الصيادلة.. ضحايا الوباء الذين لا نعرف معاناتهم

الصيدلانية جينيفر مورو تركت عملها في صيدلية "سي في إس" بسبب ما وصفته بأنه عبء عمل خطير
الصيدلانية جينيفر مورو تركت عملها في صيدلية "سي في إس" بسبب ما وصفته بأنه عبء عمل خطير المصدر: بلومبرغ
المصدر: بلومبرغ
تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

تقول جينيفر مورو، إنَّها فكرت لأول مرة في ترك وظيفتها كصيدلانية في صيدليات "سي في إس" (CVS) الواقعة بالقرب من مدينة بينغهامتون بولاية نيويورك في أكتوبر الماضي، بعد أن أُسند إليها في أحد الأيام العمل في أحد الفروع التي نادراً ما كانت تعمل بها، وعندما وصلت، اكتشفت أنَّها ستكون الصيدلانية الوحيدة الموجودة على مدار اليوم، ولن يكون هناك فني أو أمين صندوق للمساعدة أيضاً.

كان الوباء متفشياً. وكانت الهواتف ترن باستمرار، وتتراكم الوصفات الطبية التي تحتاج إلى صرف، في حين كانت توجه مورو اهتمامها نحو إعطاء لقاحات كوفيد-19 ولقاحات الإنفلونزا. وما كادت أن تحل الساعة الرابعة مساءً، حتى وجدت مورو نفسها متأخرة عن تأدية المهام بساعات، وكانت تشعر بإنهاك وإرهاق، وتخشى من ارتكاب أخطاء عند تحضير الوصفات، لذلك أغلقت الصيدلية مبكراً مما أجبر العملاء على البحث عن متاجر أخرى.

كنا نصفق لفرق التمريض.. والآن نتركهم يُستنزفون

لم يمضِ وقت طويل بعد ذلك اليوم، حتى تركت مورو العمل لدى صيدليات "سي في إس" الذي استمرت به لمدة ثمانية أعوام قبل أن تتدهور ظروف عملها.

تقول مورو: "كنت أردد الدعاء قبل الذهاب إلى العمل فأقول: "يا رب من فضلك دعني أساعد شخصاً ما اليوم"، لكن هذا المعطف الأبيض كان يصبح أثقل عليَّ كل يوم، وتغيرت صلاتي إلى: "أيها القدير، فقط لا تدعني أقتل أي أحد اليوم".

ضغوط كبيرة

تواجه سلاسل الصيدليات الكبرى في مختلف أنحاء البلاد ضغوطاً في ظل التفشي المستمر للوباء، ولا أحد يعاني أكثر من العاملين في الخطوط الأمامية. إذ يكافح أصحاب الصيدليات لتزويد الفروع بالموظفين الذين عانى بعضهم من متحور "أوميكرون"، في حين فرّ آخرون لشغل وظائف جديدة.

كان العملاقان، "سي في إس هليث" (CVS Health Corp.)، و "والغرينز بوتس" (Walgreens Boots Alliance)، يواجهان تحديات هائلة حتى قبل تفشي الوباء، إذ كانت شركات التأمين تقلّص أرباحهما، بالتزامن مع تأثير "أمازون" وغيرها من مواقع التجارية الإلكترونية عليهم، فقد كانت تشحن وصفاتهم الطبية بدلاً عنهم. ومن ثم، حصل الارتفاع المفاجئ غير المتوقَّع في إيرادات اللقاحات والاختبارات- فقد سجلت صيدليات "سي في إس" وحدها أرباحاً بقيمة 3 مليارات دولار في عام 2021- وساعد هذا في تخفيف الضغط عن هذه الشركات، لكنَّ نقص العمالة ظل يشكل تحدياً.

وحتى قبل ظهور أوميكرون، كان الموظفون في الصيدليات منهكين ومرهقين. وفي الوقت الحالي؛ أدى إنهاك العاملين في بعض مناطق البلاد، إلى إجبار المتاجر على خفض ساعات عمل الصيدليات، أو الإغلاق لعدة أيام في كل مرة.

نقص العمالة

تحدثت "بلومبرغ" مع عشرات الصيادلة الحاليين والسابقين، فضلاً عن الفنيين في شركتي "والغرينز"، و "سي في إس"، الذين طلب معظمهم عدم الكشف عن هويتهم خشية الانتقام. كما استجاب المزيد من الصيادلة لطلب "بلومبرغ" بتقديم تقارير عن الوضع الحالي عبر البريد الإلكتروني والرسائل النصية، موضِّحين بالتفصيل أعباء العمل الهائلة في المتاجر التي يقل بها عدد الموظفين.

تعرض صفحة الوظائف على الموقع الإلكتروني لصيدليات "سي في إس" حوالي 4 آلاف فرصة عمل للصيادلة على الصعيد الوطني، في حين يعرض الموقع الإلكتروني لـ "والغرينز" أكثر من 15 ألف وظيفة صيدلي متاحة. وهذه الأعداد تعتبر مرتفعة بشكل غير معهود بالنسبة للوظائف ذات الأجور السنوية التي تبلغ في المتوسط نحو 129 ألف دولار، بحسب مكتب إحصاءات العمل الأمريكي.

وجد استطلاع أجرته الجمعية الأمريكية للصيادلة في شهري ديسمبر ويناير، أنَّ 78% من الصيادلة يعانون من الإرهاق بسبب أعباء العمل، بزيادة من نسبة 22% قبل الوباء. وقال نصف المستطلعين تقريباً، إنَّ ساعات عملهم قد زادت، لكنَّ 12% منهم فقط قالوا إنَّهم تلقّوا زيادة في الأجور.

ليس الصيادلة فقط

تقول تريشيا غاليانو، كبيرة الفنيين في "سي في إس" في مدينة فيستا بولاية كاليفورنيا: "الأمر يؤثر عليك جسدياً وعقلياً أيضاً". إذ يقوم الفنيون بكل شيء بدءاً من تعبئة رفوف الأدوية، والرد على مكالمات الأطباء، وحتى فحص التأمين والعمل على تسجيل الطلبات. ومن هذا المنطلق، أوضحت غاليانو: "العمل في صيدلية بشكل عام ليس بالسهولة التي يعتقدها الناس".

يضم المتجر الذي تعمل به غاليانو حالياً، نصف الفنيين الذين كانوا موجودين به عندما بدأ الوباء. وظلت الوظائف المتاحة شاغرة لعدة أشهر، مما يعني أنَّ غاليانو، فضلاً عن زملائها، يضاعفون العمل في معظم الأيام، وتزيد هذه الساعات عند زيادة الإصابات بفيروس كوفيد.

وفي جميع أنحاء الولايات المتحدة؛ تنشر "والغرينز" ما يقرب من 16 ألف وظيفة للفنيين الصيادلة، في حين لدى "سي في إس" ما يقرب من 10 آلاف وظيفة مفتوحة، وتقدّم كلتا الشركتين مكافآت تسجيل على مواقعهما الإلكترونية.

ماذا يعني هذا للعائدات؟

استحوذت مبيعات الصيدليات في الولايات المتحدة على ما نسبته 85% من عائدات شركة "والغرينز" البالغة 132.5 مليار دولار خلال العام الماضي، في حين تأتي النسبة المتبقية من أعمالها التجارية الدولية. وبالنسبة لـ "سي في إس"؛ فإنَّ الصيدليات تمثل أقل بقليل من ثلث إيراداتها البالغة 268.7 مليار دولار في عام 2020، وهي السنة الأخيرة التي أعلنت فيها النتائج السنوية للشركة، التي تمتلك أيضاً شركة إدارة للصيدليات، وشركة تأمين صحي.

برغم أنَّ الصيدليات تلعب دوراً أصغر من الناحية المالية في "سي في إس"، لكنَّها

مازالت ذات أهمية كبيرة بالنسبة لاستراتيجية الشركة "لإعادة تصور الرعاية الصحية"، إذ يشير المديرون التنفيذيون في الشركة إلى أنَّ المتاجر تمثل البوابة الرئيسية لعلامتها التجارية.

وأرجعت شركة "والغرينز" تراجع أداء الوصفات الطبية الخاص بها في ربعها السنوي الأخير جزئياً إلى مشكلات التوظيف، بما في ذلك انشغال الموظفين إلى حد لا يسمح لهم بإجراء مكالمات هاتفية لتفقد المرضى. ولمواجهة ما وصفه المدير المالي للشركة جيمس كيهو "بمستوى عالٍ من الإجهاد في النظام"؛ أعلنت "والغرينز" في يناير أنَّها ستنفق ما يصل إلى 120 مليون دولار لزيادة الأجور.

العلماء مختلفون حول معنى كورونا "المستوطن"

في الوقت نفسه، تقول السلسلتان، إنَّهما تشعران بمحنة الموظفين أثناء الوباء، وقد وظفتا عشرات الآلاف من الأشخاص، وقدّمتا لهم مكافآت، ورفعتا الحد الأدنى للأجور إلى 15 دولاراً.

يقول مايكل دي أنغليس، المتحدث باسم "سي في إس": "سلامة المرضى هي أولويتنا الأهم. والقرارات المتعلقة بالتوظيف، وساعات العمل، وسير العمل، والتعزيزات التكنولوجية وغيرها من عوامل التشغيل تُتخذ لضمان توفّر مستويات مناسبة من التوظيف لدينا".

تخفيف الأعباء

على غرار ذلك، تقول شركة "والغرينز"، إنَّها تعدل عملياتها لتخفف العبء الإداري على الصيادلة، فضلاً عن أنَّها دربت الآلاف من فنيي الصيدليات على إدارة التطعيمات لتخفيف الأعباء التي يواجهها الصيادلة.

يقول فريزر إنغرمان، المتحدث باسم "والغرينز": "يعمل موظفو صيدلياتنا بلا كلل للمساعدة في تلبية احتياجات مرضانا وعملائنا". وتابع: "نحن ندرك تماماً، ونقدّر الدور الحاسم الذي يواصلون لعبه كجزء من جهود التصدي للوباء. ونعترف أيضاً ببعض التحديات التي تواجه أعضاء فريقنا في البيئة الراهنة".

مع ذلك، ما يزال نقص العمالة مستمراً، كما أنَّ عدداً قليلاً من الولايات تملك سجلات توضح كيفية تأثير أزمة العمالة على أرض الواقع. وفي ولاية مين، منذ سبتمبر خفّض 13 متجراً من أصل 80 تتبع لشركة "والغرينز"، ساعات عمل قسم الصيدلية بسبب مشكلات التوظيف، بحسب تقارير الشركة المقدّمة إلى مجلس الصيدلية بالولاية الأمريكية.

أما في بلدة بوكسبورت الساحلية، التي تبعد بضع ساعات شمال شرق بورتلاند، غالباً ما يتم إغلاق صيدلية "والغرينز" المحلية أثناء ساعات العمل العادية، بحسب ما تقول ساره ويلي، وهي ممرضة في "مركز بوكسبورت الإقليمي الصحي". وبسبب ذلك لم تستطع إحدى مرضى ويلي الحصول على عبوة من عقار "إفكسور"، وهو مضاد للاكتئاب، مع العلم أنَّ عدم تناول الدواء يمكن أن يسبب أعراض انسحاب مؤلمة، في حين لم يحصل مرضى آخرون على أدوية ضغط الدم أو عقار "سوبوكسون"، وهو عقار معالج لإدمان الأفيون.

شكاوى العملاء

لا توجد سوى صيدلية واحدة أخرى في بلدة باكسبورت، في حين تقع الصيدليات الأخرى على بعد نصف ساعة تقريباً بالسيارة، مما يشكل تحدياً للسكان في المجتمعات الريفية الفقيرة، بحسب ما تقول ويلي. وتضيف: "ما قد يبدو وكأنَّه ليس أمراً مهماً كقيادة السيارة لمدة نصف ساعة، يعد بالفعل مسألة كبيرة بالنسبة لكثير من الناس الذين يعيشون هناك".

في ولاية ميسوري، قال مجلس الصيادلة في نشرته الإخبارية لشهر ديسمبر، إنَّ المنظّمين يتلقّون عدداً "مقلقاً" من الشكاوى والمكالمات المتعلقة بظروف العمل في الصيدليات.

وبدون تسمية المتاجر؛ وصف المجلس من خلال مفتشيه الذين كانوا يراقبون الصيدليات مؤخراً، تراكم أكوام من الوصفات الطبية المتأخرة لعدة أيام، في حين ينشغل موظفو الصيدليات بإعطاء اللقاحات، وإجراء الاختبارات، والرد على الهواتف، مع تقديم مساعدة محدودة أو عدم تقديمها على الإطلاق.

في الصيف الماضي، أشعلت بليد تانو، وهي صيدلانية تبلغ من العمر 34 عاماً في "والغرينز" بأوكلاهوما سيتي، وسائل التواصل الاجتماعي بعد أن طالبت بتقديم ظروف عمل أفضل. ويشير شعارها الذي استخدمته: "البيتزا لا تعمل"، إلى لحظة كانت تخطط فيها لطلب البيتزا بغرض مواساة زميلها الفني الذي كان يشعر بالإرهاق والقلق. ومن ثم، أدركت أنَّ هذا لم يكن الحل، وأنَّه لا يمكنها إصلاح الظروف، لا لنفسها، ولا حتى لطاقم عملها؛ لذلك قدّمت استقالتها بعد بضعة أسابيع.

تقول تانو: "شعرت أني وُضعت في مكان يمكنني بسببه أن أضرّ بمريض". وتابعت: "عندما يجد الفنيون والصيادلة أنفسهم في هذا الموضع، سواء كان لديهم عمل آخر، أم لا؛ فإنَّهم يغادرون، لأني إذا عرّضت المريض للخطر، فلن تكون رجعة عن ذلك".