي"، فإن السياسة النقدية المتشددة للفيدرالي خلال العام الحالي على الأرجح ستحد من تراجع معدلات البطالة، إلا أنها لن تؤثر كثيراً على معدلات التضخم حتى العام القادم. وبحلول ذلك الوقت، على الأرجح أن تكون ارتفاعات التضخم قد تلاشت من تلقاء نفسها إلى حد كبير.

يقول كاربنتر: "تشير معظم تقديرات النماذج التجريبية لتأثير السياسة النقدية للفيدرالي على الاقتصاد، إلى أن تأثير سياسة الفيدرالي على التضخم سيحتاج لوقت أطول من العام الحالي". وأضاف: "إذا قاموا بتتبع تأثير الأسعار على الأسواق، فإنه بعد 3 أو 4 زيادات في أسعار الفائدة، ستكون هناك فرصة كبيرة ليكون التضخم في نهاية عام 2023 عند مستويات أقل بقليل من المعدل المستهدف من قبل الفيدرالي الأمريكي".