أدت سلالة "أوميكرون" إلى انطلاق حقبة جديدة لإدارة الوباء. ففي حين تسبب متحور "أوميكرون" في أكبر موجة عدوى عالمية في تاريخ كوفيد-19، تخرج العديد من البلدان من الأزمة أكثر تصميماً على التعايش مع الفيروس وعلى إعادة فتح اقتصاداتها.
يصل تفشي المرض إلى ذروته وينحسر بسرعة أكبر، مع اعتدال متحور "أوميكرون" وانتشار اللقاحات التي أبقت أعداد الوفيات منخفضة. سمح ذلك لبلدان من المملكة المتحدة إلى تايلاند، وأيرلندا وصولاً إلى فنلندا بإزالة القيود في غضون أسابيع، ورفع درجاتهم في "تصنيف بلومبرغ لمرونة التعامل مع كوفيد" لأفضل وأسوأ الأماكن التي يمكن للإنسان أن يتواجد فيها خلال الوباء.
بدلاً من تغيير استراتيجياتها، تستقر الدول على مواقف طويلة الأمد في التعامل مع الفيروس. انعكس ذلك في الدولة صاحبة المرتبة الأولى في تصنيف شهر يناير - الإمارات العربية المتحدة- التي احتلت أيضاً المركز الأول في نوفمبر الماضي. يعتمد نجاحها على النهج الذي اتبعته لعدة أشهر: مزيج من التطعيم شبه الكامل إلى جانب الانفتاح المستمر على السفر، جنباً إلى جنب مع التفشي الأقل لمتحور "أوميكرون" مقارنةً بأي مكان آخر. وباستبعاد عودة الإمارات العربية المتحدة إلى حالة الإغلاق الكامل، فإن الاقتصاد الإماراتي يوشك على تحقيق معدل نمو قوي هذا العام بفضل انتعاش أسعار النفط.
أدى نموذج مماثل من معدلات التلقيح المرتفعة والتوقعات الاقتصادية القوية إلى ارتفاع مركز المملكة العربية السعودية 18 درجة لتصل إلى المرتبة الثانية، في حين أن فنلندا - الدولة الأكثر تطعيماً بين وجهات السفر المفتوحة في التصنيف - تأتي في المركز الثالث.
يقدم "تصنيف بلومبرغ لمرونة التعامل مع كوفيد" صورة شهرية للدول الأكثر فاعلية في التعامل مع الفيروس مع أقل الأضرار الاجتماعية والاقتصادية. وباعتماد التصنيف على 12 مؤشراً للبيانات تشمل احتواء الفيروسات، وجودة الرعاية الصحية، وتغطية التطعيمات، والوفيات الإجمالية، والتقدم نحو استئناف السفر، فإنه يوضح كيف يستجيب أكبر 53 اقتصاداً في العالم لنفس التهديد الذي يحدث مرة كل جيل.
إليكم منهجية "بلومبرغ" المفصلة لتصنيف مرونة تعامل الدول مع "كوفيد"
تراجعت المخاوف بشأن متحور "أوميكرون"، أكثر سلالات الفيروس مراوغةً للمناعة حتى الآن، وسط أدلة على أن تأثيره كان أخف - خاصة بين أولئك الذين تم تطعيمهم وتلقوا جرعات معززة. وصعد تصنيف بعض من أوائل البلدان التي عانت من متحور "أوميكرون" عقب ظهوره، مثل جمهورية التشيك وجنوب أفريقيا، هذا الشهر مع تباطؤ معدل زيادة الإصابات دون التسبب في حالات وفاة على نطاق واسع واضطرابات.
يبدو أن مواصفات متحور "أوميكرون" بأنه "معدي لكن معتدل" قد سرّع النقاش العالمي حول علاج كوفيد-19 مثل الإنفلونزا. فمن إسبانيا إلى اليابان، تتزايد الدعوات إلى اعتبار العدوى أنها شيء مألوف ويمكن السيطرة عليه.
لا تزال الاستثناءات الأكثر وضوحاً هي الصين وهونغ كونغ، اللتان لا تزالان تخضعان لاستراتيجية "صفر كوفيد" الانفعالية بشكل متزايد.
في يناير، هبطت هونغ كونغ 9 مراكز، حيث تسببت مجموعة من حالات متحور "أوميكرون" في قيام الحكومة بفرض عمليات إغلاق جزئية، وحشرت المسافرين في معسكرات الحجر الصحي، وعلقت الرحلات الجوية، وأعدمت حيوانات الهامستر الأليفة. في الوقت الذي تشهد فيه الصين تفشي مفاجئ لكل من متحور "دلتا" و"أوميكرون" هذا الشهر، دعت الناس إلى حدّ تحركاتهم قبل عطلة رأس السنة القمرية الجديدة. ورغم ذلك، صعدت 10 مراتب في التصنيف في شهر يناير، حيث ظل الاضطراب الاجتماعي والاقتصادي محدوداً بين تعداد سكانها الهائل مقارنة بالدول الأخرى الأكثر تضرراً.
غورغييفا: حان الوقت لتغّير الصين سياسة "صفر كورونا"
يلعب معدل التطعيم الكامل المنخفض نسبياً في هونغ كونغ -والبالغ 64%- وتوظيف الصين للجرعات الأقل فاعلية، دوراً في اتباعهم نهجاً حذراً، حيث لا يزال التطعيم يمثل أحد العوامل الرئيسية في التصنيف.
من جهة أخرى، تراجعت الولايات المتحدة 11 مركزاً إلى المرتبة الـ23 في شهر يناير مع زيادة حالات الإصابة بمتحور "أوميكرون"، وارتفعت الوفيات فيها أكثر من مثيلتها في أوروبا - ويرجع ذلك على الأرجح إلى انخفاض معدل التطعيم حيث أن التفويضات الوطنية الشائعة الآن للتطعيم الإلزامي في جميع أنحاء أوروبا لم يتم تفعيلها على نطاق واسع في أكبر اقتصاد في العالم.
فيروس "أوميكرون" يختبر مرونة الاقتصادات الأوروبية في مواجهة الإغلاق
ومرة أخرى، تراجعت الفلبين إلى المركز الـ 53 الأخير بين الاقتصادات المُصنفة، وهو المركز الذي احتفظت به لثلاثة من الأشهر الخمسة السابقة. فلا تزال الصعوبات في إدارة حملات التطعيم في المناطق النائية تشكل نقطة ضعف، حيث تشهد البلاد زيادة في متحور "أوميكرون" أسوأ من دول جنوب شرق آسيا الأخرى مثل ماليزيا وإندونيسيا وتايلاند.
في يناير، أحدثت الرؤية الأكثر وضوحاً للتوقعات الاقتصادية للبلدان في هذا العام هزة في التصنيف. تم تحديث "معيار نمو الناتج المحلي الإجمالي" ليعكس التوقعات الكاملة لعام 2022 لأول مرة، مما يرفع من نتائج الأسواق الناشئة في جنوب شرق آسيا والشرق الأوسط مقارنة بالأسواق الغربية المتقدمة.
حدثتْ تحولات كبيرة خلال شهر يناير، منها تصاعدية:
ومنها هبوطية:
بهدف تحديد أي من الاقتصادات الـ 53 نجحت في إعادة فتح أبوابها - وهو أحد جوانب إدارة الجائحة الذي تتزايد أهميته- فإننا نُركّز على مدى تقدمها في التطعيم، وشدة عمليات الإغلاق والقيود المعمول بها، بالإضافة إلى مقياسين لتتبّع السفر تم تقديمهما في يونيو الماضي. وبمجملها تُشكّل هذه العوامل مقياساً يُقيّم مدى بُعد كل دولة عن مستويات الحياة الطبيعية قبل كوفيد.
وعلى الرغم من هذا التركيز على إعادة الفتح، تظل المؤشرات التي كانت دوماً جزءاً من تصنيف المرونة قائمة، مع ترجيح جميع نقاط البيانات الاثنتي عشرة بالتساوي. وتتضمن علامة التبويب "حالة كوفيد" مؤشرين مرتبطين بالوفيات، هما: معدل وفيات الحالات خلال الأشهر الثلاثة الماضية، وقياس الوفيات الإجمالية خلال الجائحة بأكملها. وهذا يعني أن امتلاك الولايات المتحدة لأعلى حصيلة وفيات مسجلة على مستوى العالم ما يزال يُسهم في درجاتها الحالية.
كما تعكس نتائج الدول ذات التصنيف الأعلى عموماً أفضل سيناريو لمعدلات التطعيم المرتفعة، ومستويات الوفيات التي تحت السيطرة نسبياً، وقدرة الطيران على التعافي إلى مستويات ما قبل الجائحة، والقليل من قيود السفر على الأشخاص الحاصلين على اللقاح.
الجدير بالذكر أن أوميكرون أثار موجة أخرى من حظر السفر، حيث تحظر هونغ كونغ على سبيل المثال الآن الزوار من النقاط الساخنة للمتحور، بما في ذلك الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، مما أدى إلى تراجعها في يناير. في حين تراجعت الهند مركزاً واحداً لأنها تفرض الحجر الصحي المنزلي لمدة سبعة أيام على الأقل لجميع الوافدين الدوليين، مع إخضاع المسافرين من البلدان الخطرة لاختبار عند الوصول يتحمّل تكلفته المسافر.
أما في دول أخرى، فيبدو أن الحدود التي أُعيد فتحها موجودة لتبقى، حيث واصلت الاقتصادات الأوروبية، والولايات المتحدة، ودولة الإمارات العربية المتحدة تسجيل درجات عالية في مؤشر مسارات السفر للحاصلين على اللقاح لأنها ما تزال تسمح بالدخول بدون الحجر الصحي للزوار الحاصلين على اللقاح من مجموعة واسعة من الدول. كما تعمل سنغافورة، وأستراليا، ونيوزيلندا على الابتعاد عن استراتيجيات "صفر كوفيد"، وتُخفّف القيود على الحدود بشكل تدريجي.
وهذا يعني أننا نشهد اتساعاً في الهوة بين الدول المغلقة وبقية العالم. حيث تُسجّل أجزاء من آسيا والمحيط الهادئ، والتي حققت نجاحاً على مدار العامين الماضيين في عزل كوفيد والقضاء عليه من خلال فرض قيود حدودية صارمة والحجر الصحي - مما أدى إلى انخفاض عدد الوفيات - نتائج سيئة عند إعادة الفتح. وتشمل الدول الثمانية في التصنيف التي ما تزال تمنع معظم السياح الأجانب، وتقع جميعها في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، البر الرئيسي للصين، حيث يُعدّ معدل الوفيات الإجمالي من بين أدنى المعدلات في العالم.
يُشار إلى أنه على الرغم من تطعيم حوالي 89% من سكانها البالغ عددهم 1.4 مليار نسمة بجولة لقاح أولية، ونشر الجرعات المعززة، ما تزال حدود الصين الدولية مغلقة فعلياً. وقد شهدت قيوداً محلية على السفر وإجراءات احتواء مستهدفة ولكن مكثفة استجابة لموجات انتشار صغيرة للفيروس، إلا أن الدولة ما تزال تُحقّق نتائج جيدة في تعافي قدرة الطيران بسبب سوقها الداخلي الكبير.
أبوظبي تشترط تلقي جرعة اللقاح الداعمة على القادمين إليها
وتجدر الإشارة إلى أن الأرقام التي قدمتها شركة "أو أيه جي" (OAG) المتخصّصة في بيانات الطيران تكافئ الاقتصادات الأكبر، حيث تُعوّض الرحلات الداخلية عن غياب السفر العالمي. وعلى العكس من ذلك، فإن الاقتصادات الصغيرة التي تعتمد على السفر، مثل هونغ كونغ وسنغافورة، والتي ليس لديها أسواق طيران محلية، تُسجّل نتائج تُعدّ من بين الأسوأ.
كان التطعيم هو المجال الذي عوضت فيه أماكن مثل أوروبا والولايات المتحدة أخطاءها إبان المرحلة الأولى من احتواء كوفيد. قبل الشتاء الحالي، تحسنت مراكزهم في التصنيف في أوائل الصيف- كانت الولايات المتحدة تحتل المرتبة الأولى، وفي يونيو - حيث أثبت الاستثمار في البحث والتركيز على إطلاق اللقاح سريعاً، أهمية محورية. شهدت "عملية السرعة القصوى" استثمار حوالي 18 مليار دولار لتطوير بعض أكثر لقاحات كوفيد فعالية والتي يتم استخدامها حالياً في جميع أنحاء العالم.
الفائزون والخاسرون في مؤشر "بلومبرغ" للتعامل مع كورونا خلال عام
تتمتع الاقتصادات التي تحركت مبكراً لتأمين الجرعات وإطلاقها بميزة تلقيحها في الغالب بلقاحات "الحمض النووي الريبوزي المرسال" (mRNA)، والتي يبدو أنها لا تمنع الشخص من تطور كوفيد فحسب، بل تقلل من فرص الإصابة به ونقله أيضاً.
مع إثبات أن معظم اللقاحات أقل فاعلية إلى حد ما ضد سلالة دلتا الأشد فتكاً، وظهور أدلة على أن المناعة تتضاءل بعد ستة أشهر من الحصول على اللقاح، فإن العديد من هذه البلدان ذات معدلات التغطية المرتفعة تعمل على توسيع نطاق حملات التطعيم - وتطرح جرعات معززة للبالغين بالإضافة إلى توسيع التحصين ليشمل صغار في السن.
أدى تفشي أو وصول المتحور أوميكرون، الذي يبدو أنه يتجنب اللقاحات بشكل أفضل من أي متحورات سابقة أخرى في الدراسات الأولية، إلى زيادة سباق شحن الجرعات المعززة، حيث خفّضت الحكومات الفترات الفاصلة بين الجرعتين الثانية والثالثة إلى أقل من ثلاثة أشهر واندفعت لطلب المزيد من الجرعات.
ما تزال الكثير من دول العالم النامي متأخرة في معدلات التطعيم. بعد الفشل في شراء إمدادات كافية معظم 2021 ، تتوفر الجرعات حالياً، لكن تكافح الحكومات من الفلبين إلى نيجيريا لتوزيعها بسبب مشاكل لوجستية.
يؤدي ضعف البنية التحتية الصحية، ونقص الموظفين المدربين، والصعوبات في الوصول إلى سكان الريف إلى إبطاء توزيع اللقاحات في الأماكن الأكثر فقراً.
قالت منظمة الصحة العالمية إن 20 دولة في القارة الأفريقية معرضة بشكل كبير لخطر عدم تحقيق هدف تطعيم 70% من سكانها في وقت لاحق من هذا العام - تم تلقيح 9.5% فقط من سكان أفريقيا البالغ عددهم 1.3 مليار حتى الآن – وتقوم بإرسال الخبراء إلى الأماكن الأكثر ضعفاً لتقديم المساعدة.
لقد مرّ أكثر من عام منذ إطلاقنا لأول مرة تصنيف بلومبرغ "مرونة التعامل مع كوفيد " في نوفمبر 2020. في حين أنه مجرد لمحة في الوقت المناسب وسط أزمة سريعة التحرك، فقد بلْور من خلال 15 إصداراً بعض الدروس طويلة الأجل من الوباء.
يوفر تصنيف بلومبرغ "مرونة التعامل مع كوفيد"، لمحة سريعة عن كيفية انتشار الوباء في 53 اقتصادا رئيسيا في الوقت الحالي.
من خلال تصنيف معايير إعادة الفتح وإحياء السفر عالمياً اعتبارا من منتصف 2021، نفتح أيضاً نافذة على كيفية تحرك الاقتصادات في فترة ما بعد الوباء.
إنه ليس حكماً نهائياً، لا يمكن أبداً أن يكون كذلك، نظراً لأوجه القصور في بيانات الفيروسات واللقاحات والوتيرة السريعة لهذه الأزمة. تلعب الظروف والحظ الخالص دوراً أيضاً، لكن يصعب تحديدها.
مع ذلك، بعد أن تحملت أكثر من عامين من مكافحة كوفيد-19، أصبح لدى الحكومات والسكان الآن فهم أفضل لمسببات الأمراض وكيفية التخفيف من الأضرار التي تسببها.
مع عزم المزيد من البلدان على التعايش مع الفيروس والخروج من ظروف الأزمة التي حددت معالم الكثير من الحياة العامة منذ أوائل 2020، قد يكون الضوء في نهاية نفق الوباء أقوى.